عرف العالم العربي مؤسسات التعليم العالي في وقت مبكر، ممثلة في جامع الزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، والجامع الأزهر في مصر، ولم يكن هذا مستغرباً من أمة مبدأ حضارتها كلمة "اقرأ"، غير أن هذه العراقة لم تشفع لها في مواجهة التسارع الشديد لنمو البحث العلمي والتعليم العالي في العقود الأخيرة. فقد غداً العالم اليوم يراهن على مقدرة التعليم العالي على التغيير وتحقيق التقدم للمجتمعات، وبات يصنفه مع البحث العلمي بصفتهما "عاملين أساسيين في التنمية الثقافية والاجتماعية والبيئية المستدامة للأفراد والمجتمعات والأمم".
ولكن هذه المقدرة تواجهها تحديات وأزمات، بعضها عام على جميع المجتمعات، وبعضها الآخر يخص مجتمعنا العربي؛ نظرا لحداثة التجربة الجامعية (أغلب الجامعات العربية لا يتجاوز عمرها نحوًا من أربعين عاماً)، وجِدة العمل المؤسسي داخل الجامعات من جهة، ومن جهة أخرى للافتقار إلى نظام محكم، يتبنى مفاهيم ويطبقها تطبيقًا صحيحاً، ليقضي على المشكلات قبل أن تستفحل فتقوض كل جهود الإصلاح والتطوير.
وفي الحقيقة أرى من معوقات تطوير التعليم العالي ما هو موجود الآن في بعض المؤسسات من مفاهيم مغلوطة لما يسمى برامج ضمان الجودة، وكونها تعبئة أوراق بالأرقام والنسب دون وجود واقع حقيقي لما تعكسه هذه الأوراق، وخطورة البرنامج الخطأ أشد من خطورة عدم وجود برنامج؛ لأنه يوهم بوجود إنجازات وحلول للمشكلات فيصد عن التفكر في حل حقيقي لها. كما أن التطوير الجزئي حل واقعي، فالتعليم العالي ليس كتلة واحدة، لكنه مكون من عناصر يمكن العمل على تطويرها كل على حدة، خصوصًا في وجود هذا البون الشاسع بين مفرداته، وانفصام العلاقات بين مقوماته -وأعني بها أمورًا كالبحث العلمي، والابتكار، والتدريب.
وهذه العلاقات المنفصمة يظهر أثرها جلياً دون كبير عناء، فمشروعات دعم الابتكار –على سبيل المثال-لن تؤتي ثمارها بمعزل عن صناعة العِلم، وتوفر دراسات أكاديمية، وإرادة سياسية، ودعم مادي مستمر وقوي، وحماية قانونية للأفكار لا ثغرة فيها، وتعاون تجاري وصناعي، ووعي إعلامي، وكلها مكونات أساسية لعملية الابتكار.كذلك مما هو بدهي الخسارة الفادحة المستمرة بوجود البحوث والابتكارات في الأدراج، دون خطة للاستفادة منها صناعيًّا وتنموياً، من هنا نرجو أن تسرع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المصرية بإعداد ما أعلنت عنه في ديسمبر الماضي من استراتيجية دمج الخطط البحثية بالجامعات ومراكز الأبحاث المختلفة، وبحث آليات استفادة القطاع الصناعى منها. أيضاً يظهر التقصير في مجال التدريب بعدم وجود نقطة اتصال بين مؤسسات التعليم العالي وسوق العمل، وفي عالم سريع التغير لن يكون لمخرَجات التعليم العالي قيمة ما لم تتسلح بمعايير سوق العمل، وتندمج مع أحدث المفاهيم العلمية العملية، ولن يكون ذلك إلا بتوفير التدريب الذي هو صورة عملية من البحث العلمي، يشتمل على التفكير الإبداعي وحل المشكلات وتنمية النزعة الابتكارية، أما التعليم التلقيني الذي يهدف إلى حفظ المعلومات أو اكتساب مهارات وظيفية مجردة، فليس له على خريطة المستقبل مكان.
ومن المشكلات التي يجب العمل على حلها: الانتحال العلمي، وهجرة الكفاءات، وتدني حجم الإنفاق. أما الانتحال والتزوير فهي من الظواهر العالمية، ويشير تقرير عن المنشورات المسحوبة قدمته المدونة العلمية Retraction Watch إلى أن أكبر معدل لسحب الأوراق العلمية بسبب الانتحال كان في إيطاليا، بنسبة 66.7%، تليها تركيا بنسبة 61.5%، وإيران وتونس بنسبة 42.9% لكل منهما، وفرنسا بنسبة 38.5%، والصين بنسبة 16.8%، والولايات المتحدة بنسبة 8.5%، وخلو فنلندا وألمانيا. وكانت صحيفة تلغراف قد أعلنت أن 15 ألف مهندس من الراغبين في العمل لدى المملكة قد يكونون حاملين شهادات مزورة، وتم نشر 356 تقريراً في الصحف عن الإخلال بالنزاهة العلمية في الأعوام (2002- 2013)، معظمها في البحوث الطبية وعلم النفس والخلايا الجذعية.
