مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

NULL

ظواهر غريبة في المادة ثنائية الأبعاد

الكاتب

المترجمون : د. عبدالفتاح الغرباني - م. عبدالحفيظ العمري

الوقت

01:50 مساءً

تاريخ النشر

20, أكتوبر 2016

فتح الفائزون بجائزة نوبل عام 2016م الباب على المجهول بإمكانية تواجد المادة في أطوار غريبة. ومنحت نصف الجائزة لديفيد ثوليس، جامعة واشنطن، سياتل، والنصف الآخر لكل من فريدرك دنكان هالدين، جامعة برينستون، ومايكل كوستيرليتز جامعة براون، بروفيدانس. وأظهرت اكتشافاتهم انجازات في الفهم النظري لغموض المادة، وأنشأت آفاقاً جديدة في تطوير مواد مبتكرة. واستخدم ديفيد ثوليس، ودنكان هالدين، ومايكل كوستيرليتز أساليب متقدمة في الرياضيات لتفسير الظواهر الغريبة في الأطوار غير العادية (أو حالات) للمادة، مثل الموصلات الفائقة، والموائع الفائقة والأغشية المغناطيسية الرقيقة.

درس كل من ثوليس وكوستيرليتز الظواهر التي تنشأ في العالم المسطح، على الأسطح أو داخل الطبقات الرقيقة للغاية التي يمكن أن تعتبر ثنائية الأبعاد، بالمقارنة مع الأبعاد الثلاثية (الطول والعرض والارتفاع) التي عادة ما يوصف بها الواقع. وقد درس هالدين أيضاً المادة التي تشكل خيوط رقيقة بحيث يمكن اعتبارها ذات بعد واحد.

والفيزياء الموجودة في هذا العالم المسطح تختلف كثيراً عن ما ندركه في العالم من حولنا. حتى ولو كانت المادة الرقيقة جداً موزعة تتكون من ملايين من الذرات، وحتى لو يمكن تفسير سلوك كل ذرة باستخدام فيزياء الكم، فالذرات تبدي خصائص مختلفة تماماً عندما تتجمع الكثير منها معاً. يتم اكتشاف الظواهر جماعية جديدة باستمرار في هذا العالم المسطح، وفيزياء المادة المكثفة هي الآن واحدة من أكثر المجالات حيوية في الفيزياء. وكان استخدام الفائزين بجائزة نوبل المفاهيم الطوبولوجية في الفيزياء حاسما لاكتشافاتهم. والطوبولوجيا هو فرع من فروع الرياضيات التي تصف الخصائص التي تتغير تدريجياً. وباستخدام الطوبولوجيا الحديثة، قدم الفائزون بجائزة هذا العام نتائج مفاجئة، والتي فتحت مجالات جديدة للبحث وأدت إلى خلق مفاهيم جديدة ومهمة في عدد من مجالات الفيزياء.

أطوار المادة

في العمق تخضع كل المادة لقوانين فيزياء الكم. الغازات والسوائل والمواد الصلبة هي الأطوار المعتادة للمادة، والتي فيها غالبا ما تُخفي الحركات الذرية العشوائية الآثار الكمية. ولكن في البرودة الشديدة والقريبة من الصفر المطلق (-273 درجة مئوية) تلعب المادة مراحل جديدة وغريبة وتتصرف بطرق غير متوقعة. فيزياء الكم، التي على خلاف ذلك تعمل فقط في عالم ذي مقاييس ذرية، أصبحت فجأة مرئية (شكل 1).

