لماذا يعاني خريجي التكنولوجيا الحيوية من شبح البطالة في بلادنا على الرغم من أن وظائفها تُعتبر من أسعد الوظائف في العالم المتقدم؟! يعاني خريجي التكنولوجيا الحيوية في الوطن العربي من شبح البطالة على الرغم من أن وظائفها تُعتبر من أسعد الوظائف في الولايات المتحدة الأمريكية، والعديد من الدول الأوربية، ليس فقط لأجرها العالي، بل لكونها أيضا واحدة من الوظائف التي تكفل التطور والترقية السريعة، وتفتح مجالات علمية وبحثية واسعة للحاصل على درجة علمية عليا في هذا التخصص. وعلى الرغم من الاهتمام غير المسبوق بهذا التخصص العلمي الحديث في العالم العربي، فقد ظهرت على الساحة العربية العديد من المشكلات التي دفعت الخريجين للقيام بتظاهرات، ووقفات احتجاجية، وهي ظاهرة غير مسبوقة في الدول التي لا تسمح بوجود مثل هذه التظاهرات.
في الوقت الذي كانت تحتفل فيه الدكتورة منة الله الصير في خريجة كلية الصيدلة والبيوتكنولوجي (التكنولوجيا الحيوية) بالجامعة الألمانية في القاهرة بتعينها في مدينة زويل المصرية بعد حصولها على درجة الدكتوراه في البيولوجيا الجزيئية من جامعة هايدلبرغ الألمانية، كانت تعاني سارة السبيعي خريجة أول دفعة في مجال التقنية الحيوية بجامعة الطائف في نفس السنة (عام 2010م) والآلاف من زميلاتها من شبح البطالة؛ حيث لم يتم توظيف واحدة منهن حتى يومنا هذا. والدكتورة منة الله واحدة من الخريجات اللاتي أثبتن وجودهن في هذا المجال البحثي الذي يعد واحدا من التقنيات ذات الأثر البالغ في مستقبل البشرية والذي أسهم في تحقيق تطورات نوعية مهمة وعديدة أثرت في النمو الاقتصادي العالمي قبل نهاية القرن الحالي. وعلى الرغم من الاهتمام غير المسبوق بهذا التخصص العلمي الحديث في العالم العربي، والذي يعد من أهم التقنيات العلمية التي ستغير مستقبل الإنسان، مازال يهدد شبح البطالة جميع الخريجين. لكن هل هذا أمر طبيعي أن يهدد خريجي التقانة الحيوية؟
أهمية التقانة الحيوية
بدأ القرن الحادي والعشرين بتطبيقات علمية جديدة، بدأ تأسيسها العلمي في القرن الماضي، ولكن كان ظهورها وتألقها واعدًا في بدايات القرن الحالي، ومن أهم هذه العلوم الحديثة هو علم "البيوتكنولوجي"، أو التكنولوجيا الحيوية، ويعرف بأنه استخدام كائن حي أو جزء منه لصنع أو تطوير منتج مفيد. وهي تقنية قائمة بالأساس على علم الأحياء، وتتعامل مع الكثير من التخصصات الأخرى كالزراعة والطب والصيدلة، ويتم تطويعها وإدخالها في مجموعة واسعة من مجالات أخرى مختلفة. وقد ظهرت بوادرها في النصف الأول من القرن العشرين، على بعض التطبيقات البسيطة في مجال الزراعة، إلا أنها لم تتحوّل إلى علم واسع التطبيقات الا في النصف الثاني من القرن العشرين، ويُتوقع أن تصل هذه التقانة ذروتها في تطبيقاتها المذهلة خلال المستقبل القريب.
ويجمع مجال التكنولوجيا الحيوية بين المعرفة المتوفرة في مجال البيولوجيا وبين معرفة التقنيات المتقدمة في مجالات الغذاء والدواء والزراعة والبيئة. ويشهد هذا المجال تطوراً سريعاً ومستمراً ولديه امكانيات اقتصادية ضخمة. وهناك الكثير من مجالات الصناعة التي تستفيد من هذه المعرفة في تطوير مختلف المنتجات وهناك حاجة دائمة لخبراء في هذا المجال. ويتكون التقسيم الحديث لهذه التكنولوجيا من أربعة أفرع ارتبطت جميعها بألوان معيّنة للدلالة عليها، وهي: التقانة الحيوية الحمراء (الطبية)، مثل إنتاج المضادات الحيوية من الكائنات الحية، ومعالجة الأمراض، وإنتاج أدوية خاصة بالمحتوى الجيني لفرد ما، وعلاج الأمراض المستعصية مثل السرطان وغيرها. والتقانة الحيوية الخضراء (الزراعية) مثل إنتاج النباتات المعدلة وراثيًا، وزراعة الانسجة، والاسمدة الحيوية، وغيرها من التطبيقات التي تؤثر بشكل هائل على أساليب تطوير صناعة الغذاء. والتقانة الحيوية البيضاء (الصناعية) وهي التكنولوجيا المرتبطة بالمجال الصناعي، وتشمل استخدام الكائنات الحية لإنتاج مواد كيمياوية مطلوبة للاستخدام التجاري، والتصنيع الدوائي والمعالجات الخاصة بالجلود وإنتاج البلاستيك والاحماض الامينية والكحول، وغيرها من المواد المُصنّعة.
