أدى توسع رقعة الدولة الإسلامية سريعا في بداية العصر الإسلامي إلى دخول شعوب مختلفة الثقافات واللغات تحت سيطرتها وتسارع التفاعل بينها وبين العرب مما مكن من الاطلاع على ما لدى هذه الشعوب من معارف وعلوم من ناحية وعلى انتشار اللغة العربية لغة الدولة الرسمية فنشطت حركة مبكرة للترجمة أسست لفترة ازدهار للعلوم ونقلت مشعل السبق العلمي إلى الحضارة العربية الإسلامية. ولئن كانت العوامل الدينية والسياسية قد لعبت دواراً أساسياً في انتشار اللغة العربية في جميع أرجاء الدولة الإسلامية فإن حركة ترجمة العلوم من مشارب وثقافات مختلفة إلى العربية هي التي مكنتها من أن تخلف اللغة الإغريقية كلغة للعلم على مدى قرون طويلة.
يقول ابن صاعد الأندلسي في كتابه طبقات الأمم أن أمة العرب كانت في صدر الإسلام لا تعنى بشيء من العلم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد من العرب غير منكرة عند جماهيرهم لحاجة الناس إليها ولما كان عندهم من الأثر عن النبي في الحث عليها حيث يقول: " يا عبادَ اللهِ تَداوَوَا، فإِنَّ اللهَ لم يضَعْ داءً إلَّا وضعَ لَهُ دواءً، غيرَ داءٍ واحدٍ: الهرمُ". من أوائل الأطباء الحارث من كلدة الثقفي في عصر النبيء وكان تعلم بفارس واليمن وبقي إلى أيام معاوية، ومنهم ابن أبي رمثة التميمي وهو الذي قال: رأيت بين كتفي النبيء خاتم النبوة فقلت له إني طبيب به دعني أعالجه فقال أنت رفيق والطبيب الله. ولم تصبح اللغة العربية من الناحية الأكاديمية لغة مقننة إلا في القرن التاسع ميلادي. فقد أصبح نحوها وتركيباتها وألفاظها محددة وواضحة بفضل الاعتماد على النص القرآني الكريم الذي ورد فيه ﴿ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ (سورة النحل).
ومع امتداد الدولة الإسلامية في عهد الأمويين من شمال افريقيا إلى وسط آسيا أصبح من رعاياها شعوب ذات خلفيات لغوية وثقافية وحضارية مختلفة وضمت مناطق نفوذها مراكز علمية وثقافية عديدة أبرزها مدرسة الإسكندرية التي ورثت العلوم الاغريقية ونافست أثينا كمركز للفكر اليوناني وخاصة للأفلاطونية الجديدة، ومدارس جند نيسابور وأنطاكية وحران ونصيبين وغيرها من المراكز العلمية المنتشرة في غرب الدولة وشرقها. وكانت هذه المدارس تضم مجموعات مختلفة الأهمية لمصنفات يونانية في شتى المجالات. وكان من رعايا هذه الدولة السريان وهم شعوب من أعراق مختلفة يدين أغلبهم بالمسيحية ويسكنون مناطق تمتد بين بلاد الرافدين وفلسطين. وكانت السريانية همزة الوصل بين العربية واليونانية وأسهم السريان إسهاما ضخما وبصفة خاصة في الترجمة من اليونانية للعربية. وإلى جانب العامل الديني الذي دفع الذين اعتنقوا الإسلام حديثا إلى تعلم العربية للقيام بواجباتهم الدينية، كان قرار عبد الملك بن مروان بتعريب الدواوين وجعل العربية لغة رسمية لكتابة العقود والسجلات عاملا حاسما نشر العربية في أرجاء الدولة وتولدت حاجة ملحة للترجمة في مجالات كثيرة منها الإدارية والاقتصادية والعلمية.
وقد ظهرت بوادر حركة الترجمة العلمية في عهد الدولة الأموية، كما تؤكد العديد من المصادر مع الأمير الأموي خالد بن يزيد في أواخر القرن السابع ميلادي وهو أول من عني بنقل علوم الطب والكيمياء للعربية، وكلف جماعة من اليونانيين المقيمين في مصر أن ينقلوا كثيرا من الكتب اليونانية التي تناولت صناعة الكيمياء والفلك. وتمت ترجمة أول كتاب من اليونانية إلى العربية وهو كتاب "أحكام النجوم" الذي ألفه الحكيم "هرمس". كما أبدى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز اهتماما بالترجمة من خلال تكليفه للطبيب اليهودي البصري "ماسرجويه" بترجمة أول كتاب في الطب ألفه الطبيب "أهرون" -الذي عاش في الإسكندرية -من السريانية إلى العربية. وكان من أشهر المترجمين في العصر الأموي يعقوب الرهاوي الذي نقل الكثير من الكتب من اليونانية إلى العربية.
ولما قامت الدولة العباسية اتجهت ميول الخلفاء العباسيين -الذين كانوا أكثر انفتاحا على العناصر غير العربية وخاصة الفرس-إلى معرفة علوم الفرس واليونان: فعني أبو جعفر المنصور بترجمة الكتب ونقل له إسحاق بن حنين بعض كتب ابقراط وجالينوس في الطب كما نقل عبد الله بن المقفع –فارسي الأصل-كتاب كليلة ودمنة من الفهلوية وترجم كتاب "السند هند" وكتاب اقليدس إلى العربية. وقد زادت العناية بترجمة الكتب في عهد هارون الرشيد الذي تشير الكثير من المصادر إليه باعتباره مؤسس بيت الحكمة في بغداد.
