للبحث الدقيق يمكنك استخدام البحث المتقدم أدناه

يعتمد البحث السريع على الكلمات الموجودة داخل عنوان المادة فقط، أما البحث المتقدم فيكون في كافة الحقول المذكورة أعلاه

ماهيـة اللغة

  • الكاتب : الحسين بشوظ

    منظمة المجتمع العلمي العربي

  • ما تقييمك؟

    • ( 5 / 5 )

  • الوقت

    09:20 ص

  • تاريخ النشر

    29 سبتمبر 2016

سنحاول في هذا المقال بحول الله تعإلى وقوَّتِه، التّطرُّقَ إلى ماهية اللغة، وذلك باستقراء مجموع البيانات والمعطيات المتوفرة حول هذا المفهوم مِن مصادرِها المختلفة (عِلم اللغويات – علم الحفريات والآثار- عِلم اللسانيات – عِلم السيميائيات – عِلم الهرمونيطيقا)، وعرضِها بشكل كرونولوجيّ مُرَتَّبٍ ومُبَسَّط قدر الإمكان، بعيدا عن الأدوات المفاهيميَّة والتقنية الشديدة التعقيد والتخصُّص. آملين في نهاية هذا المقال، أن نكونَ قد وُفِّقْنا في تقريب موضوع اللغة إلى القارئ العادي قَدر المُستطاع، ومَدِّهِ ببعض الزاد المعرفي، وفتحِ البابِ واسعا أمامَهُ للتساؤلِ والبحث، ليأخذ المُبادرة ويُباشِرَ بنفسِهِ اكتشافَ عوالِم ومَجَاهِل اللغة، التي يستعمِلُها بشكل دائمٍ ومُستمرٍّ، دون أن يَعِيَ سِرَّ هذه المَلَكَة الإلهية، وهذا الكنزَ الثمينَ الذي يمتلكه.

يُسمى كذلك بالهرموسية أو علم التأويل أو التفسير، تهدف الهرموسية إلى تفسير واستخراج دلالة النصوص خصوصاً النصوص الدينية القديمة من منظور فلسفي، ومن أشهر رواد الهرموسية نجد : بور ريكور – جورج جادامير – مارتن هايدغر. لنْ نَخُوضَ كثيرا في التفاصيل التقنية الكثيرة التي تَهُمُّ مفهومَ اللغة، كما لن نتطرّق إلى المدارس والاتجاهات المُختلفة والمُتعارضة في تحديداتِها لمفهوم وماهية اللغة، وسنقتصِرُ على التعريف المتداول الشائع والبسيط. اللّـغــة خاصية ومَلَّكَةٌ إنسانية، الهدف منها بالدرجة الأولى تحقيقُ التواصل والتفاعل بين بني البشر، وتتجلى اللغة إما على شكل صوتٍ (كلام / خطاب) أو نقش (رسوم / خطوط / أشكال ..)، أو علامات (إشارات ضوئية/ رموز / لافتات / حركات / رقصات/ تعابير باليد أو الوجه / لباس ....).

اللّـغــة قديمة قِدَمَ الإنسان، بل وُجُدِتَ مع أول إنسان ظهرَ على هذا الكوكب، وهناك نظريات كثيرة متعارضة، وبعضها متناقض حول طبيعة نشأة اللغة، هل هي فطرية أم مكتسبة؟، هل عاش الإنسان حينا من الدهر دون أن يمتلك القدرة على امتلاك اللغة؟ ...، وغيرها من الأسئلة ذات الطابع الجدلي والاشكالي، إلا أنَّ الزمن قد حفظ لنا مجموعة كبيرةً من الشواهد التي تدل على امتلاك الإنسان لخاصية اللغة منذ بداية وجوده، وتوظيفِها لتحقيق التواصل بين أفرادِه ومجموعاتِه، ولعل أبرز الشواهد هي تلك الرسومات والنقوش التي كشفتْ عنها الحفريات وعلماء الآثار.

حاول كثيرٌ من العلماء، خصوصا علماءُ الآثار واللغويات كعالِم اللغويات والآثار الشهير: الفرنسي شامبليون فكَّ كثيرٍ من هذه الرموز المصرية القديمة (اللغة الهيروغليفية / الفرعونية) والعراقية القديمة المسمارية (الآشورية والبابلية والسومرية والآكادية)، وذلك قبل أربعة آلاف سنة قبل الميلاد (على أقل تقدير)، فمثلا الرسوم المشهورة التي وُجِدتْ في الكهوف، وتضم رسوماتٍ لمجموعة من الأشخاص خلف بَقَرٍ وحشي. هذه الرسومات بمثابة لغة وليست لوحة فنية، ومعناها: التحضير والاستعداد للصيد، كما أن الانتقال التدريجي للإنسان القديم من الطبيعة إلى الثقافة، سمح له بالانتقال من التَّنَقُّلِ والبحث الدائم عن الطعام (الصيد) إلى إنتاج الطعام وتخزينِه، فاهتدى عن طريق خاصية الوعي والإدراك التي يمتلكُها إلى اكتشاف الزراعة وتربية الحيوانات عن طريق إخضاعِها أو تطويعِها أو ترويضِها. وكانت اللغة هاجسا بالنسبة له، فمن دون اللغة لا يمكن تحديد المهام وتوزيع المسؤوليات وتسيير الجماعة أو المجموعة البشرية، والجماعة ضرورية للانتقال من التوحش إلى التجمّع، فكان لابد من اللغة، ولو في شكلِها البدائي.

