كثير هم علماء الدين والفكر والأدب الذين قصدوا، بعد ظهور الإسلام، الحجاز للأداء فريضة الحج. وهناك من الغرب الإسلامي عدد كبير من هؤلاء الرجال الذين اتجهوا شرقا لنيل العلم في مصر والشام والجزيرة العربية والانتهاء بأداء المناسك الدينية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم عادوا إلى ذويهم في المغرب العربي الكبير والأندلس. لكن أغلبهم كانوا وثيقي الصلة بالعلوم الإنسانية، سيما الدينية والشرعية، بعيدين عن مسائل الرياضيات وعلم الفلك والعلوم المجردة. يعتبر ابن حمزة الجزائري استثناء لهذه القاعدة.
لم يحدد المؤرخون تاريخ ولادة ولا وفاة ابن حمزة الجزائري (المعروف أيضا بابن حمزة المغربي في بعض المؤلفات). لكنهم متفقون على أنه من مشاهير علماء الرياضيات في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي. وقد ولد ونشأ ابن حمزة بالجزائر العاصمة، وهو من أب جزائري وأم تركية. وحرص والده على تعليمه طوال فترة الطفولة فتعلم القرآن والحديث مظهرًا منذ ريعان شبابه موهبة خاصة في الرياضيات. وعند بلوغه سن العشرين لم يجد الوالد بالجزائر معلمين قادرين على تعليم ابنه فقرّر إرساله إلى اسطنبول عند أخواله حتى يتمكّن من مواصلة دراسته. واتجه بعد أن تمكن من العلوم إلى تدريس الرياضيات للأتراك وللقادمين إلى إسطنبول من أبناء العثمانيين المنتشرين خارج تركيا، ثم سرعان ما ذاع صيته والتحق في اسطنبول بديوان المال في قصر السلطان العثماني ليتولى الحسابات. وقد لقب ابن حمزة بـ"النسّاب" لأنه كان يعمل بما يسمى اليوم في مجال البحوث والدراسات بمبدأ "الأمانة العلمية" فينسب إلى صاحبه كل عمل يلجأ إليه في أعماله الرياضية. وهذا نوه بأعمال سنان بن الفتح (أوائل القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي)، وعلي الصدفي المصري (توفي 399هـ/1009)، وأبي العباس بن الهائم (753هـ/1352م-815هـ/1412م)، وأبي عبد الله بن غازي المكناسي (858هـ/1456م-919هـ/1513م)، وعماد الدين الكاشي (توفي عام 745هـ/1344م)، و نصير الدين الطوسي (597هـ/1201م-672هـ/1274م)، وأبو الحسن النسوي (نحو 1030م)، الخ.
ظل ابن حمزة في منصبه باسطنبول حتى بلغه نبأ وفاة والده الذي كان يقيم بالجزائر، فرحل إلى مسقط رأسه لرعاية والدته. وفي الجزائر العاصمة عمل ابن حمزة في المتاجر التي تركها أبوه، وكان يؤجرها لصغار التجار. لكنه سرعان ما باع كل أملاكه بالمدينة وقرر الرحيل رفقة أمه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج والإقامة بجوار الحرم المكي. وهكذا كان ابن حمزة في الحجاز يقوم بتدريس علم الحساب للحُجّاج القادمين إلى مكة المكرمة. فذاع صيته حيث كان يهتم بالمسائل الحسابية ذات العلاقة بما يحتاجه الناس في حياتهم اليومية، ومنها مسائل الميراث ونحوها. ويروى أنه سئل ذات مرة عن قضية ميراث – عرفت فيما بعد بالمسألة المكيّة- من قِبل أحد الحجاج الهنود أعيت الرياضيون الهنود دون أن يهتدوا إلى حلها.
ونص هذه المسألة هو: "ترك رجل تسعة أولاد، وقد توفي عن إحدى وثمانين نخلة. تعطي النخلة الأولى في كل سنة تمرًا زنته رطل واحد، والثانية تعطي رطلين. والثالثة ثلاثة أرطال. وهكذا إلى النخلة الحادية والثمانين التي تعطي واحدا وثمانين رطلا." السؤال: المطلوب توزيع النخلات على الورثة بحيث يكون لكل ولد منهم تسع نخلات تعطي نصيبا من التمر يساوي نصيب كل واحد من بقية الإخوة.
وقد تمكن ابن حمزة من حلّها مقدما تفاصيلها في جدول (ما زال موجودا في الكتب التي تناولت هذه المسألة) يبيّن نصيب كل وريث. ولما بلغ الوالي العثماني بمكة حل هذه المسألة، طلب منه أن يعمل في ديوان المال، فقبل ابن حمزة ومكث في هذا المنصب نحو خمسة عشر عاماً. اهتم ابن حمزة اهتماما بالغا بما يعرف في الرياضيات بالمتواليات (أو المتتاليات) الهندسية والحسابية والربط بين هاتين الفئتين من المتواليات، فقادته أبحاثه في هذا المجال إلى وضع أسس ما يعرف باللوغريتمات. وقد صبّ تلك الأفكار الأصيلة في كتابه الشهير" تحفة الأعداد لذوي الرشد والسداد" الذي ألفه في مكة باللغة التركية.
