سِلسلة: الدليل المنهجيّ إلى الكتابة العِلمية باللغة العربية
مِن المعلوم عند الكُتَّاب الأكاديميين والمتخصصين أن الطولَ في الجُملِ مَذمومٌ في البحوث والمقالات والنصوص بشكل عام، وأن كثرةَ الجُمل الطويلة مُؤشرٌ على ضُعف المقال، في حين تُعتبر الجُمل القصيرة أو الوَمْضَة، مؤشرَ قُوةٍ ومتانةٍ في النص. ويُعاني مِن مُشكلِ الجُمل الطويلة قِطاعٌ كبيرٌ جدا من الكُتاب الصحفيين والطَّلَبَة والباحثين، وحتى بعض الأساتذة في كثير مِن الأحيان يقعون في فخ الجُمل الطويلة.
أنتج النمط الجديد من حياتِنا الذي تحكمُه السرعة في كل حركاتِه وسكناتِه، أنماطاً جديدة من الكتابة والقراءة السريعتيْن على حدٍّ سواء. فقد صارت الكتابة أسرعَ وأكثرَ فعالية مِن ذي قبل بعد ظهور الطابعات وآلات النسخ ولوحات المفاتيح الإلكترونية وشاشات اللمس وغيرِها من الآلة، التي جعلتْ الكتابة أمر سهلاً جداً وميَسَّراً للغاية. هذا الوضع المُتسارع أنتج لنا أصنافاً جديدة من الكتابة، وهي الكتابة المباشرة، أو ما يُمكن أن نصطلح عليه بـ "المختصَر المفيد، هذا النوع مِن الكتابة فَرَضَتْهُ بالدرجة الأولى أنواعُ القراءة السريعة التي ظهرتْ، استجابة لمجموع المتغيرات الحياتِية السريعة أو ما يُعرفُ بـ "ضيق الوقت" وهي القراءة المائلة ففي ألفيَّتِنا الثالثة هذه، بِالكادِ يجد الإنسان وقتاً للقراءة أو الكتابة بسبب كثرة المَشاغِل والالتزامات.
ليس هناك معيارٌ محددٌ لتصنيف الجُمل الطويلة من غيرِها من الجُمل المتوسطة والقصيرة،
إلا أننا يمكن أن نجتهدَ قليلا ونُقسِّمَ الجُمل الطويلة إلى نوعين:
- جُملٌ طويلة: والتي تصل عدد كلماتِها إلى حواليْ خمسٍ وعشرين (25) كلمة.
- جُمل مُفرطة الطول: وهي الجُمل التي تتعدى عدد كلماتِها سبعا عشرين (27) كلمة، وقد تصل إلى (42) اثنانِ وأربعين كلمة.
أسباب الوقوع في الجمل الطويلة
لا يُمكن حصرُ الأسباب التي تؤدي للوقوع في مشكل الجُمل الطويلة، كما لا يُمْكن تحديدُها على وجه التدقيق، فالحالة تختلف من كاتبٍ إلى آخر، إلا أنه يمكن رصد الحالة العامة التي تؤدي إلى هذا المشكل وهي:
- صعوبة التعبير عن الفكرة بالكتابة:
وتأتي هذه الصعوبة بالدرجة الأولى من الفقر المعجمي، حيث لا يَجد الكاتب العدد الكافي من الكلمات والمُفردات للتعبير عن فكرتِه البسيطة بِجملة بسيطة، فيحاول توظيف زادِه المعجميِّ القليل أو المتواضع لإنجاز جُملٍ غير مترابطة، أو جملةٍ واحدة مُهَلْهَلَةٍ وغيرِ مَتينة على مستوى التركيب، تكثُرُ فيها حروف العطف خاصة (حرف الواو / ..و…و..)، وهذا مِن أكبر عيوب الجُمل الطويلة غير المتينة.
- عدم وضوح الفكرة المراد التعبير عنها:
وهذا يحدث كثيراً للتلاميذ والطلبة في الامتحانات، إذ يؤدي عدم وضوح الجواب في ذهن التلميذ أو الطالب إلى الإطالة في التحرير، واعتمادِ جُملٍ طويلة بهدف إبراز الجواب بشكل واضح فيقع الطالب في الجمل الطويلة أو المفرطة في الطول، مما يُؤدي إلى تدني معدلاتِهم.
