مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

NULL

تسمية عناصر الجدول الدوري .. تشريفٌ أمْ تكليف

الكاتب

الكاتب : أ.د/ أحمد بن حامد الغامدي

قسم الكيمياء، جامعة الملك سعود، الرياض

الوقت

03:36 مساءً

تاريخ النشر

20, ديسمبر 2016

أشتُهر عن عالِم الفلك الامريكي البارز "كارل ساجان" قولُه (إنه لو حصل دمار شامل لكوكب الأرض وطلب منه قبل أن يغادر الأرض لكوكب جديد أن يأخذ معه معلومة أو نظرية علمية واحدة فقط ليُنشئ بها حضارة جديدة، لكانت تلك معلومة هي (الجدول الدوري للعناصر الكيميائية)). وذلك نظرا لكون هذا الجدول يعتبر المرجع الأول في المادة الكيميائية وعناصرِها. وأثرِها البارز في تطور علم الكيمياء والعلوم المتصلة به. لذا تناقلت جميع وسائل الإعلام والصحافة الدولية هذا الخبر بمزيد من الاهتمام والحماسة. وفيما يخصنا نحن المتطفلين على ميادين أبحاث التطور العلمي، يكفي أننا تخلصنا أخيرا من إحراج النطق بالأسماء السخيفة والشنيعة المؤقتة لعناصر الجدول الدوري المكتشفة (أو المصنَّعة في المختبرات) مِن قبيل الاسم البشع للعنصر رقم 113 (أن أنترايومununtrium ) أو اسم العنصر رقم 117 (أن أنسبتيومununseptium ).

وقبل عدة سنوات قمتُ بنشر مقال حمل عنوان (تسمية عناصر الجدول الدوري .. بين اللغة والتاريخ) استعرضتُ فيه المراحل الزمنية المختلفة (المجهولة والتقليدية والأدبية الجمالية والتكريمية) لطُرُق وأسباب تسمية العناصر الكيميائية، وناقشتُ في نهاية المقال مشكلة الاسماء المؤقتة المستنكَرة للعناصر المتبقية، ولعل غالبية العلماء تنفسوا الصعداء بعد هذا العناء في نطق تلك الاسماء الثقيلة.

الجدير بالذكر أنه منذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأ العلماء يستخدمون أسلوبا جديدا تماما في طريقة تسمية العناصر الكيميائية المكتشفة حديثا (وهي ما سميتُها بالمرحلة التكريمية) حيث أخذ العلماء والمكتشفون يكرمون بلدانهم أو عواصمَهم أو جامعاتِهم بإطلاق اسمائها على تلك العناصر الجديدة. ولكن في واقع الأمر لم يتم (تشريف أوتكريم) بعض العلماء بإطلاق اسمائهم على العناصر الكيميائية الجديدة إلا في عام 1945م وكان ذلك من نصيب العالمة الشهيرة "مدام كوري" صاحبة عنصر "الكوريوم رقم 96" ولم ينل هذا (التشريف العلمي الكبير) إلا ثلاثة عشر عالِما فقط. بالرغم من أن الجدول الدوري للعناصر (الكيميائية) هو في الأصل بيت الكيميائيين وميدان أبحاثهم، إلا أنهم أصابهم الغبن والحيف نتيجة أن غالبية العلماء الذين تم تشريفهم بإطلاق أسمائهم على بعض العناصر الكيميائية كانوا من الفيزيائيين، في حين كان عدد الكيميائيين المكرمين أربعة فقط، وربما كان هذا بسبب سطوة ومكانة علم الفيزياء بعد الحرب العالمية الثانية، أو كما قال عالم الفيزياء البريطاني الشهير رذرفورد (العلم هو الفيزياء والباقي جمع طوابع).ومن حسن الطالع أنه كان من الملائم جدا أن يكون أول كيميائي يتم تشريفه وتكريمه بإطلاق اسمه على عنصر كيميائي، هو عالم الكيمياء الروسي البارز ديمتري مندلييف الذي يلقب بأنه (أبو الجدول الدوري للعناصر) حيث أنه كان من أوائل من طرح فكرة التوزيع (الدوري) للعناصر الكيميائية.

