(للجد أوقات وللهزل مثلها) هذا هو عذري الذي أبذله مقدما لقارئي العزيز إن كان من قطاع التعليم فهذا مقال مازح مشوب بشيء من الجد بعد أن كنت في أوائل الإجازة الصيفية قد كتبت مقال جاد مشوب بشيء من المزاح كان عنوانه (العلماء والاجازات .. بين الاسترخاء والهوس العلمي) أشرت فيه لطائفة من أخبار العلماء والمخترعين الذي طغى عليهم هوسهم العلمي للاستفادة القصوى من أوقاتهم حتى في أثناء عطلهم الصيفية وأعيادهم الدينية بل وحتى إجازاتهم السعيدة لقضاء شهر العسل. لا شك أن العالم والمخترع الذي لا يزال عقله يستمر في التفكير والتحليل العلمي حتى وهو يقضي إجازة صيفيه سعيدة في أحضان الطبيعة يجد لذة ذهنية (تعيده) إلى أجواء المختبر والأبحاث العلمية ولكن كم من هؤلاء العلماء والمخترعين عندما كان في صباه وكان (يعود) للمدرسة كان يشعر بالراحة النفسية فضلا عن السعادة و (اللذة الذهنية).
بالرغم من أنني قلبا وقالبا مع مقولة الأديب الفرنسي البارز فيكتور هوغو عندما قال (من يفتح باب مدرسة يغلق باب سجن) وذلك للدلالة على الأثر الإيجابي للمدرسة في المجتمع ولكن هذا لا يعني أن (البيئة المدرسية) في حد ذاتها أحياناً تكون كوقع السجن والمعتقل على نفسية بعض الطلاب.
الصورة النمطية للمدرسة والمعلم في الأدب
جميعنا يعلم من واقع التجربة أن أجواء المدرسة تكون كئيبة وخصوصا في بداية السنة الدراسية بل أنها أحيانا كئيبة حتى في بداية الأسبوع الدراسي الاعتيادي، ولهذا طوال التاريخ الاسلامي كان يوم السبت يوم كئيب بامتياز لصبيان الكتاتيب. في إحدى المقامات الأدبية لبديع الزماني الهمداني المسماة المقامة الدينارية يتخاصم ويتهارش شخصان حول أيهما الأولى بالحصول على دينار يستحقه فقط من يقذع في السب للشخص الآخر ولهذا قام أحدهما بسب صاحبه بقائمة طويلة من الشتائم كان منها ( .. يا بول الخصيان .. ويا سبت الصبيان).
ولمن يرغب معرفة التوصيف الأدبي الراقي للحالة النفسية الكئيبة للطلاب في أثناء الدراسة فعلية بقراءة كتاب (الأيام) الذي يسرد فيه الأديب المصري الشهير طه حسين قصة حياته، والتي منها معاناته الكئيبة والمحزنة مع شدة معلمه شيخ الكتاب القاسي الطباع. أما الروائي الانجليزي العالمي تشارلز ديكنز فقد أبدع في واحده من أوائل رواياته الأدبية في توصيف قسوة مدير مدرسة في منطقة يوركشاير ضد الطلاب المساكين. المقلق حقا أن البيئة المدرسية ليست كئيبة فقط ولكنها أحيانا تكون عنيفة وخطرة ولهذا كانت أول رواية أدبية لكاتب قصص الرعب والغموض الروائي الأميركي الشهير ستيفن كنج هي رواية ثورة الغضب Rage وهي رواية تصف حالة العنف والغيظ لأحد طلاب الثانوية الذي يتعدى بالأذى والقتل لمعلميه ولزملائه الطلاب.