- الجمع بين مجموعة من الأفكار في جملة واحدة:
يجهل كثير من الكتاب أن اقحام مجموعة من الأفكار في جملة واحدة يؤدي إلى عدم وضوح أية فكرة واختلاط بعضها ببعض. هذا الأمر ينعكس سَلباً على النص، ويجعل القارئ ينفُرُ منه ويستغني عن قراءَتِه.
- اقحام فكرة أو ملاحظة أو وصفٍ خارجيّ وسط الفكرة الرئيسية:
هذا الأمر كذلك يؤدي إلى إنتاج جُملٍ طويلة جداً، إذ يعتقد بعض الكُـتَّـاب أن تعزيز الجملة الواحدة بفكرة خارجية أو وصف أو ملاحظة يدعم الفكرة التي يتم كتابتُها، في حين يؤدي هذا الفعل غير المنهجي إلى إنتاج جُمل طويلة بلا رأسٍ ولا أساس، تضيع فيها الفكرة الرئيسية وسط كثير من التفاصيل والتعليقات الهامشية والثانوية.
- الشرح والتفسير والاستدراك:
يعمَد بعض الكتاب إلى شرح الفكرة والتوسع فيها في نفس الجملة، أو استدراك فكرة أخرى لم يتم الإشارة إليها فيما تقدم من الجُمل، أو تفسير بعض الأمور التي يعتقد الكاتب أن القارئ يجهلُها. كل هذا يوقِع مباشرة في الجمل الطويلة غير المتينة والتي لا تحمل أي ملامِح محدّدة فهي عبارة عن خليط غير متجانس من الأفكار والشروحات والتأويلات والتفاسير والاستطرادات. وهذا أيضاً مما يُنَفِّر القُرَّاء من هذا النوع من الكتابات.
- ربط الفكرة بسابقاتِها عن طريق الحَشْو العشوائي:
يحاول كثير من الكتاب خصوصاً غير المتمرسين وغير المحترفين إلى ربط الأفكار بسابقاتِها لخلق نوع من الترابط والانسجام في النص، يحدث هذا بعد أن يجد الكاتب نفسَه أمام نص غير منسجم، يغيب فيه الانتقال السلس بين فقراتِه وجُملِه، فيحاول الكاتب تحقيق هذا الانسجام من خلال حشو الكلمات في الفراغات والشقوق التي تشوِّه النص. هذا الحشو يكون عن طريق عدد كبير جداً من الكلمات التي يتم اقحامُها غصباً بين و في وسط الجُملِ. مما يؤدي إلى إنتاج جُمل كبيرة وطويلة جداً قد تصل أحيانا إلى الجُمل المُفرِطة في الطول.
التكرار كذلك من الأمور التي تتسبب في إطالَة الجمل. حيث يتم تكرار نفس الأفكار بصيغ مختلف إما لتطويل المقال، وإما لغياب معلومات كافية عن الموضوع، ويحدث هذا أكثر في الكتابات التي تُكتَبُ تحتَ الطلب، (دون تعميم طبعاً). ويكون في الغالب نتيجة عدم التحضير الجيد، أو في حالة الجهل بالموضوع أساساً، وهذا السلوك ينم عن عدم المسؤولية وغياب الوازع المِهني.
- عدم اعتماد منهجية محددة في الكتابة:
نجد كثيراً من الكُتَّاب يكتبون باستمرار مقالات جيدة ومتينة من حيث التركيب الجُملي ومن حيث الدلالة أيضاً، دون أن يكون لهم اطلاع على المنهجيات المساعدة على الكتابة وفق الضوابط العلمية والأكاديمية. إلا أن هناك كثيراً من الكتاب خاصة في مجال الصحافة المكتوبة، يحتاجون وبشكل عاجل ومُلِحٍّ إلى تعلم إحدى هذه المنهجيات، فهي تساعد بشكل كبير على تنظيم الأفكار وتسلسلِها وجَبْرِ ضُعف المقال، وتحقيق نوع من التماسك بين أجزائِه، وبالتالي إنتاج نص أو مقال مترابط ومنسجم ومتين تركيبياً ودلالياً ومُغرٍ بالقراءة أيضاً.