أما التقانة الحيوية الزرقاء (البحرية) فهي خاصة بعالم البحار والكائنات البحرية، وتركز على الاستخدامات التقنية في عمليات البيولوجيا ودراسة العضويات البحرية في أعالي المحيطات. وظلّ تخصص التكنولوجيا الحيوية يُدرّس في الدراسات العليا حول العالم حتى وقت قريب، ويعتمد التقدم لمقررات الدراسات العليا بالأساس على نوع التخصص الفرعي الذي يرغب الطالب في دراسته. وعادة يحتاج الطالب إلى تقديم ما يثبت حصوله على درجات متفوقة في التخصصات ذات العلاقة بالتخصص الفرعي الذي سيدرسه. ويضمن هذا التخصص للخريج مجموعة واسعة من فرص العمل الممتازة للغاية، في عدة مجالات مختلفة، فيمكن للخريج العمل في شركات الأدوية، والشركات الزراعية وتنقية المياه والشركات الصناعية المنتجة للمواد الكيماوية والحيوية والدوائية.
ودفعت الدول العربية بأبنائها للحصول على المعرفة في هذا التخصص الحديث منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، لكن تأخُّر تجهيز المختبرات العربية إلى بدايات الألفية الثالثة أعاقَ اللحاق بركب هذا المجال. وعملت الدول العربية على إرساء دعائم صناعة التكنولوجيا الحيوية، وأنشأت معاهد بحثية حققت نتائج علمية ملموسة بالإضافة إلى تدريب وتخريج الكوادر المؤهَّلة للعمل في المجال على الرغم من أن أهم التحديات التي تواجه الصناعة الدوائية في العالم العربي على سبيل المثال هي النقص الحاد في عدد الخريجين المؤهلين في مجال التكنولوجيا الحيوية، لا سيما أن أكثر من 50% من الأدوية المنتجة عالمياً في العام الجاري معتمدة على التكنولوجيا الحيوية. ومؤخراً، بسبب الإقبال الكبير من الطلبة على هذا التخصص، فقد بادرت العديد من الجامعات بإنشاء أقسام جديدة تمنح الدرجة الجامعية الأولى (البكالوريوس) في التكنولوجيا الحيوية، لإعداد كوادر علمية مؤهلة. وقامت العديد من البلدان العربية بتأسيس كليات متخصصة لمنح دراجات في هذا التخصص. وأدى هذا الاهتمام غير المسبوق إلى زيادة عدد الخريجين في أسواق العمل العربية عن الوظائف المتاحة لهذه التقنية الناشئة، ومؤخرًا ظهرت على الساحة العربية العديد من المشكلات التي دفعت الخريجين للقيام بتظاهرات، ووقفات احتجاجية، وهي ظاهرة غير مسبوقة في الدول التي لا تسمح بوجود مثل هذه التظاهرات.
مصر
بدأت البرامج الدراسية في مجال التكنولوجيا الحيوية في مصر في وقت مبكر كبرامج دراسات عليا، ثم تلاها برامج دراسية في بعض الكليات الحكومية والخاصة. وشهدت مصر ظهور أول كلية متخصصة لها في جامعة اكتوبر للعلوم الحديثة والآداب في عام 2004م، ثم تلاها بعض البرامج والكليات في جامعات حكومية وخاصة. وأستوعب سوق العمل العديد من الخرجين المصريين في هذا التخصص، وحقق بعضهم تميزًا ملحوظا في المجال البحثي في مصر وخارجها، ولكن في المجمل يعاني الخريجون من شح فرص العمل وتحطم بعض الأحلام التي ارتبطت باختيارهم لهذا لتخصص، مما أدى إلى ضعف الإقبال على هذه الكليات والبرامج بشكل واضح.
المملكة العربية السعودية
عصفت البطالة بصفوف خريجي هذا التخصص الذي تم تدشينه بجامعة الطائف في عام 2005م، بعد أن وعدتهم الجامعة في دليلها الإرشادي بمئات الوظائف حال تخرجهم. وقامت الجامعة بتخريج حوالي 4000 طالب وطالبة في تخصص التكنولوجيا الحيوية بعد دراسة أربع سنوات يتم خلالها اجتياز 131 ساعة معتمدة، وبعد تخرج الطلاب تفاجأوا بأنهم غير مقبولين نهائيًا في وظائف الخدمة المدنية، وتم حرمانهم من الوظائف التعليمية والصحية. وبعد عده مطالبات وتظاهرات، وإضرابات طلابية، وشكاوى استمرت 7 سنوات تقريبًا توجت بتوجه الخريجين والطلاب إلى الديوان الملكي في الرياض لرفع ملف قضيتهم كامل لولاة الأمر بعد معاناة طويلة من البطالة ويأسهم -على حد قولهم- من عدم تجاوب الجهات الحكومية معهم، وعدم وجود مسمى وظيفي لتخصصهم . أدت هذه التظاهرات والحملات على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي إلى تسجيل تلك الوظائف ضمن الإعلانات الوظيفية للعام المالي 1436/ 1437هـ (2015/2016م)، كما تم اعتبار هذا التخصص من ضمن التخصصات المقبولة في التعليم العام في مادة الأحياء. ومؤخرًا، فتح باب الأمل لحل قضيتهم وتم ايجاد بعض الحلول لتأهيل الخريجين والخريجات لتخصصات تناسب سوق العمل، وأنهت جامعه الطائف بالتعاون مع عده جهات حكومية، أزمه حوالي 4 آلاف من خريجي التخصص، من خلال تفعيل "سنة الامتياز" حتى يمكن تصنيفهم للعمل في القطاعات الصحية المختلفة اعتباراً من العام الدراسي الجاري.
