للبحث الدقيق يمكنك استخدام البحث المتقدم أدناه

يعتمد البحث السريع على الكلمات الموجودة داخل عنوان المادة فقط، أما البحث المتقدم فيكون في كافة الحقول المذكورة أعلاه

تجارب علمية في إجازة رأس السنة الميلادية

  • د. أحمد بن حامد الغامدي

    جامعة الملك سعود – الرياض - المملكة العربية السعودية

  • ما تقييمك؟

    • ( 3.5 / 5 )

  • الوقت

    09:25 ص

  • تاريخ النشر

    31 ديسمبر 2022

بعد شهورٍ طويلة من العمل الدؤوب والمتواصل، قد يتعرض البعض من الناس لحالةٍ حادة من الإرهاق الجسدي والإنهاك النفسي خصوصًا مع اقتراب موعد الإجازات في نهاية العام. وتُعرف ظاهرة انتهاء رصيد الطاقة الدافعة للعمل هذه بإسم "إرهاق أو احتراق نهاية العام" (end of year burnout). وفي المقابل هناك شخصيات مدمنة على العمل (workaholic)، وقد يصاب بعضها بالضرر من العمل المتواصل. ولهذا، يصنّف علماء النفس إدمان العمل بشكلٍ مفرط كنوعٍ من اختلال السلوك والاضطرابات النفسية.

منظمة المجتمع العلمي العربي

 

على كلّ حال، إن امتلاك الشخص للشغف في العمل، يساعد على تحمّل الإنهاك والإرهاق في العمل، ويؤدي لحالةٍ من إدمان العمل الإيجابي. وهذا يقودنا إلى أنّ العاملين في مجال الأبحاث العلمية قد يتمتعون بهذه الميزة، بالإضافة إلى صفةٍ أخرى تشكّل قوة دافعة لمواصلة العمل المرهق وهي: حب الاستطلاع والفضول لمعرفة الأشياء. ولقد لخّص عالم الفيزياء أينشتاين ذلك بالقول: "ليس لدي موهبة خاصة، أنا فقط فضولي بشغف". ولا شكّ أن من أبرز ملامح الشغف والإدمان على البحث، وإجراء التجارب لدى العلماء، أنهم قد يستمرون في البقاء بمختبراتهم العلمية لساعاتٍ طويلة من الليل، وفي أيام العطل، وحتى إجازات الأعياد

هذه المقدمة، تقودنا لمحاولة حصر بعض الأخبار والأحداث المميزة في تاريخ تطوّر العلم التي وقع فيها اكتشافات علمية حصلت بالذات في إجازة رأس السنة الميلادية، وهو الوقت الذي يكون غالبية الناس يغشاهم الخمول في بيوتهم وهي مشابهة للظاهرة التي تشتهر عندنا باسم: الغيبوبة الجماعية ظهر أول يوم من عيد الفطر المبارك. بينما نجد أفرادًا من عشاق العلوم، يقودهم شغف العلم والفضول المعرفي للمرابطة في المختبرات البحثية.

في الأول من شهر يناير من عام 1833، وبينما الجميع كانوا يتمتعون بإجازة رأس السنة الميلادية، كان الكيميائي الإيرلندي السير روبرت كين يعمل في مختبره البحثي في مدينة دبلن. وفي ذلك اليوم، توصّل كين لاكتشافٍ كيميائي مميّز، حيث اقترح وجود الجذور الحرة (free radicals) وهي نوعٌ من الذرات أو الجزيئيات الكيمائية، لها إلكترون حر غير مرتبط، وبالتالي تكون هذه المركّبات نشطة جدًا، وتدخل في عددٍ هائلٍ من التفاعلات الكيميائية. وقد فتح هذا الاكتشاف آفاقًا واسعةً في علم الكيمياء.

