بدأ كثير من الجامعات في العالم يعي أهمية الرياضيات في أمرين؛ الأول منهما تعليمها كمتطلب جامعي لكل طلاب الجامعة، بغض النظر عن اختصاصاتهم الجامعية، وذلك في الجامعات التي تتبنى نظام الساعات المعتمدة. وهذا كثيراً ما نجده في الجامعات المتميزة في العالم. وهدفها من ذلـك هو تزويد خريجيها بمهارات عقلية خاصة تمنحهم القدرة على المحاكمة العقلية السليمة، واكتساب القدرة على التفكير المنطقي، والتحليلي، والاسـتـدلال الكمي، والتفكير النقدي، الـذي أضحى من أهم مواصفات خريج الجامعة في هذا العصر.
إن الرياضيات تمنح دارسها القدرة على التجريد، التي تساعده على «رؤيـة» أشياء يصعب أن يراها غيره. لأن قوام عملية التجريد، ببساطة، هي ّالتخلص من كل ما ليس له قيمة في السياق، والتركيز على «العلاقات» التي تتحكم بهذا السياق، ً وصولاً إلى التفكير المفاهيمي الـذي يعد ًضـروريـاً في بعض الـدراسـات. لذلك يقول الرياضي البريطاني – الأمريكي المعاصر كيث ديفلن Devlin Keith في كتابه مدخل إلى التفكير الرياضي Introduction to Mathematical Thinking إن الرياضيات تجعل غير المرئي ً مرئياً». ويصعب تحقيق كل تلك المواصفات، للخريج الجامعي، بعيداً من تدريس الرياضيات، التي تساعد طبيعتها في نمو هذه ُحسن تدريسها. المواصفات، إن أُحسن تدريسها.
الأمر الثاني الذي بدأت تهتم به عديد من الجامعات في العالم المتقدم هو في زيادة جرعة الرياضيات في معظم الاختصاصات العلمية، والنظرية، على حد سواء. فلم يعد هناك حقل معرفي يستطيع أن ينأى بنفسه عـن تأثير الـريـاضـيـات. بـل أضحى كثير مـن الجامعات المتميزة يعتمد مناهج الرياضيات نفسها للمختصين لتدريسها لغير المختصين. لأنه من المعروف أن عديداً من مناهج الرياضيات لغير المختصين على نحو الجامعات (ومنها معظم الجامعات العربية) تدر مختلف كثيراً عـن مناهج المختصين. حيث ّ تـركـز مناهج غير المختصين على تـدريـس نصوص المبرهنات (النظريات) الرياضية، والنتائج، وتطبيقاتها، دون الخوض في الجوانب النظرية، التي تعد من النوافل، وأنها تثقل كاهل الطالب، من وجهة نظر هؤلاء. أي أن هذه المناهج تكون مجتزأة، وذات طابع «خدمي» بحت، ولا يدخل هذا الطالب في عمق المفاهيم الرياضية، بل يبقى ً عائما عند هوامشها. لذلك يبقى الطالب (غير المختص)، في هـذه الحالة، ً غريبا عن تلك المفاهيم، ويفتقد المرونة العقلية اللازمة لتطبيق الرياضيات في مجال اختصاصه العلمي، لأنه لا يعي، ً تماما، أواصر قرابتها مع اختصاصه، وأنها اللغة التي يمكن أن نستعملها للتعبير عما تعجز عنه اللغات الأخرى لفهم ما يجري في عديد من الحقول المعرفية. فضـلاً عن أن هذا يلغي دور الرياضيات التربوي.
وهـذه القوة الساحرة للرياضيات المعاصرة نابعة مما تحتويهِ من تجريد كبير، وهـذا على خلاف ما يتوقعه بعضهم. فصحيح أنها أصبحت أكثر تجريداً مع تزايد تطورها، بيد أنها أضحت أكثر «تعبيراً» عن الواقع، من الرياضيات التقليدية التي كانت ّ تركز على إجـراء «الحسابات» على اخـتـلاف أنـواعـهـا. لأن «الشحنة الـفـكـريـة» الـتـي أصبحت تحملها الـريـاضـيـات الـحـديـثـة، وبخاصة الـريـاضـيـات الـمـعـاصـرة، كـانـت على حـسـاب تـراجـع العمليات الحسابية، وضـمـورهـا، حيث أصبح الحاسوب (الكومبيوتر) يقوم بجزء كبير منها. وهـذه «الشحنة الفكرية» سهلت على الرياضيات الحديثة الاهـتـمـام بمجالات رحـبـة جـديـدة، ذات طبيعة فكرية. كما ّ أهلتها لأن تتناول أمــوراً كان يصعب على الرياضيات التقليدية الولوج إليها، أو حتى مقاربتها.
وصحيح أن هـذا أضفى عليه نوعاً من الصعوبة، وتتطلب مكابدة ذهنية خاصة، وهذا شيء طبيعي، بسبب تجريدها العالي، بيد أن ذلك منحها سمة غير متوقعة، وتبدو، للوهلة الأولـى، أنها متناقضة ً ذاتيا. وهي أنها تكون أكثر تعبيراً عن الواقع، كلما كانت أكثر تجريداً، على الرغم من أن ذلك يجعلها أكثر تعقيداً. في حين أن تعبير الرياضيات البسيطة عن الواقع يكون ً ضعيفا، وتـزداد وتيرته مع زيادة تجريدها. وربما أوضح مثال على ذلك، يعرفه الجميع، هو أن مبرهنة (نظرية) فيثاغورث المعروفة (في الرياضيات المدرسية) التي تنص على أنه: «في المثلث القائم الزاوية، يكون مربع الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمين»، تعبيرها عن الواقع محدود جداً، ومن ثم تطبيقاتها ليست واسعة، ومحصورة في حالات المثلثات القائمة فقط. في حين أن التطبيقات العملية للمنطق الضبابي (العائم) Fuzzy Logic، مثـلاً، عديدة جداً، يصعب حصرها، لأنها في نمو دائم، وطيفها واسع جداً، وفي عديد من الحقول المعرفية المتباعدة.
بدءاً من الذكاء الصنعي Artificial Intelligence في علوم الحاسوب Computer Science ، ومروراً بتطبيقاته في علم الدلالة (Semantics) وهو فرع من اللسانيات والمنطق يهتم بدراسة المعنى في اللغات، وفي أنظمة الامتحانات الجامعية التي تعتمد النظام النسبي (الذي يعتمد على معالجة الدرجات الخام، وترتيب الطلاب بالنسبة إلى بعضهم)، ً بدلا من النظام المطلق (الـذي يستخدم الـدرجـات الخام كما هـي، والشائع استخدامه في بلادنا العربية) وصولاً إلى دراسة تقارير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) أي أن الرياضيات الحديثة بدأت تعالج ً طيفا ً واسعا من المواضيع الشائكة ذات الطابع الفكري، وتقدم ًحلولاً ناجحة في هذا الخصوص، بسبب طبيعتها الصورية المتقدمة جداً.
كان هذا جزء من مقال شيق ومفيد نشر في عدد كانون الأول/ ديسمبر الجاري 2016 من مجلة المستقبل العربي
بريد الكاتب الالكتروني: mbakir49@gmail.com