قبلَ ظهورِ الجامعات بمفهومها الحديث، ظل الإنسان مَهُوسا بالمعرفة وحُبِّ الاكتشاف والسعي وراءَ الحقيقة وتفسيرِ الظواهر الطبيعية المألوفة والغريبة، والرغبة في اقتحام الآفاق وسَبْرِ أعماق الكون، هذا السَّعْيُ مَكَّنَه من اكتشاف الكثيرِ والكثير مِن الحقائق العلمية، وإزالة اللبس والغموض عن كثيرٍ من الظواهر الطبيعية، وإدراك مكونات الأجسام وخاصيات المواد، وتفاعل السوائل والغازات بعضُها مع بعض، وغيرِها مِن المعلومات والحقائق التي استطاع الإنسان تحصيلَها عبر قرون من البحث والملاحظة والاستنتاج والتجريب.
تاريخ النشر العلمي
كان لابد مِن مشاركةِ المجتمعِ هذه الاكتشافات وهذه المنجزات العلمية، لأهداف كثيرة جدا منها، ضرورة تغيير نظرة المجتمع الخاطئة للأشياء والظواهر، وفهم حقيقتِها فهماً علميا لا خُرافيا، بالإضافة إلى حُبِّ إثبات الذات وتأكيد التفوق والقدرة على الإنجاز. فكانت إعلان هذه الاكتشافات بمثابة النسخة البدائية لـ "النشر العلمي" الذي نعرفُه اليوم. قبل أن تظهرَ الصُّحف والمجلات ووسائل الإعلام والاتصال المختلفة القديمة منها والحديثة، كان يتم الإعلان عن الاختراعات والاكتشافات والابتكارات العلمية التجريبية، إما عن طريق تقديم هذه الاكتشافات وهذه المعارف بشكل مباشر للناس أمام حشودٍ من المشاهدين، وغالبا ما يكون هذا التقديم في حرم الجامعة أو في الساحات والفضاءات العمومية، أو في حدائق وبَهْوِ قصورِ الحكَّام والنبلاء والشخصيات الاعتبارية النافذة.
يكن إعلان هذه الاكتشافات العلمية في الماضي بالأمر السهل مثلَ ما هو الحالُ اليوم، فكثير من هذه الإنجازات العلمية لم يلقَ قبولا من طرف الجهات الرسمية. ولقد دفع كثيرٌ من العلماء حياتَهم ثمنا لاكتشافاتهم وإنجازاتهم العلمية، وأرغمتْ (الجهات الرسمية) آخرين على التراجع عن سَبْقِهِم العلمي حفاظا على أرواحِهم، وذلك بسبب تعارض هذه الحقائق العلمية مع المعتقدات الدينية وتهديدِها لمصالح السلطة الحاكمة. أما في مجال العلوم الإنسانية (الدراسات والأبحاث والنظريات)، فإن ما يَجِدُّ مِنها كان مقتصرا على المثقفين المُهتمين والباحثين ذوي الاختصاص المشترك، وظل تأثيرُها محدودا في الرأي العام محدودا نوعا ما.
منابر النشر العلمي
تهيمن المجلات العلمية المُحَكَّمة على منابر النشر العلمي، وهذه المجلات في معظمها تكون تابعة لجهات أكاديمية بحثية كالجامعات والمعاهد والمؤسسات العلمية، ويُشرف عليها أساتذة جامعيون أو باحثون متفرّغون لغرض المراجعة والتحكيم. وكثير من هذه المجلات تُلزم الباحث بالدفع لقاءَ نشر أبحاثِه. وتكتسب هذه المجلات سُمعتَها العلمية وقيمتها الاعتبارية من تاريخ إنشائها وطول مدة صدورِها ونوعية البحوث التي تَنْشُرُها، بالإضافة إلى نوعية الباحثين الذين يُمدُّونها بالمادة البحثية، وكذا بحجم مقروئيتِها (عدد قرائها). إلا أن كل هذه الاعتبارات ليستْ الفيصل في الحُكم على المجلات بالجودة أو الضعف، ويبقى الفيصل في تحديد قوة المجلة في حجم انخراطِها في معامل التأثير شريطة أن تكون مسجَّلة في إحدى الفهارس الإلكترونية. مؤخراً ظهرتْ أعداد كبيرة من المجلات (العلمية) تحت مسميّات كثيرة تابعة لمؤسسات النشر والتوزيع، أو عبارة عن استثمارات خاصة تتربَّحُ مِن رسوم الاشتراك وتكاليف النشر و طباعة الأبحاث والأوراق العلمية المطلوبة والمرغوبة من طرف شريحة معينة من الباحثين ببيع نسخ كثيرة منها، بالإضافة إلى تخصيص هوامش مهمة للإشهار داخلَ وعلى غلاف المجلة.
