لَمْ يَصْدُر النحو العربي عن انفعال عاطفي، بل عن ابتكارٍ علميّ له خصائصُه ومنهجُه الرياضيّ القائمُ على مجموعة مِن القواعد المضبوطة، فتحققَ بذلك عِلما قائما بذاتِه له أُصولُه وقدراتُه الإنجازية، ونظرياتُه المؤسَّسَة على مبادئ المنطق الرياضي، وما يقتضيه من ملاحظة المعطيات والظواهر اللغوية وتحقيقِ التواؤمِ الـمُمْكن بينهُما، ثم الانطلاق من هذه المعطيات لصوغ الفرضيات المستمدة من التفسيرات الـمُتوصَّل إليها، ثم المرور إلى مرحلة اختبار ملاءمة الفرضيات للواقع اللغوي، وذلك بإجراء ملاحظات وتمارين جديدة، فاذا ثبتَ عدم تناقضِها، صِيغَت نظريةً لغوية تُفسِّر قضايا اللغة وآلياتِها.
النحو العربي مجموعةٌ من القواعد المعيارية، التي استغرق اكتمالُها ونضوجُها وقتا طويلا من الزمن قد يُناهِز القَرْنيْن من الزمن. فكان ثمرةَ تفكيرٍ عِلميّ ومنطقيٍّ من عُلمائنا اللغويين والنحويين الأوائل، أما ما يَشيع في موضوعِ جَمْعِ اللغة وتَقْعِيدها فثَمَّةَ من الروايات المتضاربة والـمُضطربة الكثير، خاصة فيما يتعلّق بالدوافع التي أمْلَتْ وضع هذا العِلم ومَن تكفَّل بوضعِه والسياقات التي وُضِع فيها.
بعض الروايات تقول؛ إن علياً بن أبي طالب (رضي الله عنه) هو أولُ من وضع النحو. وأكثرُ الروايات ذيوعا وشُهرة؛ تلك التي تقول "إن عليا (رضي الله عنه) أوعزَ إلى أبي الأسود الدُّؤلي بوضع هذا العِلم (النحو)". بعضُ الروايات الأخرى غير المشهورة تقولُ؛ إن عمرَ بنَ الخطاب (رضي الله عنه) هو من وضعَ عِلم النحو؛ بعدما استشعرَ خطرَ ذُيُوع اللَّحْن بين العرب. ومنهم من قال إنه "زِيَّاد بن أبيه" وهناك روايات تقول؛ إن "أبى الأسود الدؤلي" اسْتَشْعَرَ خَطَرَ شيوع اللَّحْن بين العرب بسبب توافد القبائل غير العربية على جزيرة العرب؛ واختلاطِ الألسُنِ نتيجة توسُّعِ الدولة الإسلامية. ومن الروايات المتداولة في هذا الباب؛ "أنَّ أبا الأسود الدؤلي سمِعَ قارئا يقرأ آية من سورة الحاقة إلى أن قال: (لا يأكلُهُ إلا الخاطئين) بدل ﴿ الخاطئون﴾ ففزِع لهذا فزعا شديداً وباشرَ التقعيد لعِلم النحو. إلا أن هذه الرواياتِ كلِّها لا تعدوا أن تكون استشعارا لخطر اللَّحْنِ على اللغة العربية فقط. أما النحو باعتبارِه علِما فقد جاء نتيجة سلسلة طويلة من النَّظر والبحث والدراسة والتجريب وتَرَاكُمِ النتائج والمعطيات.