وفي مجال علم الفلك فُتحَت مجالات وأبعاد شاسعة، في توقيت إجازة رأس السنة الميلادية. تعتبر الكويكبات أحد المكونات المهمة في المجموعة الشمسية. ولكن حتى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، لم يكن علماء الفلك على معرفةٍ فعليةٍ بوجودها، وإن كانت انتشرت بينهم وقتذاك فكرة غريبة أنه يوجد كوكب مفقود يُحتمَل وجوده بين كوكبي المريخ والمشتري. وكحال العشرات من علماء وهواة الفلك الذين سهروا الليالي في البحث والتفتيش عن هذا الكوكب المفقود (أطلِق عليهم لقب الشرطة السماوية)، نجد أن عالم الفلك الإيطالي والقسيس الكاثوليكي جوزيبه بيازي انشغل لفترةٍ طويلة، في محاولة رصد هذا الجسم السماوي المفقود. ولعدة ليالٍ متواصلة بعد عيد الميلاد (الكريسماس)، بدأ الفلكي بيازي يعتقد أنه اكتشف نجمًا جديدًا في السماء، والذي اتّضح أنه أول وأكبر مجموعة الكويكبات وكان ذلك كويكب سيريس. الطريف في الأمر، أنّ ضوء هذا الكويكب أخذ يخفت ليلةً بعد أخرى، ولهذا اضطر بيازي أن يستمر في رصده كل ليلة. وفي الليلة الخامسة والتي وافقت مساء اليوم الأول من شهر يناير من عام 1801، أي مساء يوم رأس السنة الميلادية الجديدة، والذي صادف مطلع القرن الميلادي الجديد، بدل أن يكون بيازي يحتفل مع أسرته أو زملائه بهذه المناسبة النادرة، كان يقضي تلك الليلة الباردة وحيدًا في مرصده الفلكي في مدينة باليرمو الايطالية.

الطريف في الأمر، أنّ علماء الفلك افترضوا وجود كواكب إضافية في المجموعة الشمسية، ولم يكن ذلك اعتمادًا على رصد السماء بالتليسكوب في الليل، ولكن بناءً على حسابات رياضية بالورقة القلم، وهم على طاولات أبحاثهم. ولهذا توقّع علماء وجود الكوكب المفقود بين المريخ والمشتري. والغريب في الأمر، أنه بعد مرور حوالي قرنٍ من الزمن من اكتشاف حزام الكويكبات، ما زال علماء الفلك يشكّون في وجود كوكبٍ مفقودٍ آخر، ويسمى أحيانا بالكوكب أكس (Plant X). وبالفعل، ومجددًا، في يوم رأس السنة الميلادية، أي في الأول من شهر يناير من عام 1909، أعلن عالم الفلك الأمريكي ويليام بيكرينغ من المرصد الفلكي بجامعة هارفارد أنه بناءً على بعض الشذوذ المرصود في مواقع كوكبي أورانوس ونبتون وما تبع ذلك من حساباتٍ رياضية، فإنه من المحتمل وجود كوكبٍ تاسعٍ ضخم في المجموعة الشمسية. وكما هو معلوم، اكتشف علماء الفلك لاحقًا في عام 1930، كوكبًا صخريًا صغير الحجم هو كوكب بلوتو والذي ظلّ يوصف بأنه الكوكب التاسع لمدة 76 سنة. ولكن منذ عام 2006 أسقط علماء الفلك كوكب بلوتو من قائمة كواكب المجموعة الشمسية، لتعود مرةً أخرى فرضية وجود كوكب ضخم مفقود في السماء التي فوق رؤوسنا!

ولادة الاكتشافات العلمية مع ولادة أول يوم بالسنة

ربما من الملائم التنبيه أنّ هذه الاكتشافات العلمية والأحداث الفلكية السابقة التي تزامن الإعلان عنها، مع توقيت إجازة رأس السنة الميلادية، لم تتم في لحظةٍ خاطفة من الزمن، وإنّما هي نتيجة أيام وأزمان متواصلة من الرصد الفلكي. ولكن يحصل في نهاية الأمر أن يصادف الإعلان عن هذه المكتشفات العلمية في توقيتٍ مميز وهو اليوم الأول من السنة الميلادية الجديدة.

ومن جانبٍ آخر، وبسبب طبيعة التنافس بين العلماء ورغبتهم في سرعة الإعلان عن اكتشافاتهم العلمية، قد نفهم لماذا تم الإعلان عن بعض أهم الاكتشافات العلمية في يوم الأول من يناير، ولم ينتظر العلماء انتهاء إجازة رأس السنة لكي يعلنوا عمّا توصلوا له من سبقٍ علمي فريد. وفي هذا السياق، نذكر عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل الذي نشر بحثًا علميًا في تاريخ الأول من شهر يناير لعام 1925، يذكر فيه أنّ نتائج أرصاده الفلكية، تثبت أن المجموعة النجمية المسماة أندروميدا هي بعيدة جدًا عن طرف مجرة درب التبانة. وبالتالي، هي في الواقع مجرة مستقلة. وبهذا تمّ لأول مرة في التاريخ البشري معرفة أن حجم الكون أكبر بكثير من مجرتنا الصغيرة. والطريف في الأمر، أنّ نشر هذا الاكتشاف الفلكي التاريخي قد حصل أثناء اجتماعٍ للجمعية الفلكية الأمريكية، وليس معلومًا، إذا ما كان اجتماع هؤلاء العلماء بمدينة واشنطن بذلك التاريخ أي إجازة رأس السنة الميلادية، قد حصل لأن شغفهم العلمي دفعهم لذلك، أو أن هذا الوقت كان هو فقط المتاح لهم للاجتماع بسبب ارتباطاتهم في أوقات العمل العادية.