أضاعوني وأي فتىً أضاعوا

صحيح أن مندلييف تم تشريفه بعد وفاته بحوالي نصف قرن بإطلاق اسمه على العنصر رقم 101مندلييفيوم Md وذلك في عام 1955، إلا أن كلَّ منصف يشعر أن هذا التكريم المستحق لمندلييف جاء متأخر بشكل غير مقبول على الاطلاق. لا شك أن تشريف أي عالم بإطلاق اسمه على عنصر من عناصر الجدول الدوري يعني بالضرورة تميزه الفائق والبيّن في مجال الأبحاث العلمية، وهذا بدوره يتطلب (تكليف) المجتمع والدوائر العلمية بتكريمه بمنحه الجوائز العلمية المرموقة. كما هو معلوم، فإن أعرق وأهم جائزة علمية على الاطلاق هي (جائزة نوبل) والتي فاز بها ونالها حتى الآن 379 باحثا من علماء الفيزياء والكيمياء (و211 في الطب) وبحكم أن العلماء الذين استحقوا وضع اسمائهم في الجدول الدوري عددهم محدود جدا (14 عالما فقط) فهذا يشير إلى أن جودة وأهمية أبحاث هؤلاء العلماء الأربعة عشر تؤهلهم للفوز بجائزة نوبل، ولكن للأسف لم يكن هذا هو الحال. بعد مرور أكثر من قرن على بداية طرح جائزة نوبل، وعبر العقود الماضية، بدأت تتجمع شواهد وأخبار متوالية عن اللجان المشرفة على منح هذه الجائزة، حيث تؤكد هذه الاخبار علىوقوع أخطاء كارثية في اختيار (أو تجاهل اختيار) العلماء الجديرين بالفوز بهذه الجائزة في المجالات العلمية، حيث إن مشاكل وفضائح هذه الجائزة في شق الفائزين بها في مجال السلام أو الأدب معروفة للقاصي والداني.  أوضحُ مثالٍ لإخفاق جائزة نوبل في اختيار العلماء المؤثرين في مسيرة تاريخ العلم، أن هذه الجائزة لم تمنح للكيميائي الروسي ديمتري مندلييف السابق الذكر.

لقد كانت أول سنة يتم فيها طرح جائزة نوبل هي عام 1901م وبعد ذلك بسنة أوسنتين ظلت أكاديمية العلوم الروسية تقوم سنويا بترشيح مندلييف للفوز بجائزة نوبل في الكيمياء دون أن يلقى هذاالطلب آذان صاغية من القائمين على الجائزة. في واقع الحال وقع نقاش حاد في عام 1906م حول الأشخاص المرشحين لجائزة نوبل في الكيمياء، وبالرغم من حماس بعض العلماء لمنحها هذه المرة لمندلييف، إلا أنه استقر قرار لجنة جائزة نوبل على منحها لكيميائي أقلَّ بكثير في مؤهلاتِه وأثره العلمي من مندلييف، حيث منحت الجائزة للكيميائي الفرنسي هنري مواسان نظيرَ نجاحه في استخلاص عنصر الفلور من مركباته، بينما الكيميائي الأسطورة الذي نجح قبل ذلك بعقود من الزمن في التوصل لاكتشاف هام لجميع عناصر الجدول الدوري، لم ينل اعجاب هيئة الجائزة. الجدير بالذكر أن مندلييف توفي عام 1907 بعد عدة أشهر فقط من فرصته الأخيرة لنيل جائزة نوبل وهو في سن الثالثة والسبعين، ولا يُعلم إن كان لهذه الحادثة المؤسفة أي أثر في إضعاف روحه المعنوية حيث أن سبب الوفاة المعلن هو إصابته بالأنفلونزا.

كيميائي آخر (أو كيميائية بالأحرى) لاقت الاهمال والصدود من لجنة جائزة نوبل، ثم احتضنتها العناصر الكيميائية في بيتها الدوري، تلك هي عالمة الكيمياء النمساوية "ليز مايتنر" مكتشفة ظاهرة الانشطار النووي (لذا تلقب بأم القنبلة النووية !!) فغالبا بسبب التمييز الجنسي ضد النساء تم استبعدُها من طرف لجنة جائزة نوبل وحرمانُها من الفوز بالجائزة في الكيمياء لعام 1944م، بينما مُنحت الجائزة فقط لزملائها من الرجال أمثال عالم الكيمياء الألماني "أوتو هان". وفي عام 1997 وبعد حوالي عشرين سنة من وفاة "ليز ماينتر"تم تشريفها وتكريمها بأن أطلق اسمها على العنصر الكيميائي رقم 109 والذي أصبح يعرف باسم مايتنريوم Mt وقد جاء هذا التتويج كوسيلة من المجتمع العلمي للتكفيرِ عن الظلم والحيْف والتحيز البالغ الذي طالهذه العالمة، لنكون بذلك ثاني وآخر امرأة بعد السيدة كوري تكرم بإطلاق اسمها على أحد عناصر الجدول الدوري.