منذ زمن الجاحظ اشتهرت مقولة السوء أن (معلم الصبيان) تصيبه الغفلة ولهذا أكثر الجاحظ من ذكر نوادرهم وعجائب تصرفات بعضهم ولهذا لا عجب أن الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ في رواية (زقاق المدق) يجعل شخصية معلم الانجليزي الشيخ درويش انسان يعيش في غيبوبة عمن حواليه وإذا تكلم نطق باللغة الانجليزية وقام بتهجئة بعض كلماتها حرفاً حرفاً مما يثير عليه سخرية الحاضرين. وبسبب المصير المأساوي للمعلم رفض سي السيد أحمد عبدالجواد في رواية نجيب محفوظ (قصر الشوق) أن يلتحق ابنه الأصغر كمال بمدرسة المعلمين العليا ليتخرج مدرساً وهنا كان الرد حاسما من قبل الأب المتسلط (عاوز تبقى خوجة دي شغلانة الغلابة، عمرك شفت خوجة عملوا له تمثال !!).
كل عبقري مغبون في مدرسته
عندما بالغ الجاحظ في زعمه بأن معاشرة الصبيان سبب للغفلة أيد قوله بأنه عندما قام باستقراء أحوال المعلمين فإنه وجد (أن هذا الشيء قل أن يخطئ ونراه مطردا) وبالرغم من أنني أخالف الجاحظ جملة وتفصيلا في نظرته الشنيعة للمعلمين إلا أنني وبعد استعراض سيرة عدد كبير من العلماء والمخترعين اتضح لي أن البيئة التعليمية (قديما وحديثا) غالبا لا تحسن (اكتشاف) ولا (التعامل) مع العباقرة والموهوبين ولذا كثيرا ما يتم استصغار هؤلاء النوابغ وإذا كان (كل نبي مكذبٌ في قومه) فللأسف يبدو أن (كل طالب عبقري مغبون في مدرسته) وهذا الشيء قل أن يخطئ ونراه مطردا. من ذلك مثلا أن العالم الشهير اينشتاين كتب أحد معلميه في سجله الدراسي (بأنه لا ينفع لشيء). وقبل ذلك بقرون قامت والدة عملاق العلوم اسحاق نيوتن بإخراجه من المدرسة وهو في سن المراهقة بعد أن اشتكى منه مدير المدرسة والمدرسون من أنه غير مهتم بالدراسة، وعلى نفس النسق كان تقرير مدير المدرسة الثانوية التي يتعلم فيها العالم الانجليزي المعروف تشارلز دارون (أنه أحمق) وذلك بعد سبع سنوات قضاها في تلك المدرسة. وهذا المخترع الأسكتلندي جون بيرد مخترع التلفزيون في أثناء تعليمه المدرسي اعتاد بعض معلميه بوصفه بأنه بطيء التفكير وعنيد، بينما المخترع الأميركي الأسطورة توماس أديسون منذ البداية ضاق ذرعا بالدراسة فتخلى عن التعليم بعد ثلاثة أشهر فقط عندما عنفه أحد المعلمين.
وبالعودة لموضوع الاحساس بالكآبة والملل في المدرسة نفهم لماذا تم توصيف هؤلاء العلماء والمخترعين وغيرهم كثير من قِبل معلميهم بأنهم (غير منتبه، وغير مهتم بالدراسة، ودائم الغياب ، وطالب سيء… الخ) والسبب في ذلك أن هؤلاء العباقرة والموهوبين لا تستثير فضولهم واهتمامهم الطريقة التقليدية في التعليم القائمة على الحفظ والتلقين ولهذا سرعان ما يشعرون بالملل والشرود الذهني فالمشكلة ليست في (صعوبة التعلم) لديهم بقدر ما هي في (رتابة التعليم) لدى مدرسيهم. و الغريب في الأمر أن البيئة التعليمة ليست فقط لم تستطع أن تستوعب هؤلاء العباقرة والعلماء بل اتجهت أحيانا بشكل فعلي لإخراجهم وطردهم من المدرسة فليس فقط نيوتن من طلب معلموه من أهله أن يخرجوه من المدرسة فهذا اينشتاين أيضا نصح بشدة بترك المدرسة بل يقال أنه في الواقع فصل من المدرسة وهو بسن السادسة عشرة. وهذا الفيزيائي الفرنسي رونتجن مكتشف أشعة أكس، وبالرغم من أنه حفظ له مكانة مرموقة في التاريخ حيث كان أول عالم يحصل على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1901 ومع ذلك كانت بداياته التعليمة غير مشجعة على الاطلاق حيث طرد expelled من المدرسة الثانوية التي كان يدرس بها. وكان الطرد من المدرسة الثانوية بسبب الغياب المتكرر، مصير العالم البريطاني فردريك هوبكنز مكتشف الفيتامينات والحاصل على جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا عام 1929.