تعتبر مجلة (نيتشر / Nature ) المجلة العلمية الأولى في العالم، وقد حازتْ هذه المكانة المرموقة بسبب أقدميَّتِها، إذ لم تتوقف المجلة عن الصدور منذ إطلاقِ أولِ عددٍ منها سنة 1896م، هذا إلى جانب جودة وجِدَّة البحوث التي تنشرها، حيث تُعتبر نيتشر المِنبرَ العِلْمِيَّ المفضّل لدى أشهرِ العلماء في العالم، خاصة علماءِ الفيزياء وعِلم الأحياء، وفي السنوات الأخيرة تبوَّأتْ المجلة المراكز الأولى في مُعاملات التصنيف المختلفة، بسبب جودة منشوراتِها العلمية، وارتفاع نِسَبِ الاستشهاد بها في البحوث الخارجية المختلفة. وفي سنة 2012م، تم إطلاق النسخة العربية من مجلة نيتشر، هذا المشروع اضطلعتْ به مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية ، والتي تكلَّفتْ بإتاحة جميع المواد العلمية لنيتشر على الموقع الإلكتروني لكلٍّ من الصحيفة ومدينة العلوم والتقنية مجاناً. لقد صار بالإمكان اليوم تعزيز مبدأ التخصص وحَصْرِ بَوْتَقَتِه، بفضل الوسائل الرقمية الحديثة التي تمنح خاصية الفرز والتصنيف والانتقاء. فصار ما يَجِدُّ في حقل من الحقول العلمية أو المعرفية، يصل إلى كل المهتمين والمتابعين الذين يستطيعون التعامل مع الأزرار، ويُجيدون تصفح الأنترنت.
الابتذال في النشر العلمي
واليوم، وبعد أن حققتْ البشرية ثورة لا نظير لها في مجال الاتصال بكل أنواعِه، فإن النشر العلميّ أصبح من فرائض البحث العلمي، ورُكناً مِن أركانِه الأكاديمية، إذ لا يمكن اليوم تصور أبحاثٍ دون نشر، إلا أن هذا النشرَ العلميَّ قد تعدى في بعض الأحيان كثيرا من حدودِه العلمية وغاياتِه المعرفية، وفقدَ كثيراً من وقارِه وهيبتِه الأكاديمية، ليصيرَ مُوضة الألفية ووسيلةً مِن وسائل التجارة واقتناص الفرص وتحقيق عوائدَ ماديةٍ ومكاسب وظيفية. صار النشرُ العلميُّ اليوم، معيارا لتقييم الباحث أو العالم، وانضاف إلى هذا المعيار معيارٌ آخر يتمثل في عدد المتابعين والمواكبين والقارئين لِمنشورات هذا الباحث والمستشهِدِين بها، فأصبح بعض الباحثين اليوم، يتبارون في تسمين عدد مُتابعيهِم في صفحات التواصل الاجتماعي، ويعمدون إلى حيل مُختلفة لتوسيع مقروئية كتاباتِهم. وبعض الباحثين الذين استطاعوا تحقيق نجاح معتبر خاصة في مجال التأليف، صاروا محطّ أنظار دور النشر، الذين يتسابقون عليهم ويعرضون عليهم عوائد مُجزية، لقاء انخراطهم مع دور النشر هذه في تجارة الورق والطباعة واحتكار السوق، وبيعِ حزمة من الأوراق بأثمنة باهظة، لدرجة تعدى فيها الأمر حدود المعقول والمقبول، فأصبح كثيرٌ من الباحثين اليوم أصحاب دعاية وإشهار بَدَلَ أن يكونوا أصحاب عِلم ومعرفة.