للأسف الشديد ولأمور وتعقيدات سياسية وعلمية بل وحتى دينية تجاهلت، لجان جائزة نوبل منح هذه الجائزة لعدد من أهم وأبرز مشاهير العلوم ونخص بالذكر عالم الفيزياء البريطاني "اللورد كالفن" وعالم الفيزياء الأمريكي "جيبس" وكلاهما من رواد وعُمداء علم الديناميكا الحرارية "الثيرموديناميك" وكذلك تم تجاهلُ عالمِ الكيمياء الأمريكي "لويس" (صاحب أشكال لويس التي يستخدمها جميع طلاب الثانوية) إضافة إلىإهمال عالم الفلك الأمريكي البارز "إدوارد هابل"وكذلك أسطورة العلم المعاصر الفيزيائي البريطاني "ستيف هاوكنغ". وكل هذه الأمثلة وغيرها كثير تشي بأنه توجد أحيانا بعض صور ومناحي الخلل في آلية عمل لجان جوائز جائزة نوبل حتى في المجالات العلمية والطبية، وفي المقابل تم منح هذه الجائزة المرموقة لشخصيات علمية دون المستوى، ولولا خشية الإطالة لاستعرضت بعض هذه الفضائح العلمية وردود الأفعال حيال الاختيار الغريب والضعيف لبعض الفائزين بهذه الجائزة.

من التكريم الأكبر إلى التكريم الأصغر

للعنصر الكيميائي رقم 118 مكانة مميزة وفريدة في دنيا العلم، فهو حاليا آخر عنصر مكتشف/ مُصنَّع من عناصر الجدول الدوري، كما أن له حادثة نادرة حصلت في السادس من شهر يناير 2016 فبعد تسمية هذا العنصر باسم أوغانيسونOganesson  (Og 118) وذلك على اسم عالم الفيزياء النووية الروسي "يوري أوغانيسيان" أصبح هو العنصر الوحيد الذي اجتمع فيه ميزتين: سمي على شخص ما زال على قيد الحياة، وهذا الشخص (ويا للعجب) لم يحصل على جائزة نوبل. ينبغي أن نقول بهذه المناسبة، إن الشخصية العلمية التي نالت شرف أنها كانت أول إنسان في التاريخ يحمل اسم عنصر كيميائي وهو على قيد الحياة كانت في واقع الأمر عالم الكيمياء الأمريكي "غلين سيبورج" والذي تم تكريمه عام 1997م بإطلاق اسمه على العنصر الكيميائي رقم 106 والذي أصبح يعرف باسم سيبورجيوم Sg 106 وبهذا خُلد لسيبورجبتلك الصورة الشهيرة وهو يشير بإصبعه للعنصر المسمى باسمه في الجدول الدوري. صحيح أن سيبورج حصل على هذا التشريف الأسطوري وهو في خريف العمر، حيث توفي بعد سنتين فقط من هذا التكريم إلا أن "غلين سيبورج" قد تم تكريمه بالطريقة التقليدية منذ وقت مبكر جدا بحصوله على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1951 نظير اسهامه في تصنيع عشرة من عناصر الجدول الدوري، كان أخطرَها عنصر البولتونيوم المستخدم في تصنيع القنبلة الذرية.

لا شك أن قيام "غلين سيبورج" وفريقه العلمي بإنتاج عشرة من العناصر الكيميائية، هو إنجاز علمي يستحق عليه جائزة نوبل، ولكن السؤال المهم هو: هل ستستمر لجنة جائزة نوبل في تجاهل العلماء المتميزين خاصة العلماء الروس وإقصائِهم من قائمة الفائزين بنوبل وتقديم نُظرائهم الأمريكيين لأخذ الجائزة ؟؟

هناك علماء روس على درجة عالية من الخبرة والكفاءة، فلقد استطاع العالم الروسي "يوري أوغانيسيان" من تصنيع ثلاثة من عناصر الجدول الدوري (114 و 115 و 118) تعرف بالعناصر الفائقة الثقل super heavy elements  كما أن لأبحاثه النظرية أهمية كبيرة في إثبات مفهوم العناصر الكيميائية الضخمة المستقرة (فيما يعرف بنظرية جزر الثابتية). من هذا وذلك أعتقد أنه بعد التشريف للعالِم "يوري أوغانيسيان" بإطلاق اسمه على آخر عنصر كيميائي (التكريم الأكبر) ربما يتوجب تكليف لجنة جائزة نوبل أن تمنحه الجائزة (التكريم الأصغر) فليس من المقبول أو المستساغ أن يحصل عالم على أهم تشريف وتكريم علمي يمكن أن يحلم به أي عالم، وهو وضع اسمه على الجدول الدوري، ثم يُحرَم بعد ذلك من الحصول على جائزة نوبل.

بريد الكاتب الالكتروني: ahalgamdy@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x