الفشل الدراسي محطة في طريق العباقرة
قديما قيل لكل جوادٍ كبوة ولكل فارسٍ نبوة ويمكن أن نضيف (ولكل عبقري هفوة) وبما أن حديثنا موصول بمعاناة بعض عباقرة العلوم والاختراعات مع المدرسة والتعليم، فيوجد ملمح تربوي مهم في هذا الشأن أن (الفشل الدراسي) لأي طالب ليس نهاية المطاف ولا يعني ضياع المستقبل فكم وكم من قصص وأخبار مشاهير العلماء والمخترعين الذين تجرعوا في مرحلة ما من طفولتهم أو شبابهم الفشل والاخفاق الدراسي ولكن كان مئال حالهم كما يقال (السقوط مسموح .. أما النهوض فواجب). لسبب أو آخر يفشل بعض الطلاب في تعليمهم الدراسي وربما ذلك ناتج عن تشتتهم الذهني أو بسبب تعرضهم للمرض أو لحالة نفسية مصاحبة لوفاة أحد الوالدين أو حتى بسبب الفقر والحاجة وهذا بالضبط ما نجده في أخبار بعض مشاهير العلماء الذين تعرضوا للفشل الدراسي في بداية حياتهم.
عالم الكيمياء ليونس باولنغ يعتبر أهم عالم كيمياء أمريكي على الاطلاق في القرن العشرين والحاصل على جائزة نوبل مرتين في الكيمياء وفي السلام لكن في أوائل شبابه عندما تعرضت أسرته لضائقة مالية طاحنة نتج عن ذلك انسحابه من الدراسة الثانوية من دون شهادة ونفس الأمر حصل مع العالم البلجيكي ألبيرت كلود الحاصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1974 حيث نجده في طفولته قد أجبرته ظروفه العائلية أن يترك الدراسة في الصف الثالث الابتدائي ليعمل في أحد المصانع. وعلى نفس النسق تعرض عالم الكيمياء البريطاني السير ديرك بارتون الحاصل على جائزة نوبل عام 1969 لهزة أسرية حادة بوفاة والده مما اضطره لترك المدرسة في سن السابعة عشر ويتوجه للعمل في مهنة النجارة.
في زمننا الحالي نقلق وننزعج كثيرا من تعرض أبنائنا لبعض الصعوبات في الحصول على مقعد جامعي ملائم بسبب أن نتائجهم في اختبارات القدرات أو التحصيلي ليست عالية ولكن بالقطع هذه العقبة لا تعني بالضرورة انتهاء فرصهم للتفوق والتميز. وبما أننا في وارد ذكر أخبار معاناة بعض مشاهير العلماء مع التحصيل الدراسي تجدر الاشارة إلى أن بعض العلماء واجهوا مشاكل حقيقية في تحقيق (متطلبات وشروط القبول) لدخول الجامعات الاكاديمية في بلدانهم. سبق أن ذكرنا أن العالم الفرنسي رونتجن مكتشف اشعة أكس كان أول عالم فيزياء يحصل على جائزة نوبل ونضيف هنا معلومة أنه في بداية حياته أخفق في اختبار الدخول لجامعة أوتريخت الهولندية، بل أن الوضع كان أكثر سوءا للعالم الفرنسي الأكثر شهرة لويس باستور الذي فشل في البداية في اختبارات القبول في أكثر من جامعة إحداها جامعة صغيرة في شمال فرنسا. مرارة (مرمطة) الحصول على القبول الجامعي ذاقها عالم فرنسي ثالث هو عالم الكيمياء هنري ماوسن مكتشف عنصر الفلور والحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1906 وبالرغم من هذا المجد العلمي إلا أنه في بداية شبابه أخفق أكثر من مرة في اجتياز الاختبار المطلوب لدخول جامعة السوربون. المخترع الايطالي الشهير ماركوني تمكن من اختراع جهاز الراديو وهو في سن 21 وحصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1909 وهو في سن 35 ومع هذا التميز العلمي الملحوظ إلا أنه خيب أمل والده في أوائل شبابه عندما لم يتمكن من تحقيق التسجيل في الجامعة.