- عدم المبالاة بعلامات الترقيم:
شريحة عريضة من الكُتَّابِ لا تهتمُّ بتاتاً بعلامات الترقيم، في المقابل هناك حشد كبير من الكُتاب لا يعرفون شيئاً عن علامات الترقيم واستعمالاتِها. وبالتالي يكتبون نصوصاً من عدة صفحات لا تحتوي على علامة ترقيم واحدة بما في ذلك الفاصلة (،) والفاصلة نقط (؛) والنقطة (.)، وهذه أهم علامات الترقيم التي تعمل على تحديد بداية ونهاية الجُملة، وحدودِ استمرار الفكرة أو انتهائها، وتسمح هذه العلامات للقارئ بأخذ نَفَسٍ عند نهاية كل جملة أو فكرة، ومواصلة القراءة بعد ذلك، وعدم استعمال علامات الترقيم هذه، يؤدي مباشرة إلى جَعْلِ النص (على طولِه) عبارةً عن جُملة واحدة.
بعض الحلولِ المنهجية لِتفادي الجمل الطويلة
- ننصحُ الكُتَّابَ بعدم التَّوَقُّفِ عن الكتابة، مع العمل على تطوير مستواهُم إما بمساعدة أستاذٍ مُتخصِّص، أو بالاستعانة ببعض المراجع المُعِينة على فنِّ ومنهجيةِ الكتابة.
- القراءة الدائمة والمستمرة، خاصة قراءةُ المؤلفات الأدبية، ونؤكد هنا على المجاميع القصصية القصيرة والقصيرة جداً إلى جانب الروايات. لأنها مَتينة جداً من حيث البناء والتركيب الجُمليِّ، ودالةٌ من حيث الفكرة والمعنى.
- عدم الخروجِ عن الموضوع، لأن الخروج عن الموضوع أو الكتابة في موضوعيْن بشكل متزامنٍ، يؤثر على جودة الجُمل وما تحملُه من معنىً، فيبدو المقال ضعيفاً وهزيلاً جداً، هذا الضعف يتدارَكُه الكاتب بشحنِ الجُمل بأفكارٍ أخرى، أو إضافةِ جُمل أخرى في محاولة منه للإحاطة بالموضوع من كل جوانِبه، هذا الخطأ يؤدي إلى إنتاج نصٍّ أو مقال تغلُب عليه الجُمل الطويلة أو المفرِطة في الطول، والتي في مُعظمِها غيرُ دالة بشكل جيد.
- تقسيم الجُمل الطويلة إلى جُمل قصيرة ودالة، هذا الإجراء جيد للغاية ويكون بتغيرٍ طفيف في بعض العبارات أو الكلمِات، مع استعمال مكثَّفٍ لعلامات الترقيم خاصة الفاصلة بنوعيها: (،/؛) والنقطة (.).
- الاستغناءُ عن بعض الكلمات والعبارات بتوظيف علامات الترقيم. وذلك باستعمال القوسين (…) لإدراج شرح أو تعليق أو توضيح، مع تصغيرِ حجم الخط، وربط نهاية الجُملة قبل القوس بتتمة الجملة بعد القوس، بحيثُ يُمْكن للقارئ قراءة الجملة بشكل سليم دون الحاجة إلى قراءة ما بين القوسين ـــــــــــ ( …. )ـــــــــــ . كما يُمْكن استعمال المعقوفتين { } أو الشرطتيْن (" …. ") لإيراد استشهاد مباشرةً دون التقديم له بعبارات من قبيل: (…ويقول ابن منظور في مُعجمه الماتِع لسان العرب: …..)، إذ أن إيراد الاستشهاد مباشرة، يُعفينا من مَثيلات هذه العبارات التي تستهلك ثماني (8) كلمات أو ربما أكثر كما في هذا المثال.
- استعمالُ الإحالات والهوامش للتوسع في الأفكار، أو لإيراد معلومات هامة، أو للتنبيه على أمرٍ أو قضية تَهُمُّ القارئ، بدل إقحامِها مباشرة وسط النص. لأن اقحام مثل هذه الأمور يُشَتِّتُ تركيز القارئ، ويَصرِفُ انتباهَه عن الموضوع الرئيسي.