النَّحْوُ العربيّ والمَنطقُ الرّياضيّ: عرَّف الشيخُ الرئيس ابن سينا المنطقَ بقوله "هو الصناعة التي تُعرِّفنا مِن أيِّ الصوَر والمواد يكونُ الحدُّ الصحيحُ الذي يُسمى بالحقيقة حدّاً، والقياسُ الصحيح الذي يُسمى بالحقيقةِ بُرهانا" فالمنطق؛ حدٌّ وقياسٌ وبرهانٌ وتعليل، وعِلم المنطق هو المعيار الصحيح للمعرفة، والميزان الأقوَمُ لبلوغ الحقيقة، إنهُ يَضع القوانين ويبحث في المبادئ العامة للتفكير الصحيح، ويُعنى بوجهٍ خاص بتحديد الشروط التي تُهيئ لنا الانتقال من أحكامٍ معلومةٍ إلى ما يَلزمُ عنها من أفكار أخرى، فعِلم المنطق يُنَسِّقُ العمليات العقلية الكلامية. إن العِلمَ الرياضيَّ، عِلمُ استنباطٍ بُرهاني يَقِينِيّ، يقوم على مبادِئِ الذاتيةِ وعدم التناقض، والثالثِ المرفوع، تماما كعِلم المنطقِ القائم على مبادئ الاستنباط والقياس، فالصلة بينهما صلةُ تكاملٍ وتشابُه، ولا يُمكن فصلُ الفكر المنطقي عن الفكر الرياضي، وعلوم اللغة منبثقة أساسا عن فكرٍ عِلمي قِوامُه المنطق، وبالتالي لا يجوز فصل قوانينِها عن خصائص العِلم الرياضي، الـمَبني أساسا على عِلم المنطق.
يَقود المنطق الرياضي إلى أفكار منطقية مرتبةٍ ومُتماسكة، تَنْتُج كلُّ فكرةٍ عمَّا تَقَدَّمَها من براهينَ منطقية، إلا أنه لابد حتما مِن الوصولِ إلى أفكارٍ لا يقوم عليها برهان، عندها يتم نقلُها كما هي، وهذه الأفكار يُسميها العِلم الرياضي مفاهيما أو أفكارا أولية، يبدأ بها، أو يَنطلق من قضايا أولية لا برهان عليها، فتُقبل مِن دون برهنة، وتسمى بالمبادئ الأولية أو المسلمات، وهي لا تحتاج إلى تعريف، ثم تبرهَنُ كل قضية استنادا الى قضايا مبرهَنَة وهكذا دواليْك. فالمنطق الرياضي يستند في نظامه على فكرة الثوابت والمتغيرات، فالثوابت ينطلق منها العلِم البرهاني لإظهار المتغيرات المشتقة من تبدل العلاقات التي تربط بين هذه الثوابت.
يستند المنطق الرياضي في نظامه الى فكرتيْ "الثوابت" و"المتغيرات".
- الثوابت؛ يَنطلق منها العِلم البرهاني، لإظهار المتغيرات المشتقة من تبدل العلاقات التي تربط بين هذه الثوابت.
تُظهِرُ عمليةُ رصدٍ دقيقة، أن ما نعثرُ عليه من علاقات في الرياضيات نجدها كذلك في اللغة، لأن الفكرةَ المنطقية تكون في العقل الذي هو الـمُنطلق، وتتجسد صورتُها في المستقر الذي هو التعبير. ولكي تُـؤديَ هذه التعابير وظيفة دلالية لا تتناقضُ والفكرة التي تَبنى العقل إصدارَها، لابد أن تتحكم في انتظامِها السِّياقي علاقاتٌ مُرتبة ترتيبا منطقيا ومعقولا، فكما أن العنصر الرياضي لا قيمة له إلا ضمن العلاقات التي يَحضُر فيها، كذلك فإن العنصر اللغوي لا قيمة له في ذاته، بل في وظيفته الأدائية التي يؤديها من خلال علاقته مع غيره (التركيب).
فاللغة مؤسَّسَةٌ على نماذجَ كلاميةٍ أسلوبية، تتمتع بخاصية تحليليةٍ جوهرُها العنصر اللغوي، وصورتُها العلاقات القائمة بين أجزائها.
- يستطيع العالِم النحوي أن يكتشف بأدواتِ المنهج العلمي، حقيقة هذه العلاقات ويحددَ ماهيتَها ويجعلها أساسا يقاس عليه، لذلك قال ابن جني "إن اللغوي شأنه أن يَنقل ما نَطَقَتْ به العرب ولا يتعداه، وأما النحوي فشأنه أن يتصرف فيما يَنقلُه اللغوي ويقيس عليه".