وفي عهد المأمون قويت حركة الترجمة العلمية من اللغات الأجنبية وخاصة الفارسية واليونانية فأرسل البعوث إلى القسطنطينية لإحضار المصنفات الفريدة في الفلسفة والهندسة والطب. وروى ابن النديم أن المأمون كتب إلى ملك الروم يسأله في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المدخرة ببلد الروم فأجاب إلى ذلك بعد امتناع. فأخرج المأمون جماعة منهم الحجاج بن مطر وابن بطريق وسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا فأمرهم المأمون بنقلها إلى العربية. وسار على منواله جماعة من الميسورين في عهده بنقل كثير من الكتب إلى العربية. ومن هؤلاء محمد وأحمد والحسن أبناء موسى بن شاكر الذين أنفقوا أموالا طائلة في الحصول على كتب الرياضيات وقد أنفدوا حنين بن إسحاق إلى بلاد الروم فجاءهم بطرائف الكتب وفرائد المصنفات كما يقول ابن النديم.
وكانت الترجمات في النصف الثاني من القرن الثامن ميلادي أغلبها من السريانية إلى العربية أما في القرن التاسع فكان أغلبها من اليونانية مباشرة. وقد بلغت حركة الترجمة أوج نشاطها خلال القرنين التاسع والعاشر وشملت معظم التراث اليوناني في الفلسفة والطب والفلك والرياضيات والطبيعيات.
لقد أجمع القدماء أن حُذاق الترجمة في الإسلام أربعة وهم حنين بن إسحاق وثابت بن قره وعمر ابن الفرخان الطبري ويعقوب ابن إسحاق الكندي، إلا أن حنين ابن اسحاق يبقى أشهرهم وأمهرهم على الإطلاق. وكان المترجمون يحرصون على الحصول على أفضل ما يستطيعون الوصول إليه من النسخ ومن ذلك أن حنينا كان لا يبدأ الترجمة قبل أن يقارن بين النسخ اليونانية المختلفة ليختار أكثر دقة وأجودها. وحين لا يحصل إلا على مخطوط واحد من كتاب فإنه كان يعود إلى تنقيح ترجمته متى وقعت بين يديه نسخة جديدة. كما كان يصلح كثيرا من ترجمات غيره.
ولم تخلو اللغة العربية قبل بداية حركة الترجمة من المصطلحات العلمية. وكانت الألفاظ الطبية العربية موجودة قبل حركة الترجمة وإن كانت مفرداتها قليلة كالحجامة والكي والكحالة والصيدلة والجراحة وأسماء الأدوية المسخنات والمبردات والمرطبات والمسهلات والمخدرات والمراهم وأسماء الأمراض وأعراضها كالصداع والكابوس والصرع والتشنج والذبحة والربو. وقس على ذلك في مجال الفلك والأنواء. لذلك استخرج المترجمون من هذه الألفاظ ما يفيد المعنى المقصود في النصوص المترجمة. كما عربت بعض الألفاظ اليونانية وأطلقوا عليها كلماتها الأصلية مثل الاسطرلاب والمنجنيق والزبرجد والزمرد والياقوت ومقاييس وأوزان رومانية كالقيراط والأوقية وأسماء طبية أو نباتية كالقولنج والبرقوق كما أخذت العربية من اللغة الفارسية مفردات كثيرة أصبحت شائعة مثل التخت والصك والكاغذ والفرسخ والدست والدفتر والدولاب وغيرها. ولم تقتصر تلك النهضة العلمية على تنويع الألفاظ بل تجاوز ذلك إلى التراكيب كما يقول جورجي زيدان في كتابه "اللغة العربية كائن حي" وهو ما أكسب العربية قدرة على توصيف الظواهر العلمية بكل دقة. لقد كان لحركة الترجمة هذه أثر كبير في إثراء اللغة الضاد بالمصطلحات الطبية والكيميائية والطبيعية والرياضية والفلكية وإدخال مفردات جديدة لا حصر لها نتيجة جهود المترجمين والعلماء الذين جعلوا التراث الفلسفي والعلمي اليوناني متاح للعقل العربي الإسلامي الذي حمل مشعل الفكر والعلم الإنساني لقرون طويلة.
المصادر
- حسن ابراهيم حسن، "تاريخ الاسلام" الجزء الثاني ص 282 دار الجيل بيروت
- مريم سلامة-كار، الترجمة في العصر العباسي ترجمة نجيب عزاوي-منشورات وزارة الثقافة سوريا
- جورجي زيدان، "اللغة الربية كائن حي" ص 51 دار الجيل بيروت
- عبد الحليم محمود "التفكير الفلسفي في الاسلام" ص 200 وما بعدها دار المعارف
- خالد يوسف صالح، "حركة الترجمة في بلاد الشام في العصر الأموي"
- مؤنس مفتاح، "الترجمة عند العرب: "من عهد الخليفة المأمون إلى مدرسة طليطلة"
- ابن النديم ، "الفهرست"
- ابن صاعد الأندلسي، "طبقات الأمم"
بريد الكاتب الالكتروني: gharbis@gmail.com