اهتمت وسائل الإعلام العربية، ومواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً بنتائج مشروع «جينوجرافيك» الذي يستخدم علوم الوراثة الحديثة لدراسة الهجرة البشرية عبر الزمن. جاء ذلك بعد أن توصل الباحثون لاكتشافات مثيرة للدهشة عن التركيب الوراثي للعديد من دول العالم، وبصفة خاصة التركيب الوراثي لأربع دول من البلدان العربية. ونلقي الضوء في هذا المقال على المشروع ونتائجه لتصحيح بعض المفاهيم العلمية الخاطئة، والتفسيرات المتناقضة والمغالطات المضللة التي ظهرت مؤخراً نتيجة لتداول نتائج بحوث المشروع بشكل خاطئ عبر مقالات نشرت في العديد من الصحف، وبعض المواقع الإخبارية الشهيرة، وعبر تعليقات وتحليلات غزت وسائل التواصل الاجتماعي تفسر النتائج بطريقة غير صحيحة، وبأسلوب مثير للجدل، أو بطريقة عنصرية تستهدف الإثارة فقط بعيدًا عن المغزى العلمي لهذه النتائج الذي يجمع ولا يفرق.
مشروع «جينوجرافيك»
يحاول مشروع «جينوجرافيك» استخدام العلم لتقريب الناس لبعضهم البعض، في الوقت الذي فشلت السياسة فيه في لمّ شملهم. ويقوم مشروع «جينوجرافيك» بتصنيف البشر للإجابة عن العديد من الأسئلة المتعلقة بكيفية استيطاننا هذه الأرض، وذلك وفقاً للتركيبة الجينية للبشر من خلال تحليل الحمض النووي. ويعتمد مشروع «جينوجرافيك» على مجموعة مرجعيّة من السكان الأصليين، بحيث يتم وصف مواطن كل دولة بحسب تركيبته الجينيّة، وذلك استنادًا إلى المئات من عينات الحمض النووي التي أُخضعت لتحليلات وراثية حديثة ومتطورة.
بدأ مشروع «جينوجرافيك» في 13 أبريل عام 2005م من قبل الجمعية الجغرافية الوطنية "ناشيونال جيوجرافيك" وشركة "آي بي إم" بهدف استخدام العلم للإجابة عن أسئلة عديدة حول العرق وأصل البشر، ولدراسة الأنثروبولوجيا الجينية لسنوات متعددة. ويهدف المشروع إلى رسم خرائط أنماط الهجرة البشرية التاريخية من خلال جمع وتحليل عينات من الحمض النووي البشري. تم نحت اسم المشروع «جينوجرافيك» Genographic من كلمتين "جينوم"Genome وهو المحتوى الوراثي الكامل للفرد، و"جغرافية" Geographic ، وهو يأتي بمعنى "الجغرافية الجينومية" أو "المقارنة الجينوجرافية الفائقة". والمشروع ممول من القطاع الخاص، ولا يهدف للربح بالتعاون بين الجمعية الجغرافية الوطنية "ناشيونال جيوجرافيك" وشركة "آي بي إم"، ومؤسسة "ويت".