تتغير الأطوار العادية للمادة من طور لآخر عندما تتغير درجات الحرارة. على سبيل المثال، يحدث هذا التحول عندما يُسخن الثلج، وهو يتكون من بلورات منظمة بشكل جيد، ويتحول إلى ماء، وهي مرحلة أكثر فوضوية للمادة. عندما ننظر إلى العالم المسطح المعروف قليلاً في المادة، نجد الأطوار المادية التي لم يتم استكشافها بالكامل. أشياء غريبة يمكن أن تحدث في البرودة. على سبيل المثال، المقاومة بكل الجسيمات المتحركة على خلاف ذلك تتوقف فجأة. هذا هو الحال عندما يمر التيار الكهربائي دون أي مقاومة في موصل فائق للكهرباء، أو عندما يستمر دوران دوامة في الموائع الفائقة إلى الأبد دون إبطاء. وكان أول شخص قام بدراسة منهجية للموائع الفائقة هو الروسي بيوتر كابيتسا، في ثلاثينات القرن الماضي. حيث قام بتبريد الهليوم 4، الموجود في الهواء، إلى درجة  -271 درجة مئوية، لينساب حتى الجانبين في الوعاء الحامل له. بعبارة أخرى، فإنه تصرف بغرابة كما الموائع الفائقة تتصرف عندما تختفي اللزوجة تماماً. وكوفئ كابيتسا بجائزة نوبل في الفيزياء عام 1978م، ومنذ ذلك الحين عدة أنواع من الموائع الفائقة تم إنشاؤها في المختبر. والهليوم الفائق الميوعة، والأغشية رقيقة من الموصلات الفائقة، والطبقات الرقيقة من المواد المغناطيسية والخيوط النانوية الموصلة كهربائياً تمثل عدداً قليلاً من العديد من الأطوار المادية الجديدة التي تُدرس الآن بشكل مكثف.

أزواج الدوامة قدمت الحل

اعتقد الباحثون لأمد طويل أن التقلبات الحرارية تدمر كل النظام في المادة في العالم المسطح، ثنائي الأبعاد، حتى عند الصفر المطلق. فإذا لم تكن هناك أطوار منظمة، فلا يمكن أن تكون هناك تحولات في الطور. ولكن في أوائل السبعينات، التقى ديفيد ثوليس ومايكل كوستيرليتز في برمنجهام، بريطانيا العظمى، وتحدّا تلك النظرية. معا، بدأ العمل على مشكلة تحولات الطور في العالم المسطح (من باب الفضول، من باب العلم بالشيء، كما يدعيان). أدى هذا التعاون لإنتاج فهم جديد كلياً في تحولات الطور، والذي اعتبر واحداً من أهم الاكتشافات في القرن العشرين في فيزياء المادة المكثفة. والتي أصبحت تسمى انتقال كي تي KT Kosterlitz-Thouless، أو انتقال BKT، حيث B هو فاديم بريجينسكي، عالم الفيزياء النظرية من موسكو الذي قدم أفكاراً مماثلة. والمرحلة الانتقالية الطوبولوجية ليست مرحلة انتقالية عادية، مثل الذي بين الثلج والماء. الدور الرئيسي في انتقال الطوبولوجية يُلعب بواسطة الدوامات الصغيرة في المادة المسطحة. ففي درجات حرارة منخفضة تشكل أزواجاً مترابطة. عندما ترتفع درجة الحرارة، وهي مرحلة انتقالية يحدث تباعد الدوامات فجأة عن بعضها البعض، وتصبح في المادة لوحدها (الشكل 2).

والشيء الرائع في هذه النظرية هو أنها يمكن أن تستخدم لأنواع مختلفة من المواد في أبعاد منخفضة؛ الانتقال KT هو عام. وقد أصبح أداة مفيدة، ولا يتم تطبيقها في مجال المادة المكثفة وحسب، ولكن أيضاً في مجالات أخرى من الفيزياء، مثل الفيزياء الذرية أو الميكانيكا الإحصائية. كما تم تطوير نظرية انتقالKT من قبل كل من منشئيها وغيرهم، وكذلك تم تأكيدها تجريبيا.

قفزات الكم الغامضة

قدمت التطورات التجريبية في نهاية المطاف عدداً من حالات جديدة للمادة التي تتطلب تفسيراً. في الثمانينات، قدم كل من ديفيد ثوليس ودانكان هالدين إطار عمل نظري جديد، والذي تحدّى النظريات السابقة، والتي كان إحداها نظرية ميكانيكا الكم لتحديد المواد التي توصل الكهرباء. وطُورت للمرة الأولى في الثلاثينات، وبعد بضعة عقود، اعتبر مجال الفيزياء هذا قد تم فهمه جيداً. لذا كانت مفاجأة كبيرة عندما أثبت ديفيد ثوليس في عام 1983م أن الصورة السابقة كانت غير مكتملة، عند درجات حرارة منخفضة وفي مجالات مغناطيسية قوية، فأصبح من الضرورة ظهور نوع جديد من النظرية، عندها أصبحت مفاهيم الطوبولوجيا هامة. في نفس الوقت تقريباً، توصل دانكان هالدين إلى استنتاج مماثل، وغير متوقع، أثناء تحليل السلاسل الذرية المغناطيسية. وكان عملهم فعالاً في التطورات الدراماتيكية اللاحقة لنظرية الأطوار جديدة للمادة.