نقلَ اللغويين الأوائل ما نطقتْ به العرب بدقة، وحرصوا على وصول اللغة كاملة الأداء والتعبير، متماسكةَ البنيةِ والخصائص، فأعانتْ البنية المتماسكة علماءَ النحو على تحقيق الاستقراء وانطلقوا بدراستهم من الواقع اللغوي، فدرسوا العناصر والعلاقات بينها، وتوصلوا إلى حُكمٍ يكون قضية يقاس عليها في عملية البرهان، ومنه انطلقوا للوصول إلى قوانين عامة. وقام العالِم العربي اللغوي بعمليتيْ التحليل والتركيب، اللتيْن تشكلان جوهرَ كلِّ عِلمٍ منطقي، فهو يعود إلى الوراء بفعلٍ ارتداديّ ليَدْرُسَ جُزئيات اللغة، ثم يُرَكِّبَ النتائج التي توصل إليها، ولكن لا بد لكل عملٍ برهاني من وضع الفرضيات التي تولدُها عملية الاستقراء، ولتحقيق هذه الغاية، استعان علماء النحو بالفكر المنطقي العلمي التحليلي، فلاحظوا ترابط الألفاظ ودلالاتِها المعنوية، من خلال عملية التركيب منطقية رياضية تجمع النحو باعتبارِه (منطقا لغويا) والمنطق باعتبارِه (نحوا عقليّا)، وهذه العلاقة قائمة، دائمة ومستمرة بين المنطق والنحو. وقد شبَّهها "الفرابي" بعلاقة المنطق بالعقل والمعقولات فقال "وهذه الصناعة، (أي صناعة المنطق)، تناسب صناعة النحو، وذلك أن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ، فكل ما يُعطينا علم النحو من قوانين في الألفاظ، فإن عِلم المنطق يُعطينا نظيرَها في المعقولات".
أكدتْ الدراسات اللغوية المعمقة؛ أن العلاقة بين المنطق والنحو لها تَجَلٍّ واضحٌ في الدراسات النحوية. فالمنطقَ ميزانُ الفكر، واللغة هي القالبُ الذي يصُبُّ فيه هذا الفكر. لذلك مَزجوا النحو بالمنطق.لقد راعى "الرمّاني في كلامِه عن النحو، التقسيماتِ المنطقية وعلل الأحكام تعليلا منطقيا، واشترط على العاملين في الحقل النحوي، أن يُلموا بأصولِ المنطقِ وقواعدِه لكيْ تأتيَ آراؤهُم مقبولةً إذا ما أُخضِعَتْ للمقاييس العقلية". وقد كان ابن جني يضع الفرضية ويطرح السؤال، ثم يُجيب عنه بالبرهان، لإثبات صحة الفرضية أو خطئها، ومثالُه: "إن المُسندَ إليه فاعلٌ مرفوع، ثم سألَ ما سببُ رفعِ الفاعلِ؟ فأجاب؛ ارتفعَ بفِعْلِهِ، ثم طرحَ سؤالاً أخرَ هو؛ لِما صارَ الفاعل مرفوعاً؟ فبرّرَ الرفع بقوله؛ إن صاحبَ الحدثِ أقوى الأسماءِ؛ والضمَّة أقوى الحركات؛ فجعلَ الأقوى للأقوى". لقد برر ابن جني الاتفاق على اللغة وقواعدِها قائلا "إنها تتكرَّس في المجتمعات بِعقد بين المتكلمين بها، ثم جاءَ النحو عِلما على ما جاءَ مِن قولِهم، فهو مُنتزع من استقراء اللغة". فأثبتَ بذلك ابن جني، أن التعامل اللغوي كان مفهوما فطريا وطبيعيا بين أفراد المجتمع الواحد، ومجردا عن التوصيف.
لقد صيغتِ القوانينُ العُرفية على شكل قواعدَ قانونية تُطبَّقُ ويُقاس عليها، إذا عرَض حُكمٌ لغويٌّ لا قاعدةَ له، يتم القياسُ على القاعدة الأصل لوجود شبه بين القضيتيْن، فكان القياس في عرف العلماء "عبارةً عن تقديرِ الفرع بحُكم الأصل" وقيل "هو حمْلُ فرعٍ على أصلٍ بِعلة، وإجراءُ حُكمِ الأصلِ على الفرع". فإذا صَعُبَ القياس بحثوا عن الشبيه والنظير، وهذا ما عبَّرَ عنه ابن جني بقوله؛ "فإذا لم يَقُمْ دليل، فإنكَ مُحتاجٌ إلى إيجاد النظير". وقد وضع العلماءُ شورطا أربعةً للقياس وهي: "الأصل، الفرع، العلة، الحكم".
بريد الكاتب الالكتروني: bachoud.houssaine@gmail.com