الأردن
تدرس الجامعات الأردنية هذا التخصص منذ عام 1999م، وألقى تعديل قانون الصحة العامة زهاء خمسة آلاف متخصص بالهندسة الوراثية إلى طابور البطالة بعد أن تم حذف هذا المسمى بالخطأ من قبل وزارة الصحة. وبحسب جمعية المهندسين الوراثيين الأردنية فإن نسبة البطالة فاقت 94% من عدد الخريجين، ويعزى السبب إلى تعنت وزارة الصحة بإعادة مسمى تعيين أصحاب هذا التخصص بقانون الصحة العامة، والذي حرمهم من التوظيف الحكومي حيث نسبة التوظيف عن طريق ديوان الخدمة المدنية في قطاع الصحة لهم أصبحت صفرا منذ خمس سنوات مضت.
تونس
بدأت الاحتجاجات مبكرة، فقد دخل مجموعة من طلبة المعهد العالي للبيوتكنولوجيا بباجة في إضراب مفتوح في شهر نوفمبر 2012م احتجاجا على النظام الجديد لاحتساب نسب الفروض والامتحانات النهائية. وقد عبر ممثلو الطلبة في الاتحاد العام لطلبة تونس عن تمسكهم بجملة من المطالب أهمها توضيح مسألة مهمة وهي تحديد اسم الوزارة التي سينضوون تحتها بعد التخرج. ولم يتحسن الحال، مؤخرا، بعد أن نفذ طلبة المعهد العالي للبيوتكنولوجيا بالمنستير إضرابا في شهر مارس الماضي، وأصدر الطلبة المضربون بياناً تضمَّن جملة من المطالب مثل إعادة النظر في التوجيه للاختصاص وجعله في نهاية السنة الأولى، وتفعيل انتداب خريجي معاهد البيوتكنولوجيا من قبل الوزارات المعنية. وحسب الطلاب، جاء هذا الإضراب بسبب التهميش الكبير الذي يتعرض له القطاع في تونس؛ حيث أن خريجي معاهد البيوتكنولوجيا لا يتمتعون بالانتداب في القطاع العمومي، كما أنه لا يوجد مجال للعمل في القطاع الخاص وهو ما يثير خوفهم من المستقبل الغامض بعد التخرج حسب تأكيدهم.
توصيات هامة
تُخرّج بعض الجامعات العربية طلبة متميزين في مجال التكنولوجيا الحيوية ولكن للأسف تتسرب الكفاءات العربية المبدعة في هذا المجال إلى أوروبا وأمريكا. ولا بد من تضافر الجهود بين الجامعات ومراكز البحوث والتوجه إلى العمل العربي المشترك في تأسيس مراكز عالمية ريادية؛ حيث أن القيمة المضافة لهذه الصناعة ذات جدوى اقتصادية عالية على المدى البعيد والمتوسط. ويظل تأهيل الكوادر البشرية القادرة على تطويع المنجزات العلمية لخدمة الصناعة من مسؤولية الجامعات ومراكز البحث العلمي، وهنا لا بدّ من البدء في تنفيذ برامج وطنية طموحة لنقل وتوطين التكنولوجيا الحيوية الملائمة لبناء وتطوير الإنتاج في الصناعة. ويكون ذلك من خلال بناء وتمويل شراكة حقيقية بين الجامعات ومراكز البحث العلمي من جهة، وشركات التكنولوجيا الحيوية الناشئة من جهة أخرى لاستحداث مراكز تميز في بعض الجامعات ولتطوير التخصصات، وطرق التعليم فيها، لتعظيم الجانب العملي التطبيقي، واستقطاب أهل الخبرة للعمل في هذه المراكز، بما يمكنها من تطوير منتجاتها للمنافسة في الأسواق العالمية، وفتح فرص عمل جديدة لاستيعاب الخرجين المؤهلين للعمل في هذا التخصص العلمي المرموق، لعلنا نلحق بقطار التكنولوجيا الحيوية الذى تتسارع منجزاته البحثية والتقنية والصناعية في جميع أنحاء العالم.
البريد الإلكتروني للكاتب : tkapiel@sci.cu.edu.eg