هل يحتاج الباحث إلى نشر أبحاثه؟
هذا النشر فرضتْه العولمة التي اكتسحتْ واقتحمت كل شيء، والذي لا ينخرط في هذا الحَراك العالمي المُعَوْلَم، لن يستطيع أن يؤثر أو يغير أو يقترح. كما أن عدم المشاركة والانخراط في الحراك العلمي العالمي، واستثمار ثورة الاتصال المتاحة (وسائل الإعلام – مواقع التواصل الاجتماعي – ندوات – تأليف..) يُفوِّت على الباحث تَحْيِينَ معلوماتِه ومعارفِه، وسيحرمه كذلك من مواكبة الأبحاث والدراسات التي تَجِدُّ في مجال تخصصه، وبالتالي تكون مردودية هذه العيِّنة من العلماء متدنية علميا وعتيقة مِن حيث الطرح والأفكار، هذا الانعزال يجعل الباحث يعيش غُرْبَة ووَحْشَة علمية إلى جانب غربتِهِ عن محيطِه وعصِره بسبب انعزاله التام وتقوقُعِهِ على نفسه. يظل الباحث كثيرَ النشر والمشهور عُرضةً للخُفُوت والتقهقر والطمس بمجرد توقفِه عن النشر، مما يدفعه إلى مزيد من الإنتاج والنشر ولو بشكل متباعد في المجلات الدورية وفي الصحف الورقية والالكترونية وعلى موقعه الخاص، أو في صفحاتِه على مواقع التواصل الاجتماعي للحفاظ على موقعِهِ التصنيفي والاعتباري. مما يجعل هذه العينة من الباحثين في إنتاج مستمر بِغَضِّ النظر عما ينشرون هل هو فعلا بحوثٌ علمية، أو مادة دعائية تسويقية الهدف منها البقاء في الواجهة.
عوائد ومنافع النشر العلمي
بالنسبة للأساتذة الجامعيين الباحثين تتنوع منافع النشر العلمي وتختلف باختلاف نوعية الباحث الناشر، فالأساتذة الجامعيين مثلا، يُمَكِّنهم النشر العلمي من الحفاظ على حظوظهم في الاستفادة من الوظائف الموازية التي تعرضها الجامعات ومعاهد التعليم العالي عبر العالم، كما يُمَكِّنهم النشر المُستمرُّ من الترقية في وظائفهم، وتحسينِ وضعِهم المادي وتمويل أبحاثِهم ومشاريعِهم العلمية، كما يساعدهم النشر المستمر على مُضاعفة حُظوظِهم في الفوز بإحدى الجوائز الوطنية أو الدولية، أو الحصول على الدكتوراه الفخرية من الجامعات العالمية. أو الحصول على منحة دولية لتمويل أبحاثِهم ومشاريعهم العلمية، أو الحصول على ترقيات في السُّلم الوظيفي. هذا، بالإضافة إلى مضاعفة حظوظِهم في الحصول على مهامٍّ وظيفية أخرى موازية، كما أن الباحثين المُكثرين من النشر العلمي، يرسمون صورة مُشَرِّفة للمؤسسة التي ينتمون إليها، وبالتالي تكون الفائدة مشتركة ومُتبادلة بين الباحث والمؤسسة التي يعمل لديها، مما يَرفع من قيمتِها العلمية ويُعلي من شأنِها الأكاديمي، ويجعلها وجهة معتَبَرةً للطلبة والباحثين داخل وخارج البلاد، ومَحَطَّ أنظار المؤسسات والمراكز العلمية المختلِفة، الراغبة في إنشاء شراكات أو توقيع اتفاقيات تعاون.
