لقد أصبحت الهندسة الوراثية ثورة علمية و سمة بارزة من سمات القرن الحادي و العشرين، فتعددت و تنوعت إنجازاتها و مجالات الاستفادة منها، وحصدت العلوم الطبية والصحية العديد من انجازاتها وتطبيقاتها فيما يتعلق بعلاج الأمراض الوراثية و إنتاج الأدوية. إن تطبيقات الهندسة الوراثية قد أحدثت تقدماً كبيراً في مجال الرعاية الصحية من حيث التشخيص الدقيق للأمراض، و كذا في الجانب العلاجي و إنتاج المنتجات الصيدلانية، وهو مما أدى إلى ظهور علوم طبية جديدة منها العلاج الجيني Gene Therapy وعلم استخدام الجينوم في الصناعات الصيدلانية (الصيدلة الجينومية) pharmacogenomics، وكذا علم جينوميات الصحة العامة Public Health Genomics.
العلاج الجيني هو عملية إدخال مورثات سليمة إلى الخلايا لتصحيح عمل المورثات غير الفعالة بغية علاج المرض، وتعتمد الفكرة على إدخال مورثة فعالة وظيفيا إلى الخلايا عن طريق تحميل المورثات إلى وسيط يعرف باسم الناقل. يقوم الناقل بعدها بتعداء الخلايا المستهدفة وإدخال الجين إلى الخلية وبالتالي إعادة إنتاج البروتين المفقود. يمكن تعداء الخلايا المستهدفة إما عن طريق استخلاص الخلايا وزرعها وتعدائها خارج الجسم الحي ومن ثم إعادة زرعها في جسم المريض، أو مباشرة داخل الحي. أما علم استخدام الجينوم في الصناعات الصيدلانية (الصيدلة الجينومية) pharmacogenomics هو أحد فروع علم الصيدلة والذي يتعامل مع تأثير التنوع الوراثي على الاستجابة للأدوية في المرضى من خلال ربط التعبير الجيني مع فعالية الدواء أو سميته.
كما يهدف علم الصيدلة الجينومية إلى تطوير وتنمية الوسائل النسبية للوصول بالعلاج الدوائي إلى درجة الكمال والفعالية القصوى، مع مراعاة تركيب النمط الجيني genotype للمريض، لضمان تحقيق أقصى فعالية بأقل قدر من الأعراض الجانبية. ومن هنا، فتعد مثل تلك المنهجيات مجالاً واعداً للطب الشخصي؛ والذي فيه وبواسطته تتوافق الأدوية وتركيباتها المختلفة مع البنية الجينية الفريدة لكل فردٍ على حدة. و تُسْتَخْدَمُ اختبارات علم الصيدلة الجينومي، في مجال علاج السرطان، في تحديد المريض الذي يعاني من التسمم جراء استخدام أدوية السرطان الشائعة، بالإضافة إلى تحديد المريض الذي لن يستجيب لمثل تلك الأدوية لعلاج السرطان شائعة الاستخدام. وكذلك فقد استُخْدِمَ علم الصيدلة الجيني كمرافقٍ للتشخيص، والمعني بالاختبارات المصاحبة مع تناول الأدوية. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك اختبار K-ras مع cituximab واختبار EGFR مع Gefitinib.
ويكاد يكون استخدام تطبيقات وانجازات الهندسة الوراثية في الرعاية الطبية والصحية مرتبط بعلم جينوميات الصحة العامة وهو استخدام معلومات الجينوم لفائدة الصحة العامة. لكن تصور هذا المفهوم كرعاية أكثر وقائية وشخصية وفعالية وتقديم علاجات لأمراض ذات خصوصية أكبر حيث انه يستهدف التركيب الجيني لكل مريض. في هذا الاتجاه ومن اجل تجنب الأعراض الجانبية للأدوية وكذا تطوير الرعاية الطبية وذلك باستخدام علم الوراثة الدوائي، عَقَد مؤتمر القمة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية "ويش"، إحدى مبادرات مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، ندوة عبر الانترنت حول سبل تطوير الرعاية الصحية باستخدام علم الوراثة الدوائي، وذلك ضمن إستراتيجية تهدف إلى تعزيز الاستخدام الصحيح للأدوية لكل مريض للحد من الأعراض الجانبية السلبية المحتملة لها , وذلك تحت شعار "علم الوراثة الدوائي وسلامة المرضى"، ضمن سلسلة "برنامج تسريع الرعاية الصحية الأكثر سلامة"، التي تنظمها شبكة الأنظمة الصحية القيادية (LHSN)، إحدى مبادرات مؤتمر ويش،التي تُعنى بتحديد ومناقشة سبل تطوير الأنظمة الصحية من خلال الاستعانة بنخبة من قياديي الرعاية الصحية وخبراء القطاع الصحي.