والتغلب على هذه المشكلة يرتبط بتفعيل وسائل الكشف عنها، ووجود القوانين، والعقوبات، وفاعلية تطبيقها. والحل يتضمن خطوات عدة، منها ما اقترحته جامعة الإسكندرية ضمن مبادرتها القومية بإدراج الانتحال العلمي ضمن المقررات الدراسية لطلاب الماجستير والدكتوراة؛ للتوعية بأخطاره وما يترتب على الوقوع فيه من عقوبات، ويجب الحرص على تفعيل هذه العقوبات في جميع المستويات، والتأكد من كونها رادعة؛ فالفساد في الوسط العلمي أشد خطورة من ضعف المستوى أو قلة الإمكانيات. وضمن حل المشكلة أيضًا توسعة قواعد البيانات الخاصة بالبحوث والرسائل العلمية، وإتاحة البحث فيها والوصول إليها لجميع الباحثين وأعضاء هيئة التدريس، وربما كانت تجربة " اتحاد مكتبات الجامعات المصرية" نموذجًا يمكن تعميمه لقاعدة بيانات مؤثرة وقوية، وهذه التوسعة تكمل باعتماد برامج عربية لكشف الانتحال؛ ليصبح رصد حالات مخالفة النزاهة أيسر.
أعذر الذين يخشون التوسع في إتاحة البحوث والرسائل العلمية على الإنترنت، ويبشروننا بأبحاث طلابية من نوعية "قص ولصق"، وبحوث مُنتحَلة للترقية، ورسائل علمية مزيفة، والحق يُقال إن إحكام القوانين والأنظمة، وصناعة الوعي بها لا بد أن يسبق هذا التوسع، كما تسبق قوانينُ المرور وثقافتها تعبيدَ الطرق وتوسيعها. كما أن توسعة قواعد البيانات يلزمها التوافق على معامل التأثير العربي الموحد لجميع الدوريات والمجلات العلمية الصادرة باللغة العربية، الذي يهدف إلى "الكشف عن طبوغرافية البحث العلمي العربي على العموم، في جميع تخصصات المعرفة البشرية"؛ لرصد الأنشطة العلمية البحثية والربط بينها وقياس أهميتها، والنهوض بالتخصصات العلمية على وجه العموم. أما هجرة الكفاءات فتُعَد تحدياً آخر لتطوير التعليم العالي في المنطقة، فحرمان منظومات البحث العلمي في البلاد العربية من جهودهم ومهاراتهم وخبراتهم يعد معوِّقاً للتنمية، وتمثل التجربة الجزائرية لاستعادة الكفاءات العلمية أحد الحلول التي أثبتت قابليتها للتطبيق السريع.
وفي مسألة تدني حجم الإنفاق يكفي أن نعلم أن موازنة البحث العلمي في مصر تدور حول 1% من الموازنة العامة للدولة، وليست المشكلة في ذلك، لكن المشكلة أنها تكاد تنحصر في الرواتب، مع عدم وجود رؤية يمكن إخضاع الإنفاق لها، وعدم اعتماد استراتيجية واضحة للبحث العلمي، بما تتضمنه من ضبط القوانين والإجراءات الإدارية، وتوفير الكفاءات البشرية، والمشكلة بهذه الصورة ليست مشكلة مصرية، لكنها عامة عربيّاً. ولنا أن نعلم أن ألمانيا لا تقتصر في تمويل جامعاتها ومراكزها البحثية على ما توفره الحكومة، بل تُعد المؤسسات المستقلة لدعم البحث العلمي، والشركات الصناعية، مصدرَ تمويل آخر يضاف إلى الميزانية التي تقرها الحكومة الألمانية. لقد خسرت جامعات العالم العربي كثيرًا بعدم وجود برامج مثل برنامج إيراسموس لتبادل الطلبة، وبرنامج ماري كوري للبحث العلمي، وتدعونا تجربة "الفضاء الأوروبي الموحد للتعليم العالي" –التي وضعت نموذجًا موحدًا لأكثر من 46 دولة في ست سنوات – إلى إمعان النظر في حال جامعاتنا، التي ليس بينها رابطة موحدة، لا في مجال التعليم، ولا في مجال البحث العلمي، بل إن موضوعًا مهمًّا كتبادل الرسائل العلمية أو انفتاح قواعد البيانات تعده بعض جامعاتنا معضلة، حتى داخل الدولة الواحدة، وهو ميسور الحل إلى حد كبير.
إن منطقتنا العربية لا تنقصها العقول المستنيرة، ولا الموارد المادية، ولا الإمكانيات التقنية، لكنها بحاجة إلى قرارات سياسية حاسمة، تدعمها جهود مستمرة، في ضوء رقابة محكمة، وتعاون على كافة الأوجه، فهل هو حلم بعيد أن تجمع النهضة العلمية ما فرقته السياسة والاقتصاد؟
المراجع:
التواصل مع الكاتب: تويتر @Saleh_Alshair