فالنشر العلمي المستمر، يعني المواكبة المستمرة والبحث الدائم. هذه الخاصية تجعل الباحث مواكِبا ودائمَ الاطلاع على كل ما يَجِدُّ في تخصُّصِه، كما يجعله مُتَمَكنا وقادرا على مضاعفة انتاجاته والتعمق أكثر في أبحاثِه ودراساتِه. ومع توالي السنوات يُكَوِّنُ الباحث ذخيرة مهمة جدا من الأبحاث والدراسات التي راكمها عبر سنوات بحثه، فيصبح ذا خبرة علمية معتبرة. وذا إنتاج علميٍّ غزير. هذا الانتاج العلمي يتم طبعه على شكل كتب ومراجعَ ومؤلفات، وبالتالي يُحس الباحث بالرضا النفسي والاطمئنان الداخلي لِمَا حققه من جُهد علمي ومعرفي سيُفيد الأجيال القادمة من الباحثين الشباب، وسيُمَكنهم من الانفتاح على عوالم معرفية وفكرية وعلمية مختلفة، وربطِ علاقات علمية وأكاديمية مع جهات أخرى ذات الاهتمام المشترك، هذا الأمر ينعكس إيجابيا على الطلبة الذين يدرسون عند هذه العينة من الأساتذة الجامعيين الباحثين، كما أن الطلبة الذين يُحَضِّرُون رسائلَهم تحت إشراف هذه العينة، تَكُون المردودية العلمية لرسائلهم وأطروحاتِهم جيدة جداً.
بالنسبة للطلبة الباحثين
الطلبة المُحبون للبحث والمُتفانون فيه يُحققون مكاسبة كثيرة وفوائد عظيمة، فمُعظمهم يستفيدون مِن منح التعليم العالي التي تمنحها الجامعات الخارجية (الأوروبية والأمريكية وجامعات بعض الدول كاليابان والصين وتركيا). كما يُمَكِّنهم النشر العلمي مِن رفع حظوظهم في الالتحاق بجامعات خارجية في إطار البعثات الطلابية، كما يفيدُهُم النشر العلمي كذلك في تحسين مستواهم المعرفي وموقعهم الأكاديمي باستدعائهم لِشَغْلِ منصبِ أستاذ مساعد، كما أن منشوراتِهم العلمية تُقوي سِيَّرهُم العلمية، وتزيد من حظوظهم في الحصول على وظيفة قارة أو الحصول على درجة عليمة كالماجستير أو الدكتوراه.
خلاصة
لم تتوفر للعلماء والباحثين في القرون الماضية ما توفر لنُظرائهم اليوم من إمكانيات ووسائل وظروف مثالية واستثنائية، ورغم ذلك استطاع العلماء في تلك الأزمنة أن يفرضوا مركزهم العلمي ويسوقوا اسمهم في الأمصار، مُتكبدين في ذلك مشاق السفر والحل والترحال والفقر والخطر والتهديد بالقتل أو الحرق أو السجن …، لا لِغرضِ الشهرة، ولكن للوصول إلى المعلومة أو لبلوغ مُعلِّمِها، وتحصيل المعارف والوقوف على حقائق الأشياء، وتفسير الظواهر وإشباع فضول النفس في التحري والاكتشاف. كما لم يكن هدف هؤلاء العلماء النشر العلمي والحصول على قَصَبِ السَّبْقِ في نيل الشواهد والجوائز والمَكرُمات والتزكيات، بل كان كل اهتمامِهم مُنصبًّا حول العِلم والتعلم، والإفادة والاستفادة وبَذْلِ هذه المعارفِ في سبيل تسهيل حياة الناس وتيسير سُبل عبشهم. واليوم ترتفع بعض الأصوات من حين لآخر داعيةً إلى الانتقال إلى النشر الالكتروني الحر (الوصول المفتوح) للأوراق البحثية، وذلك لتسهيل الوصول إليها من طرف الباحثين عبر العالم، خصوصا الذين لا يستطيعون اقتناء المجلات الورقية المحكمة أو دفع رسوم الاشتراك أو النشر الباهظة، وإنهاء سيطرة واحتكار هذه المجلات للبحث العلمي، والحد من ابتزازِها الباحثين للدفع مقابل نشر أبحاثهم، كما سيخفف النشر الإلكتروني المفتوح الضغط على الطلاب والباحثين الجامعيين المطالبين بالنشر في مثل هذه المجلات لِغَرَضِ استيفاءِ شروطِ المناقشة ونيل شهادة التخرج.
بريد الكاتب الالكتروني: bachoud.houssaine@gmail.com