وفي خريف عام 2012م، أعلن مشروع «جينوجرافيك» الانتهاء من مصفوفة تنميط جيني جديدة، مكرسة لعلم الأنثروبولوجيا الوراثية (أو الدراسة العلمية الوراثية للإنسان، في الماضي والحاضر)، وسميت "الرقاقة الجينية" GenoChip «جينوشيب». تم تصميم «جينوشيب» خصيصا لاختبار الأنثروبولوجي (علم الإنسان) وتشمل التغيرات الفردية متعددة الأشكال للنيكليوتيد وتعرف اختصارا بـ (SNPs) للجينات الجسدية، وهي قواعد مفردة داخل تتابعات الجين تختلف عن تلك المتوافقة والموجودة في مجموعة فرعية من التجمع، والحمض النووي للكروموسومات الجنسية للأنثى "إكس" و للذكر "واى"، كما تعتمد على الحمض النووي الخاص بالميتوكندريا (mtDNA) . وجاء تصميم الرقاقة عن طريق جهد تعاوني بين الدكتور سبنسر ويلز من ناشيونال جيوجرافيك، والدكتور إران الحايك من جامعة جونز هوبكنز، وشركة "فاميلى تري دي إن إيه" أو شركة الحمض النووي لشجرة العائلة، وشركة إليومينا (Illumina) وهي شركة أمريكية مقرها في سان دييجو، كاليفورنيا، تأسست في عام 1998، وتقوم الشركة بتطوير وتصنيع وتسويق الأنظمة المتكاملة لتحليل الاختلاف الوراثي والوظيفة الحيوية. قام الدكتور سبنسر ويلز بقيادة المشروع من 2005-2015م، وقام الباحثون الميدانيون في 11 مركزاً إقليمياً في جميع أنحاء العالم بجمع عينات من الحمض النووي من السكان الأصليين. كما يبيع المشروع مجموعات الاختبار الذاتي "كيتس" لأفراد الجمهور العام. واعتبارًا من عام 2017، انضم أكثر من 800 ألف مشارك في أكثر من 140 بلدًا للمشروع.
التركيب الجيني العربي
يعطينا مشروع «جينوجرافيك» معلومات مثيرة للدهشة عن التركيب الجيني العربي، وأثبتت تحاليل الحمض النووي "دي إن إيه" الخاصة بالمشروع أن العرب ليسوا عربًا بشكل كامل تبعا لما أظهره التركيب الجيني العربي. ويورد مشروع «جينوجرافيك» قائمة بأسماء مجموعة مرجعية من السكان، حيث يتم توصيف ما يسمى "الوطني النموذجي" لكل بلد وفقا للتركيب الجيني. وتستند هذه النتائج على مئات من عينات من الحمض النووي وتحليلات الحمض النووي المتقدمة. وكانت أربع دول عربية ضمن قائمة السكان المرجعية. وفيما يلي بعض الاكتشافات المثيرة للدهشة عن التركيب الوراثي للسكان لهذه القوميات العربية المرجعية الأربع.
التركيب الجيني للمواطنين المصريين
أظهرت التحليلات الخاصة بالمشروع أن التركيب الجيني للمواطنين المصريين هو 68% من شمال أفريقيا و 17% من العرب، و4% من يهود الشتات، و 3% من كل من شرق أفريقيا وآسيا الصغرى وجنوب أوروبا. ويرى الباحثون أن الرابط بشمال أفريقيا يعود إلى أول هجرة للسكان القدماء من القارة السوداء، وذلك عبر الطريق الشمالي الشرقي باتجاه جنوب غرب آسيا. وأدى انتشار الزراعة إلى مزيد من الهجرات من الهلال الخصيب والعودة إلى أفريقيا، تماما كما كانت الهجرة جراء انتشار الإسلام انطلاقا من شبه الجزيرة العربية في القرن السابع للميلاد.
التركيب الجيني للمواطنين الكويتيين
ويبين التركيب الجيني للمواطنين الكويتيين الأصليين أن 84% منهم عرب و7% من آسيا الصغرى و4% من شمال أفريقيا و3% من شرق أفريقيا. ويفسر الباحثون هذا بأن المهاجرين القدماء قد مروا عند سفرهم من أفريقيا إلى أوراسيا عبر الشرق الأوسط، وأن بعض المهاجرين أحبوا المنطقة كثيرا لذلك قرروا البقاء حينذاك مطوِّرين أنماطًا جينية نقلوها إلى أجيال أخرى تالية. وقد يعود أصل الكويتيين إلى شمال وشرق أفريقيا نتيجة لتجارة الرقيق من قبل العرب التي كانت منتشرة بين القرن الثامن والقرن التاسع عشر.