وفي تاريخ العلم، كانت أول جائزة تُمنَح من جوائز نوبل للفيزياء من نصيب العالم الألماني فيلهلم رونتجين في عام 1901، وذلك نظير اكتشافه العلمي فائق الأهمـية الذي تمثّل بالأشعة السينية (X-rays)، وقد أعلن رونتجين للمجتمع العلمي عن هذا الاكتشاف الثوري في صبيحة يوم الأول من يناير لعام 1896. وكما يعتبر اليوم الأول من شهر يناير هو موعد ولادة سنة ميلادية جديدة، يُعتبَر كذلك موعدًا مناسبًا لولادة العديد من الأحداث العلمية المميزة. وكثيرًا ما كان يتم اتخاذ هذا التاريخ كتوقيتٍ لموعد تدشين مناسبة سياسية أو اقتصادية أو حتى قانونية، مثل أن يدخل قانون حيز التنفيذ ابتداءً من مطلع السنة القادمة.

وعلى كلّ حال، لا غرابة الآن أن نعلم أنّ إجازة رأس السنة الميلادية قد لا تكون عطلة هادئة، إذا تم الاتفاق المبدئي أن يجري في أول يوم من السنة الجديدة تدشين فعالية كبيرة أو إطلاق مشروع علمي ضخم. وهذا بالفعل ما حصل بشكلٍ متكرر مع عصر العلوم الإلكترونية الحديث، حيث يعتبر اليوم الأول من شهر يناير من عام 1983 هو لحظة ولادة شبكة الانترنت، والتي تمت في مختبرات البحوث المتطورة لوزارة الدفاع الأمريكية. وبحكم أنه حصلت عملية ولادة لهذا التقنية المذهلة، فمن الملائم ذكر عالم الحاسوب الأمريكي فينت سيرف الذي أُطلٍق عليه لقب "أبو شبكة الانترنت". وبما أننا في سياق ذكر تاريخ علوم الحاسب الآلي، فهذا مسوغ أن نذكر أنّ أول حاسوب فعلي ناجح كان الحاسوب الأمريكي المشهور بـ "ENIAC" والذي تمّ الانتهاء من تجميعه في الأول من يناير من عام 1946، وهذا يعني أن المهندس وعالم الفيزياء الأمريكي جون ماكلي الملقب بـ "أبو الحاسوب" بدل أن يقضي إجازة رأس السنة في منزله، كان يعمل في مختبرات كلية الهندسة بجامعة بنسلفانيا لكي يسطّر التاريخ بتدشين ولادة عصر الحاسوب.

ونختم هذا المقال، بذكر بدايات الثورة والطفرة الهائلة في صناعة الحواسيب والتي تتركّز اليوم فيما يسمى بوادي السيلكون silicon valley)) وهي منطقة تقع جنوب مدينة سان فرانسيسكو الأميركية، والتي كانت في الأساس منطقة مزارع لفواكه المشمش والكرز وذلك حتى يوم الأول من شهر يناير من عام 1939. وأيضًا، في ذلك التاريخ وتحديدًا في إجازة رأس السنة وفي مكان كان عبارة عن مرآب سيارة، قام المهندس الأمريكي دايفيد باكارد مع زميله المهندس ويليم هويليت بتدشين الشركة التقنية الكبرى "HP company" الحاضنة التي وُلدت منها مختلف شركات الحواسيب في وقتنا الحاضر.

بقي أن أقول قبل أن أغادر، أنني يوم غدٍ الأحد الموافق الأول من يناير لعام 2023م وفي حين أن غالبية العلماء والمحاضرين في مختلف دول العالم سوف يستلقون باسترخاء في منازلهم في إجازة رأس السنة الميلادية سوف أكون أنا بمشيئة الله بكل جد واجتهاد أقدم محاضرتي الأكاديمية لطلابي بالجامعة والله يجزاني الخير (هههههه).

 

تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com​

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي


يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

      

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

مواضيع ذات علاقة

0 التعليقات

أضف تعليقك

/* Whatsapp Share - 26-6-2023 */