قبل عشر سنوات تقريباً وبالتحديد في عام 2006 كان جميع العلماء الذين حصلوا على جوائز نوبل في الطب والكيمياء والفيزياء من حملة الجنسية الأمريكية (وذلك قمة الإعجاز العلمي على قولة سيء الذكر)، اللافت للنظر أنه قبل عدة أشهر تم الإعلان عن جوائز نوبل في المجالات العلمية لعام 2015 ومن ضمن العلماء الثمانية الحاصلين على هذه الجائزة المرموقة، واحد فقط من ذوي الأصول الأمريكية. تراجع وتقهقر كبير للأبحاث العلمية والتقدم التقني الأمريكي وهذا ولا شك إن استمر سوف يكون له أثر كارثي على مستقبل الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين حيث (تكون أو لا تكون فيه سيدة العالم .. ذلك هو السؤال).
في العلم كما في السياسة نجد أن تنافس الأقران (وسباق التسلح العلمي) عملية مرهقة ومكلفة اقتصادياً وذهنياً، ولهذا في العقود الأخيرة، دخلت الأمة الأمريكية حرب شرسة متعددة الجبهات سياسياً مع كتلة الاتحاد السوفيتي، واقتصادياً مع الدول الأوروبية، وعلمياً وتقنياً مع اليابان، وحالياً مع الصين وكوريا، وهذا من شأنه أن يستنفذ قوى ومجهود الأمة الأمريكية، كما لاحظ ذلك من قبل المتنبي عندما حذر من التكلفة العالية للسيادة (الجود يُفقر .. والإقدام قتّالُ).
وعلى سبيل المثال، لشراسة التنافس العلمي بين الولايات المتحدة والدول الآسيوية الناهضة للحاق بركب الغرب، ذكرنا أنه في عام 2006 كان كل العلماء الذين حصلوا على جوائز نوبل العلمية من الأمريكان لكن سرعان ما وصل الرد الآسيوي حيث فاز في عام 2008 أربعة علماء يابانيين بجائزة نوبل في المجالات العلمية وهم تقريباً نصف عدد العلماء الفائزين في ذلك العام. الجدير بالذكر أن عدد العلماء اليابانيين الذين فازوا بجوائز نوبل منذ انشاء تلك الجائزة قبل 115 سنة كانوا حوالي 19 عالم، والأمر الصاعق والمؤشر القوي على قوة التنافس الياباني الحالي أن أحد عشر عالماً منهم حصلوا على جائزة نوبل في العشر سنوات الأخيرة. بمعنى أنه خلال قرن من الزمان لم يفز إلا تسعة من العلماء اليابانيين بجائزة نوبل بينما (وبسبب اشتعال سباق التسلح العلمي بين الشرق والغرب) في العشر سنوات الأخيرة فاق عدد العلماء اليابانيين الفائزين بالجائزة عدد من سبقوهم للمجد.
نفس ظاهرة تزايد عدد العلماء الصينيين الحاصلين على جائزة نوبل العلمية آخذه في التشكل والتبلور خلال السنوات الماضية، لكن الأهم من ذلك أن التنين الصيني المحلق في سماء العلوم سوف يبتلع النسر الأمريكي (الأصلع والبشع !!) في مجالات علمية أخرى أكثر خطورة وإيلاماً من التنافس على جوائز نوبل. الأرقام الرسمية الدولية المتداولة تشير إلى أن الصين في عام 2013 لم تتفوق على الولايات المتحدة في عدد براءات الاختراع المسجلة ولكن الفارق بين الدولتين أصبح محرجاً جداً للولايات المتحدة والتي تحل في المركز الثالث عالمياً بتسجيلها حوالي نصف مليون براءة اختراع بينما الصين التي تحتل المركز الأول تتفوق عليها بحوالي ربع مليون براءة اختراع (734 ألف براءة اختراع للصين والأمريكان 501 ألف براءة اختراع لمن أراد الدقة).