واختصارا لهذه الفكرة نقول إن هناك عمليات حسابية أربع في الرياضيات، هي الجمع والطرح والضرب والقسمة. ويضطر الذين يمارسون الحساب إلى الانتقال من عملية إلى أخرى خلال إجراء حساباتهم المختلفة. ولذا لا بد من إيجاد معابر يتنقلون بواسطتها من عملية إلى أخرى دون الكثير من العناء. وقد استطاع الجبر فتح معبر للانتقال من الجمع إلى الطرح ومن الضرب إلى القسمة. لكن ظل الانتقال من الضرب إلى الجمع ومن القسمة إلى الطرح غير متوفر. وكان سنان بن الفتح قد فتح هذا الباب، قبل ابن حمزة، في كتاب حول "الجمع والتفريق" حيث تناول موضوع الانتقال من الضرب والقسمة إلى الجمع والطرح. إن الخاصة الأساسية للوغاريتم تتمثل في كونه يحوّل عملية الضرب إلى عملية الجمع ويحول عملية القسمة إلى عملية الطرح. أين يكمن إسهام ابن حمزة؟ إنه يكمن في دراسة هذا التحويل.
وينسب الغرب ومن حذا حذوهم ابتكار اللوغاريتمات إلى العالمين الأنكليزيين جون نابيير Napier (1550م-1617م) وهنري بريكس Briggs (1556م-1630م)، ويضيف بعضهم السويسري جوست بورجي Burgi (1552م-1632م). فالأول عمل في المتواليات الهندسية والحسابية وأتى بلفظ "لوغاريتم" عندما واجه مسائل حسابية معقدة مرتبطة بالتجارة وعلم الفلك واقتنع أنه من الأفضل إيجاد سبيل يسمح بتحويل عملية ضرب الأعداد إلى جمعها. وكان نابيير يرى اللوغاريتم على أنه يسمح بإنشاء جداول يكون في أحد أعمدتها جداءات يقابلها عمود يحمل مجاميع. أما بريكس فقام بعملية اختصار، حيث رأى من الأفضل استخدام النظام العشري في بعض الحسابات. ثم أتى بورجي فطور جداول نابيير.
عندما ينظر المرء إلى ما قام به ابن حمزة في دراسة المتواليات الهندسية والحسابية ويقارنها بعمل نابيير فسيجد فيها الكثير من نقاط الالتقاء، علما أن عمل ابن حمزة سبق عمل نابيير بأزيد من عقدين. يقول مؤرخ العلوم قادري حافظ طوقان في هذا الموضوع : "ولو أن ابن حمزة استعمل مع المتوالية الهندسية المذكورة المتوالية العددية التي تبدأ بالصفر، … لكان اخترع اللوغريتمات الذي أوجده نابيير وبورجي بعده –أي بعد ابن حمزة – بأربع وعشرين سنة" [تراث العرب العلمي قي الرياضيات، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ودار الشروق، بيروت، 1968، ص. 86.] ثم يضيف: "ما دار بخلدي أني سأجد بحوثا لعالم عربي كابن حمزة هي في حد ذاتها الأساس والخطوة الأولى في وضع أصول اللوغاريتم.".
وبطبيعة الحال فإن سبق ابن حمزة في هذا العمل لا يعني أن نابيير اطلع على عمله وسرقه منه دون الإشارة إليه. فهذا ما لم يتم ثبوته. لقد ذكرنا أن ابن حمزة ألف كتابا، وهو الوحيد الذي وصلنا ولا ندري هل له مؤلفات أخرى. يقول صالح زكي حول هذا الكتاب إنه "من أكمل الكتب الحسابية" [صالح زكي: آثار باقية، اسطنبول، 1329هـ.]. ويضم الكتاب مقدمة وأربعة فصول وخاتمة. فجاء في المقدمة حديث عن الحساب وأصول الأرقام. وتضمن الفصل الأول عملا حول الأعداد الصحيحة والعمليات عليها. ويدرس الفصل الثالث موضوع الكسور والجذور ونحوها. أما الفصل الثالث فيدرس المعادلات والجبر والمقابلة. ويتناول الفصل الرابع موضوعا في الهندسة يتعلق بالمساحات والحجوم. كما تضمن الكتاب مجموعة من المسائل الهامة، منها مسائل طريفة.
بعض المراجع:
- بروكلمن : تاريخ الأدب العربي، ليدن، 1947-1949.
- حاجي خليفة، كشف الظنون في أساس الكتب والفنون، ج. 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت، ص. 221.
- الدفاع علي عبد الله: العلوم البحتة في الحضارة العربية الإسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1981.
- صاعد الأندلسي: طبقات الأمم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيرون، 1985، صص. 171-172.
- سعد الله، أبو بكر خالد: ابن حمزة الجزائري (ق 10/ 16 م): مدرس الرياضيات في مكة المكرمة، مجلة الدارة، ع 4، 2008، صص 105 116.
- طوقان قدري حافظ، تراث العرب العلمي قي الرياضيات، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ودار الشروق، بيروت، 1968.
- بوعمران، الشيخ وآخرون: معجم مشاهير المغاربة، جامعة الجزائر، 1995، صص. 171-173.
- صالح زكي: آثار باقية، اسطنبول، 1329هـ
- Lamrabet D. : Introduction à l’histoire des mathématiques maghrébines, Imp. Al -Maarif Al-Jadida, Rabat, 1994.
بريد الكاتب الالكتروني: sadallah@hotmail.com