هذه الظاهرة الغامضة التي وصفها ديفيد ثوليس نظريا، باستخدام الطوبولوجيا، هي تأثير هول الكمي. وتم اكتشاف هذا في عام 1980م من قبل الفيزيائي الألماني كلاوس فون كليتزينج، الذي كوفئ بجائزة نوبل في عام 1985م، ودرس طبقة موصلة رقيقة بين اثنين من أشباه الموصلات، حيث تم تبريد الإلكترونات إلى بضع درجات فوق الصفر المطلق وعرضت لحقل مغناطيسي قوي. وفي الفيزياء، ليس من الشائع أن تحدث أشياء متطرفة عندما يتم خفض درجة الحرارة؛ على سبيل المثال، العديد من المواد تصبح ممغنطة. يحدث هذا لأن كل مغناطيس ذرية صغيرة في المادة تشير فجأة إلى نفس الاتجاه، مما أدى إلى حقل مغناطيسي قوي، والتي يمكن أيضاً أن يقاس.

ومع ذلك، فإن تأثير هول الكمي هو أكثر صعوبة للفهم. وتظهر الناقلية الكهربائية (هي معكوس المقاومة الكهربائية والمواصلة هي قدرة المادة الكهربية على تمرير الشحنات) في طبقة أنها لا تحمل إلا قيم معينة فقط، والتي هي أيضاً غاية في الدقة، وهو أمر غير معتاد في الفيزياء. وتوفر القياسات بالضبط نفس النتائج حتى لو تفاوتت درجة الحرارة، أو المجال المغناطيسي أو كمية الشوائب في أشباه الموصلات. عندما يتغير المجال المغناطيسي بشكل كافٍ، تتغير ناقلية الطبقة أيضاً، ولكن فقط في خطوات، والتقليل من قوة المجال المغناطيسي تجعل الناقلية الكهربائية أولاً أكبر مرتين بالضبط، ومن ثم يتضاعف إلى ثلاث مرات، وأربع مرات، وهلمّ جرّا. لا يمكن تفسير هذه الخطوات الصحيحة من قبل الفيزياء المعروفة في ذلك الوقت، ولكن ديفيد ثوليس وجد الحل لهذا اللغز باستخدام الطوبولوجيا.

أجابت الطوبولوجيا

تصف الطوبولوجيا الخصائص التي تبقى على حالها عندما يستطيل الشيء، أو يلتف أو يتشوه، ولكن ليس إذا تمزق إرباً. وطوبولوجياً، إن الشكل الكروي والوعاء ينتمي إلى نفس الفئة، لأن كومة كروية من الطين يمكن أن تتحول إلى وعاء. ومع ذلك، الكعكة مع وجود ثقب في الوسط، وفنجان القهوة مع وجود ثقب في حامل اليد ينتمون إلى فئة أخرى. كما يمكن لكل واحد منهما أن يأخذ شكل الآخر. وبالتالي يمكن أن الأجسام الطوبولوجية تحتوي على فتحة واحدة، أو اثنين، أو ثلاثة، أو أربع، إلخ، ولكن هذا الرقم يجب أن يكون عدداً صحيحاً. هذا يكون مفيداً كما يبدو في وصف الناقلية الكهربائية التي عثر عليها في تأثير هول الكمي، والذي تتغير في خطوات، والتي هي بالضبط مضاعفات عدد صحيح (الشكل 3).