ومن جانب آخر، نجد أنه قبل عشر سنوات فقط، كانت الولايات المتحدة تنشر سنوياً من الأبحاث العلمية حوالي 482 ألف بحث وهو ما يساوي تقريباً ثلاثة أضعاف عدد الأبحاث العلمية التي كانت تنشرها الصين. وكان ذلك فيما مضى وبقاء الحال من المحال، فقد تقلّص هذا الفرق بدرجة خطيرة على الأمريكان عام 2014 لتتغير نسبة الاختلاف بين الدولتين من 300% قبل عشر سنوات إلى 12% فقط (عدد الأبحاث الأمريكية 552 ألف في حين عدد الأبحاث الصينية 452 ألفاً). وعلى هذا المقياس تشير التوقعات إلى أنه خلال الأشهر القليلة القادمة سوف يتفوق الأقزام الصينيون على عمالقة الشمال الأمريكان في عدد الأبحاث العلمية المنشورة. وكما يقال أن المصائب لا تأتي فرادى على أم رأس العم سام، فبعد أن كانت الولايات المتحدة (أرض الأحلام) وجنة المخترعين والموهوبين وموطن جذب لعلماء الخارج، أشار تقرير أعدته أكاديمية العلوم القومية الأمريكية أنه من المتوقع أن (يهاجر) حوالي مائتين ألف شاب أمريكي للدراسة في خارج البلاد لا سيما في مجالات العلوم والهندسة بعد أن كان الشباب الأمريكي يتحمل فقط وعثاء السفر للخارج لدراسة الأدب والقانون والفنون. وهجرة العقول الشابة الأمريكية للدراسة في الخارج طعنة نجلاء في الظهر للجامعات الأمريكية التي ما زالت تتفاخر بتربعها على عرش تصنيف الجامعات الدولية مثل تصنيف شنغهاي وتصنيف QS وتصنيف التايمز.
الأمريكان (أمه في خطر) كلاكيت ثاني مرة
ولنعد الآن إلى تساؤلنا المطروح في عنوان هذا المقال والذي يمكن إعادة صياغته كالتالي: هل التراجع والتقهقر المتواصل والمخجل لنصيب العلماء الأمريكان في جوائز نوبل ينبغي أن يجعل الأمة الأمريكية تهب مرة جديدة وهي تصرخ (نحن أمه في خطر)؟ أم أن الأمر أهون من ذلك وليس إلا حالة تشفى من المفاليس أمثالنا (بالعثرة والكبوة) في مسيرة المجد العلمي الأمريكي المؤثل. ينبغي أن لا ننسى أن التقرير الشهير أمه في خطر A Nation at Risk الصادر عام 1983 كان بكل بساطة تعبيراً عن حالة القلق من أنه وبالرغم من قوة التقدم العلمي الأمريكي، إلا أن قاعدة الوقاية خير من العلاج تضطر رجالات التربية الأمريكان ليحذروا أمتهم ببواكير ضعف التعليم العام وأن جيل (الأبناء الأمريكان) أضعف علمياً من جيل (الآباء الأمريكان). فإذا كان عقلاء وحكماء الأمريكان استشعروا خطورة أن تقل جودة تعليم أبنائهم عن جودة تعليمهم هم، فالمصيبة الأخطر الآن واضحة لكل ذي عينين أن بواكير وإرهاصات ضعف العلماء والمخترعين أصبحت تقارن مع منافسيهم من الشرق والغرب.
من البديهيات المقررة لذوي الأفهام والادراك أن القوة السياسية والعسكرية قائمة بشكل بنيوي وكلي على القدرة والملاءة الاقتصادية (فكرة كتاب صعود وسقوط الدول لكينيدي)، والاقتصاد طبعاً قائم بالدرجة الأولى على الصناعة والاختراع. ويوماً بعد آخر تتوالى الدراسات والتقارير التي تشير بشكل صريح إلى أن الولايات المتحدة دخلت مرحلة ما يمكن تسميته (التخلف التقني) بالمقارنة مع الدول المتقدمة مثل ألمانيا واليابان وحتى الصين. وحسب الاحصائيات المنشورة على الموقع الالكتروني للبنك الدولي نجد أن قيمة الصادرات من التقنية المتقدمة High-Tech للصين خلال الخمس سنوات الأخيرة (560 ترليون دولار) وهي تقريباً أربعة أضعاف قيمة الصادرات الأمريكية (147 ترليون دولار)، وهذه نتائج غريبة جداً، حيث الصورة النمطية أن الصين متفوقة في التجارة الدولية للصناعات التقليدية وليس الصناعات المتقدمة، وفي هذا السياق نفهم لماذا كانت الصين وليس أمريكا هي من صنع أسرع كومبيوتر فائق في العالم.
من هذا وذلك وبتوظيف حقيقة أن النمو الاقتصادي للدول الكبرى يعتمد بشكل محوري على اقتصاد المعرفة الناتجة من الابتكار والبحوث العلمية، فلهذا لا غرابة أن يطلق المجلس القومي الأمريكي للاستخبارات صرخات التحذير الصاخة في تقرير خاص (يتنبأ) بأن النفوذ السياسي والاقتصادي الأمريكي قد يتراجع بحلول عام 2025 ميلادية. وهذا يصدّق ما قد قيل في السابق، بأن نتائج جوائز نوبل يمكن أن يستشف منها مستقبل السياسة الدولية ومتغيرات موازين القوى في عالم الدول المتطاحنة والمتنافسة دوماً.
بريد الكاتب الالكتروني: ahalgamdy@gmail.com