ليس بالشهادة الجامعية وحدها يحيا الانسان
مقومات الحياة الكريمة وتحقيق الذات كثيرة ومتشعبة فقديماً نقل عن السيد المسيح عليه السلام، قوله (ليس بالخبز وحده يحيا الانسان) وحديثا نستشف من استقراء حياة الشباب أنه ليس بالشهادة الجامعية يتفوق الشاب الطموح والمثابر. وبعد أن سردنا أخبار وأقاصيص متنوعة عن معاناة بعض أساطين العلوم والتقنية وفشلهم المؤقت في التعليم العام لذا لا غرابة أن نجد أخبار اضافية أن بعض كبار رواد العلوم والتقنية فشلوا وأخفقوا في إكمال دراساتهم الجامعية ومع ذلك ساروا بنجاح في دروب الحياة. فهذا مثلا أسطورة العلم جاليليو جاليلي بدأ دراسة الطب في جامعة بيزا الايطالية وبعد أربع سنوات أخفق في دراسته وترك الجامعة بدون شهادة وكذلك أخفق في دراسة الطب العالم الانجليزي الشهير تشارلز داروين حيث بدأ دراسة الطب في جامعة أدنبره لكنه لم يتأقلم كثيرا من الدراسات الطبية وترك الجامعة. قد تكون دراسة الطب صعبة المنال لكن في المقابل نجد أن عالم الفلك البارز نيكولاس كوبرنيكوس أحد رواد العلم الحديث (صاحب نظرية مركزية الشمس للكون) يلتحق بكلية الفنون بجامعة صغيرة تدعى جامعة كراكاو ببولندا وبالرغم من سهولة تخصصه الأكاديمي إلا أنه يغادر الجامعة بعد أربع سنوات دون الحصول على شهادة جامعية.
وختاماً أكرر اعتذاري للعاملين في قطاع التعليم على ما يكون قد بدر بأنه انتقاص (للمنظومة التعليمية) لكن ما سبق لا يعد شيئاً إذا قورن بانتقاد بعض مشاهير المفكرين والعلماء والأدباء للتعليم في بلدانهم. في بداية القرن العشرين كان التعليم الانجليزي يعتبر قمة الأصالة في الجودة في حين أن التعليم الأمريكي يعتبر قمة المعاصرة في التطوير نتيجة لنظريات الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي جون ديوي، ومع ذلك، لم يتردد عالم الرياضيات والفيلسوف الانجليزي الحاصل على جائزة نوبل بيرتراند راسل في نقد التعليم الانجليزي بقوله (يولد البشر جاهلين ولكنهم لا يولدون أغبياء، ثم يصبحون أغبياء بفضل التعليم) أما نقد أشهر وأهم أديب أمريكي مارك توين للتعليم في بلده فلخصه بقوله (لم أسمح قط لتعليمي الدراسي أن يشوش على ثقافتي) ومن هذا وذاك أترك لك أيها قارئ العزيز الحكم على تعليمنا المعاصر.
بريد الكاتب الإلكتروني: ahalgamdy@gmail.com