هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران الكندي. يرقى بنسبه إلى ملوك قبيلة كنده القحطانية التي موطنها في حضرموت وعمان. ولد بالكوفة حوالي عام 800م، وكان والده أميراً عليها في عهد المهدي وهارون الرشيد. بلغ منزلة كبيرة لدى المأمون وخليفته المعتصم الذي عينه مدرسًا خصوصيًّا لأبنائه. وتوفي عام 873 وترك عند وفاته عددا كبيرا من المؤلفات في مجالات مختلفة كالفلسفة والرياضيات والفلك والطب والكيمياء والموسيقى. ويلقب الكندي بفيلسوف العرب، ويعرف عند اللاتينيين باسم .Alkindus
نشأ الكندي في البصرة ودرس بها، وتتلمذ على يد أشهر العلماء في بغداد. عمل كمترجم في بيت الحكمة وبرع في هذه المهمة وهو ما يستنتج من تكليف المأمون له بترجمة مؤلفات أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان. وعده ابن أبي أصيبعة من حذاق الترجمة في الإسلام إلى جانب حنين بن إسحاق وثابت بن قرة وعمر بن الفرخان الطبري. وكان من أوائل مترجمي المؤلفات اليونانية إلى العربية. كما كان الكندي عارفا بالسريانية وقام بترجمة العديد من الكتب من هذه اللغة إلى العربية من بينها كتاب بطليموس "الجغرافيا في المعمور من الأرض". وقد مكنته هذه المهنة من الاطلاع الواسع على أمهات كتب المعرفة لدى اليونان والهند والفرس في شتى المجالات ودراستها والاستفادة منها. ويقول الدكتور أحمد فؤاد الأهواني مؤلف كتاب "الكندي فيلسوف العرب" إن القدماء اختلفوا في النعت الذي يلقب به الكندي فسماه بعضهم فيلسوف العرب وأطلق عليه البعض الآخر فيلسوف الإسلام ويقول عنه ابن النديم في الفهرست "فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها ويسمى فيلسوف العرب" ويعود ذلك إلى أن الفترة التي ظهر فيها الكندي على مسرح الفكر كان معظم المشتغلين بالعلم والفلسفة من السريان والصابئة.
إسهاماته في الطب والموسيقى
إضافة إلى الفلسفة التي غاص في أعماقها وحاز قصب السبق فيها، برع الكندي في مجالات مختلفة من العلوم منها الطب. وقد أورد ابن النديم أسماء ما يزيد عن عشرين رسالة ألفها الكندي في الطب غير أنه لم يبقى منها ما يمكن الاستدلال منه على منهجه في التطبيب والعلاج. من ذلك رسالته في طب أبقراط ورسالة في تدبير الأصحاء ورسالة في كيفية الدماغ وغيرها. وتبرز اسهاماته في الطب في محاولته تحديد مقادير الأدوية على أسس رياضية. وبذلك يكون الكندي هو أول من حدد بشكل منظم جرعات جميع الأدوية المعروفة في أيامه. وتذكر المصادر المختلفة قصة –ان ثبتت صحتها- تدل على براعة الكندي في الطب ورسوخ قدمه في هذه الصناعة. وتذكر القصة أن أحد جيران الكندي كان من كبار التجار وأصيب ابنه بسكتة فجأة فلم يدع في مدينة السلام (بغداد) طبيبا إلا ركب إليه طلبا للعلاج لكن دون جدوى. فقيل له أنت في جوار فيلسوف زمانه وأعلم الناس بعلاج هذه العلة. فدعى الكندي للحضور وألح عليه فأجاب. فلما رأى حال ابن التاجر استدعى أربعة من تلاميذه في علم الموسيقى ممن أتقن ضرب العود. وأمرهم بأن يديموا العزف عند رأس المريض بأنغام حددها لهم. فلم يزالوا يعزفون حتى قوي نبض المريض وبدأ يتحرك ثم جلس وتكلم. ويقول أحمد سعيد الدمرداش في مبحثه حول "تاريخ الفيزيقا عند العرب" إن الكندي هو صاحب أول مدرسة للموسيقى في الإسلام وقد تطورت هذه المدرسة فيما بعد على يد الفارابي. ومن أشهر كتب الكندي في هذا المجال والتي ظلت مرجعا لمن بعده "كتاب في خبر صناعة التأليف" و"كتاب في المصوتات الوترية" و"الرسالة الكبرى في التأليف". والسلم الموسيقي عند الكندي هو نفسه سلم الموسيقى العربية المستعمل اليوم ويشتمل على اثنتي عشرة نغمة.
في الرياضيات والفلك
وقد عاش الكندي في عصر امتزجت فيه ثقافات مختلفة أبرزها الثقافتان اليونانية والهندية وكان للعرب فضل التقدم بعلوم جديدة وفقت بين الثقافتين وهو ما سمح –كما يقول الدكتور الأهواني- بتطوير علم الحساب اليوناني من خلال أخذ أمرين عن الهند وهما الصفر والأرقام الحسابية إذ كان اليونانيون يستعملون الأحرف في كتابة الأعداد وقد شارك الكندي في هذه الحركة التي جمعت بين حساب الهند وأرثماطيقا اليونان وألف رسالتين هما "مدخل إلى الأرثماطيقا" و"رسالة في استعمال حساب الهند".