ومثاله:
[أشيرُ إلى بحثٍ نشرَتْه مجلة "نيتشر الطبية" عدد يوليوز 2016، -أجراه باحثون من معهد "إيكول بوليتكنيك فيدرال بدي لوزان] في هذه الجملة يمكن أن نكتفي فقط بهذا الجزء {أشيرُ إلى بحثٍ نشرَتْه مجلة "نيتشر الطبية"} ضمن الجملة الرئيسية، ونُلحق هذا الجزء {عدد يوليوز 2016، -أجراه باحثون من معهد "إيكول بوليتكنيك فيدرال بدي لوزان} بالإحالة أو الهامش. رغم أن هذه الجملة ليست طويلة إذ لا يتعدى عدد كلماتِها سبع عشر كلمة، إلا أنها غير تامة ونتوقع من تتمَّتِها أن يصل عدد الكلمات إلى سبع وعشرين (27) كلمة فما فوق، ولكن بِبَتر جزءٍ منها وإلحاقِه بالإحالة، صارت عدد الكلمات الموظفة في الجملة سبع (7) كلمات فقط، وبالتالي فنسبة الوقوع في فخ الجملة الطويل بعيدٌ جداً، ويمكن للجملة أن تُعزَّزَ بكلمات أخرى دون الخوف من الوقوع في الطول. هذا الإجراء البسيط، يُسهل علينا تفادي مشكلِ الوقوع في الجمل الطويلة.
- التقليل من استعمال حروف العطف، خاصة حرف الواو، فإذا كانت الكلمات التي نودُّ إيرادَها ذات حُمولة معنوية ودلالية واحدة، فإننا نُوظف بدلَ حرف العطف (و) علامة الفاصلة، ومثالُه: [يتصف الرَّجُل العربيُّ الأصيل بالقوة والشجاعة، البأس، الإباء، النخوة، النُّبْل، الكرم، الإيثار، حفظ الوعد والثبات على العهد.]. وبالتالي نكون قد استعملنا حرف العطف (الواو) مرتيْن فقط بدل استعمالِه تسع (9) مرات متتالية.
المقامات المسموح فيها باستعمال الجُمل الطويلة:
يمكن استعمال الجُمل الطويلة في الحالات التالية:
- في حالة الوصف، يكون مسموحاً استعمال الجُمل الطويلة.
- إيراد جُملة طويلة بين جُملتيْن قصيرتيْن.
- استعمال الجُمل الطويلة بالتناوبِ مع الجُمل القصيرة.
- إجادةُ كتابة الجُمل الطويلة وحُسُنُ صياغَتِها، بحيث لا يُحِسُّ القارئ بطول الجُمل أو ركاكتِها.
قد يبدو مما تَقَدَّمَ أن الجُملَ الطويلة عَيْبٌ في الكتابة، إلا أن هذا الحُكمَ ليس صحيحاً تمامًا، فالمشكلة الحقيقية في الجُمل الطويلة هي في مُحتواها الدلالي وليس في تركيبها (عدد الكلمات الموظفة في تركيب جملة واحدة)، فعندما تكون الجُملةُ الطويلة ذات حمولةٍ دلالية تتناسب مع عدد الكلمات التي تُكَوِّن الجُملة، فإن القارئ لا يُحِسُّ بهذا الطول أبداً، وهذا ما نلمسًه في كتابات الكُـتَّــاب الكِبار، حيث لا ننتبه للجمل هل هي طويلة أم قصيرة بقدر ما نهيم مع المقال ونتيه في عوالِمِه. إن ما يَفضَح الجُملَ الطويلة، هي عدمُ تناسب الدلالة مع عدد الكلمات الموظَّفة في تركيب الجملة، ففي هذه الحالة يُحس القارئ مباشرة بأن بعض الكلمات أو عدداً كبيراً مِنها قد تم اقحامُه في هذا التركيب بِدون مُسَوِّغ، فالجُمل الطويلة تبدوا أكثر فائدة وأكثر جمالاً وَرَوْنَقًا إذا ما تم توظيفُها بشكل صحيح واحترافيّ، خاصة وأنها تحتاج إلى جهد كبير جداً، ومهارة فنية وجمالية في الصياغة، ففي القرآن الكريم نجد آيات طويلة جدا، تكاد تكون نصا قائما بذاته، في المقابِل نجدُ كذلك آيات قصيرة جدا، لا تتعدى كلمة واحدة. فالأمر كلُّه مُتوقف على الحُمولة الدلالية، إذ لا فائدة من تركيبِ جُملٍ طويلة جدا يفوق عدد كلماتِها ثلاثين (30) كلمةً، لإيصال معنىً أو دلالة أو معلومة بسيطة قد لا تحتاج إلى أكثرَ من تِسع (9) أو عَشر (10) كلمات للتعبير عنها على أبعد تقدير.
بريد الكاتب الالكتروني: bachoud.houssaine@gmail.com