التركيب الجيني للمواطنين اللبنانيين
ويعد التركيب الجيني للمواطنين اللبنانيين الأكثر تنوعًا من بين الجنسيات العربية الأربع. ويشمل التركيب الجيني لسكان لبنان الأصليين 44% من العرب و14% من يهود الشتات و11% من شمال أفريقيا و10% من آسيا الصغرى و5% من الجنوب الأوروبي و2% من شرق أفريقيا. ويفسر الباحثون هذا بأن بعض المهاجرين القدماء مروا عبر الشرق الأوسط عندما كانوا يسافرون من أفريقيا إلى أوراسيا. وأن بعض من هؤلاء المهاجرين قرر الإستقرار في لبنان أثناء عبورهم الشرق الأوسط، وطوروا أنماطًا جينية توارثتها الأجيال على مر الزمان. وأضاف طريق الحرير أنماطًا وراثية انتقلت من أقصى الشمال والشرق.
التركيب الجيني للمواطنين التونسيين
أهالي تونس لديهم تركيباً جينياً مثيراً جداً للاهتمام. فهم 88% من شمال أفريقيا، و 5% من دول أوروبا الغربية و4% من العرب، و 2% من غرب ووسط أفريقيا مجتمعة. تاريخياً، ساهم موقع تونس على البحر المتوسط إلى حد كبير في التنوع الوراثي الواسع النطاق، حيث وصل المكون العربي بوصول الزراعة من الشرق الأوسط، فضلا عن انتشار الإسلام في القرن السابع الميلادي.
خريطة جينية للتاريخ البشري
وضع المشروع أساس خريطة جينية للتاريخ البشري، كما كشف المشروع عن نتائج مدهشة لم تكن معروفة من قبل، حيث أظهرت البحوث أن لدى عدد من الدول الغير عربية بعض الجينات العربية، وهي تشمل: جنوب الهند، وسكان مدغشقر الأصليين، وشعب لوهيا في كينيا، وسردينيا، وجورجيا، وإندونيسيا، وطاجيكستان (جبال باميري)، وغرب الهند، وشمال القوقاز (بما في ذلك داغستان وأبخازيا)، ويهود الأشكيناز (اليهود الذين نشأوا في أوروبا الشرقية)، وإثيوبيا، وإيران. ومن المثير للدهشة أيضاً أن الإرث الجيني للإيرانيين قد وصل إلى 56% من التركيب الجيني العربي، أي أكثر عربية من الناحية الجينية مقارنة بثلاثة من أصل أربعة من الدول العربية المرجعية!. الدول غير العربية التي لديها بعض الجينات العربية: ويبدو أن الأمم المتجانسة ذات الأصول والأعراق التي تعود إلى المكان ذاته قليلة، حيث إن التداخل بين هذه الأمم والشعوب يجعل من سكان الكرة الأرضية بأكملها أمة واحدة متداخلة الأصول والأعراق والمنابت. وتشكل هذه النتائج صدمة في الوقت الذي تتناحر فيه الشعوب والأمم من أجل الحفاظ على بلدانها، فما الذي قد تفعله إذا اكتشفت أنّ لديك قريب يعيش في الطرف الآخر من المحيط؟
للإجابة على هذا السؤال أنتجت شركة "موموندو" للسياحة والسفر، خلال عام 2016، فيديو يظهر تأثير اختبارات مشروع «جينوجرافيك» على وجهات نظر الناس. وقد خضع 67 شخصاً من حول العالم لتحليل الحمض النووي، ومن ثمّ وُضعوا في غرفة حيث أُعلنت لهم النتائج بصوت عال. والفيديو التالي يظهر كيف تتغيّر وجهات نظر البشر من خلال نتائج وتطبيقات العلوم والتكنولوجيا الحديثة، وبصفة خاصة نتائج مشروع «جينوجرافيك» المثيرة للجدل.
بريد الكاتب الالكتروني: tkapiel@sci.cu.edu.eg