كما تميزت المرحلة التاريخية التي عاش فيها الكندي ببداية تحول علماء الفلك العرب عن التراث الفلكي الهندي والفارسي إلى علم الفلك اليوناني المجسد في نظرية بطليموس. وقد ساهم الكندي في هذا التجديد إلى جانب فلكيين آخرين ممن عاصروه أبرزهم أبو معشر الفلكي وسند بن علي وبنو موسى بن شاكر. ويقول المستشرق نللينو أن الكندي كان أول من قام من الفلكيين العرب بتعديل عدد منازل القمر التي كانت ثمانية وعشرين منزلا لدى العرب في الجاهلية إلى سبعة عشرين ليتطابق عددها مع عدد المنازل لدى الهنود. وبلغت مؤلفاته في مجال علم الفلك 16 مصنفا ترجم أغلبها إلى اللاتينية لا يزال بعضها موجودا رغم ضياع أصله العربي وقد بلغت مكانته في أوروبا في العصر الوسيط حدا جعله يُصنف من بين ثمانية أكبر علماء الفلك. ووضع رسالة في صناعة الساعات شرح فيها كيفية تصميم ساعة على سطح افقي ورسالة أخرى في صنع الاسطرلاب.
في الكيمياء
أما في الكيمياء فقد عارض الفكرة القائلة بإمكانية استخراج المعادن الكريمة أو الثمينة كالذهب، من المعادن الخسيسة. وكتب في ذلك رسالة سماها "كتاب التنبيه على خدع الكيمياويين" كما ألف رسالة سماها "رسالة في كيمياء العطر والتصعيدات" تناول فيها صنع أنواع كثيرة من العطور المعروفة آنذاك كالمسك وذكر عددا من الطرائق لتحضيره. كما تطرق الكندي في هذه الرسالة إلى عمليات كيمائية عديدة كالترشيح . وألف الكندي رسالة ثالثة سماها "كتاب الجواهر" صنف فيها الجواهر إلى أنواعها واتخذها البيروني فيما بعد أحد مصادره في كتابه "الجماهر في معرفة الجواهر"". وفي رسالته حول السيوف وأنواعها تطرق الكندي إلى تعدين الحديد وأنواعه ووصف طرائق صنعها من حيث كمية المواد والمدة التي يتعرض فيها الحديد إلى النار وكيفية التبريد. ويعتبر الدكتور فاضل أحمد الطائي في مؤلفه "أعلام العرب في الكيمياء" هذه الرسالة أول دليل مختبر في الكيمياء الصناعية.
وكان للكندي اسهامات في علوم أخرى كالبصريات التي ألف فيها كتاباً كان له تأثير فيما بعد على روجر بيكون (Roger Bacon) ووايتلو (Witelo) وغيرهما كما يقول آلدو ميلي. كما أن الكندي كان مهندساً بارعاً، يرجع إلى مؤلفاته ونظرياته عند القيام بأعمال البناء، خاصة بناء القنوات، كما حدث عند حفر القنوات بين دجلة والفرات.
مؤلفاته
اختلف المؤرخون في تقدير عدد الكتب التي ألّفها الكندي وهي تتراوح بين 230 و300 ما بين رسالة وكتاب. وذكر ابن النديم انها 241 مصنفا موزعة على 17 مجالا من مجالات المعرفة منها الفلسفة، والفلك، والحساب، والهندسة، والطب، والفيزياء، والمنطق، والمد والجزر، وعلم المعادن، وأنواع الجواهر. ومن هذه المؤلفات كتاب "رسالة في المدخل إلى الأرتماطيقى " وكتاب "رسالة في استعمال الحساب الهندسي" و "رسالة في علل الأوضاع النجومية" و"رسالة في صنعة الإسطرلاب" و"رسالة في الأدوية المركبة" و"رسالة في الموسيقي" و"رسالة في المد والجزر". وقد ترجم "جيرار الكريموني" في القرن الثاني عشر للميلاد، الكثير من كتب الكندي إلى اللغة اللاتينية. فكان لها تأثير كبير على تطور العلوم على امتداد عدة قرون. وعنه يقول المستشرق آلدو ميلي في كتابه "العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي" إن الكندي كان عالما موسوعيا جامعا للعلوم وقد أثرت كتبه التي ترجمت إلى اللاتينية تأثير كبيرا في الأوروبيين. غير أن أغلبها مفقود ولم يبق منها إلا ما يقارب الخمسين كتابا. وتميزت العديد من هذه المؤلفات بكونها صغيرة الحجم ولا يتجاوز عدد صفحاتها العشر صفحات.
بريد الكاتب الالكتروني: gharbis@gmail.com