في تأثير هول الكمي، تتحرك الإلكترونات بحرية نسبياً في طبقة ما بين أشباه الموصلات وتشكل ما يُسمى "مائع الكم الطوبولوجي". وبنفس الطريقة غالباً ما تظهر خصائص جديدة عندما تأتي العديد من الجزيئات معاً، والإلكترونات في مائع الكم الطوبولوجي أيضا تبدي خصائص مثيرة للدهشة. كما أنه لا يمكن التأكد مما إذا كان هناك ثقب في فنجان القهوة من خلال النظر فقط في جزء صغير منه، فإنه من المستحيل تحديد ما إذا كانت الإلكترونات قد شكلت مائع الكم الطوبولوجي إذا لاحظت فقط ما يحدث للبعض منها. ومع ذلك، تصف الناقلية الحركة الجماعية للإلكترونات، وبسبب الطوبولوجيا، فإنها تتفاوت في الخطوات، وإنها محددة القيمة. وهناك سمة أخرى في مائع الكم الطوبولوجي هي أن حدوده له خصائص غير عادية. وهذا ما تنبأت به النظرية وتم أثباته بعد ذلك تجريبياً.

وحصل حدث آخر في عام 1988م، عندما اكتشف دنكان هالدين أن موائع الكم الطوبولوجية، تشبه تأثير هول الكمي، ويمكن أن تتشكل في طبقات رقيقة من أشباه الموصلات حتى في غياب المجال المغناطيسي. وقال إنه لم يحلم أن يتم التحقق من نموذجه النظري تجريبياً، ولكن في الآونة الأخيرة عام 2014م تم التحقق من صحة هذا النموذج في تجربة باستخدام ذرات التي تم تبريدها إلى الصفر المطلق تقريباً.

المواد الطوبولوجية الجديدة القادمة

في بداية العمل، من عام 1982م، قدم دنكان هالدين التنبؤ الذي أذهل حتى الخبراء في هذا المجال. في الدراسات النظرية لسلاسل الذرات المغناطيسية التي تحدث في بعض المواد، اكتشف أن هذه السلاسل لها خواص مختلفة جذرياً، اعتماداً على خاصية المغناطيس الذرية. وفي فيزياء الكم هناك نوعان من المغناطيس الذرية، الفردية والزوجية. فأظهر هالدين أن السلسلة المكونة من المغناطيس الزوجية هي طوبولوجية، في حين أن السلسلة المكونة من المغناطيس الفردية ليست كذلك. مثل مائع الكم الطوبولوجي، فإنه ليس من الممكن تحديد ما إذا كان سلسلة الذرية هي طوبولوجية أم لا بمجرد اختبار جزء صغير منه. وتماماً كما هو الحال بالنسبة للمائع الكمي، فالخصائص الطوبولوجية تظهر نفسها في الحواف. وهنا، في نهايات السلسلة، لأن الخاصية الكمومية تعرف كأنصاف مغزلية (ففي ميكانيكا الكم فإن اللف هو من الخصائص الجوهرية لجميع الجسيمات الأولية) في نهايات السلسلة الطوبولوجية.

في البداية، لم يصدق أحد الأسباب التي قدمها هالدين حول السلاسل الذرية، لأن الباحثين كانوا مقتنعين بأنهم فهموها تماماً. ولكن اتضح أن هالدين اكتشف أول مثال على نوع جديد من المواد الطوبولوجية، والتي هي الآن مجال حيوي للبحث في فيزياء المادة المكثفة. وكلا من موائع هول الكمية والسلاسل الذرية المغناطيسية الزوجية متضمنة في هذه المجموعة الجديدة من الحالات الطوبولوجية. وفي وقت لاحق، اكتشف الباحثون العديد من حالات المادة الطوبولوجية الأخرى غير المتوقعة، ليس فقط السلاسل ولا الطبقات رقيقة الحدود، ولكن أيضاً في المواد العادية ثلاثية الأبعاد.

ويجري الحديث عن العوازل الطوبولوجية، والموصلات الفائقة الطوبولوجية والمعادن الطوبولوجية. وعلى مدى العقد الماضي، هذه أمثلة من المجالات التي حددت من البحوث الهامة في فيزياء المادة المكثفة، لأسباب ليس أقلها الأمل أن المواد الطوبولوجية ستكون مفيدة للأجيال الجديدة من الأجهزة الإلكترونية والموصلات الفائقة، أو في أجهزة الكمبيوتر الكمية مستقبلاً. والأبحاث الحالية تكشف أسرار المادة في العالم المسطح الغريب التي اكتشفها الفائزون بالجائزة.

مصدر المقال

 

المقال بصيغة PDF للقراءة والتحميل أعلى الصفحة

 

بريد الكاتب الإلكتروني: abdualamri.75@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x