وكانت الندوة تحت إدارة كل من الدكتور ديباك فورا، الأستاذ المساعد في الكلية الطبية بجامعة ديوك الأمريكية؛ والدكتور جيفري جنسبرغ، رئيس مركز علوم الجينوم التطبيقية والطب الدقيق في الكلية الطبية بجامعة ديوك الأمريكية. شهدت الندوة تسليط الضوء على التداعيات الصحية والاقتصادية للأعراض الجانبية للأدوية، واستعراض عدد من الأدوية ذات الانعكاسات السلبية المحتملة، وسبل تفادي الأضرار المترتبة على استخدامها. كما قدَّم المتحدثون اقتراحات وافية للحضور حول سُبُل تطوير التخطيط الصحي، عبر التركيز على التركيب الجينومي للمريض عند وصف الأدوية الملائمة لحالته. علّق الدكتور جنسبرغ على مجريات الندوة بقوله: "يتسبب عدد من الأدوية الشائعة لأمراض القلب والسرطان والنوبات القلبية وغيرها، في حدوث أعراض جانبية تنجم عن تباين التركيب الجينومي للمرضى، وهو ما يؤثر على تقبل البعض لتلك الأدوية. ويشير ذلك إلى إمكانية تلافي هذه الأعراض الجانبية في حال خضوع المريض لاختبار جيني قبل وصف الدواء".
أما السيدة ديدي تومسون، الزميلة في مجال السياسات بمركز السياسة الصحية في جامعة إمبريال كوليدج لندن، والزميلة بمنتدى "ويش"، فقد علقت بالقول: "قلما يلتفت الناس إلى الأمور المتعلقة بسلامة المريض خارج إطار العمليات الجراحية أو حالات الإصابة بالعدوى داخل المستشفيات، في حين أن معظم خدمات الرعاية الصحية التي يتلقاها المرضى تُقدَّم خارج المستشفى. ومع تزايد معدلات الشيخوخة في المجتمع، واستخدام الكثير من المرضى لعدة أدوية في نفس الوقت، لا بد من الالتفات بجدية إلى الأعراض الجانبية للأدوية كعنصر أساسي لسلامة المرضى. من هنا تنبع أهمية علم الوراثة الدوائي، الذي يقدم لنا الأدوات اللازمة لتقديم عناية صحية آمنة وناجعة؛ للتقليل من احتمالات الأعراض السلبية للمرضى".
وركزت الندوة على النتائج الإيجابية المترتبة على الاستفادة من إنجازات علم الوراثة الدوائي على نطاق عالمي، حيث قال الدكتور ديباك فوراً: "تعَّدُ الأعراض الجانبية للأدوية واحدة من كبرى الإشكاليات المتعلقة بسلامة المرضى حول العالم، وهي إشكاليات ذات تكلفة عالية،غيرأنه يمكن تفاديها باللجوء إلى منجزات علم الوراثة الدوائي، الذي يمثل استراتيجية ناجعة لتوفير الجرعة الملائمة من الدواء الملائم لكل فرد، وهو ما قد يساهم في النهوض بمعايير الجودة والسلامة في قطاع الرعاية الصحية والحد من حالات الإصابة بالتسمم الدوائي".
وكانت شبكة الأنظمة الصحية القيادية قد تأسست عام 2009، بالتعاون بين مبادرة "ويش" وجامعة إمبريال كوليدج لندن، وتعاونت منذ ذلك الحين مع 25 نظاماً صحياً في أكثر من 12 دولة حول العالم، للمساعدة في التغلب على التحديات التي تهدد توفير خدمات رعاية مميزة لسكان تلك الدول. وتتواصل الشبكة مع الجمهور بشكل مباشر، من خلال إقامة ندوات عبر الانترنت، في سبيل بناء مجتمعات صحية حول العالم. وقد انضمت 18 مؤسسة من مختلف أنحاء العالم، حتى الآن،إلى هذه الشراكة،في إطار الجهود التي تبذلها مبادرة ويش في هذا الصدد، وعلى رأسها مؤسسة حمد الطبية ومركز السدرة للطب والبحوث في قطر.
وتجدر الإشارة إلى أن مبادرة "ويش" كانت قد أطلقت برنامج تسريع الرعاية الصحية الأكثر سلامة، التابع لشبكة الأنظمة الصحية القيادية؛بهدف مشاركة أفضل الممارسات، وتشجيع الأنظمة الصحية حول العالم على تقديم رعاية صحية أكثر سلامة للمرضى. ويستقطب البرنامج شبكة عالمية من منظمات الرعاية الصحية بغرض تبادل الرؤى والخبرات والبيانات حول موضوع سلامة المرضى، ثم يختتم بنشر تقرير عالمي. وستعقد مبادرة ويش مؤتمرها السنوي 2016 في الدوحة خلال الفترة ما بين 29-30 نوفمبر المقبل.
بريد الكاتب الالكتروني: abualihakim@gmail.com