نفسُ الشيء تم التوصل إليه، عندما تم فَكُّ رموز الرسومات والنُّقُوش الفرعونية القديمة، التي وُجدتْ على مجموعة من التوابيت وعلى جُدران وصخور الأهرامات، فبعضُها يُمثل نصوصاً تخاطُبيَّة مُعدَّة للحياة البرزخية، وبعضُها عبارةٌ نصوص لأحكامٍ قضائية، وبعضُها عبارةٌ عن دستورٍ وقوانينَ مكتوبة، تُنظمُ علاقة الحاكم بالمحكوم في مصر القديمة على سبيل المثال لا الحصر. تطور اللغة كان بمنطق سهل جدا، إذ يُعتقد أن الرسوم كانت أسبق من النقوش الأخرى، لأنها أسهل مبدئيا في التعبير، فبمجرد النظر إلى طبيعة الرسوم، يمكن بسهولة استنتاج موضوعاتِها، ورغم أن لغة الرسوم هذه كانت بسيطة جدا في بنيتها، إلا أنها كانت هي الأخرى تنقسم إلى لغة (رسمية/ رسمية) وهي الخطابات فوقية، كالعقود والمواثيق وقرارات الهدنة والحرب ...، التي تتداول بين رؤوس هرم السلطة.

كما أن هناك اللغة (رسمية/ عامية)، وهي خطابات عمودية تأتي من رأس الهرم إلى أسفلِه (الرعية / العبيد / الخدم ..)  فالنقوش التي تكون في البلاط وفي المؤسسات السيادية السياسية والدينية والعسكرية (القصور – المعابد -  المعسكرات) كانت أكثر فخامةً وتعقيدا، كما كان لها مُعجمٌ خاص خصوصا بعض الرسومات والنقوش الخاصة بالملوك والأمراء (العائلة الفرعونية الحاكمة). بدأ الإنسان القديم بالنقش على الحجر والخشب والجلود والعظام لِبَثِّ رسائِله وخطاباتِه والتواصلِ مع الجماعة، كما كانت اللغة المنقوشة تُستعمل لتخليد الملاحِم وتدوين وسرد أحداث المعارك والحروب، وتخليد الانتصارات. هذا المبدأ، هو نفسُه الذي يحكم اللغة التي نتحدث بها اليوم، فبدل أن نرسُم، وضَعْنَا لكلِّ جسمٍ ماديّ أو معنويّ كلمةً نَعْرِفُهُ بها، وعَمِلَ الدماغ على تخزين صورة ذهنية لهذه الكلمة وربَطَهَا بمدلولِها في الطبيعة. وهكذا صارت اللغة اختصارا للعالم كلِّه وامتلاكا له كذلك.

والذي لا يَعرفه كثيرٌ مِن الناس، أن اللغة هي أكبرُ اختراع وأعظمُ انجازٍ حققه البشر على هذا الكوكب منذُ بدءِ الخليقة إلى اليوم. واللغة هي العامل الحاسم في كل هذا التطور الذي استطاع البشر تحقيقه، فلولا اللغة لبقي الإنسان كائنا يقتاتُ ويتناسل كباقي الحيوانات دون أن يُحدث أيَّ تغيير يُذكر، لكن خاصية الإدراك (العقل) التي حَبَاهُ الله بها دون غيرِه من المخلوقات الأخرى، جعَلتْه يقتحمُ الآفاق ويهيمن على الكوكب هيمنة مطلَقة، ويطمح للهيمنة على الكون إن استطاع إلى ذلك سبيلا.

عندما نُدَقِّقُ في المفردات اللغوية البسيطة، التي نستعملها من قبيل (ماء – شجرة – جبل - بحر ...) نجد هذه الكلمات لا تعكس أبدا المُسمى المادي الملموس (فالماء) هو سائل ضروري للحياة لا لون له ولا رائحة، ولا علاقة له أبدا بهذه الحروف (مـ - ا – ء) إنها مجرد صورة ذهنية اخترعناها لنُعَرِّفَ بها عُنصرا مِن الطبيعة، له خاصيةٌ معلومة، ثم نستغني عنه في الوظيفة التواصلية، ونستعملَ صورَتَه الذهنية التي هي (لفظة ماء). وكلما ذُكرتْ هذه الكلمة (ماء) فإن الدماغ يربطها مباشرة مع مدلولِها المادي الموجود في الطبيعة، وهو السائل الضروري للحياة، الذي لا لونَ ولا رائحةَ ولا طعمَ له. وقِس على ذلك في كل الأسماء، فكلمة (شجرة) نُطلقها على كل أنواع الأشجار، علما أنه لا توجد أي علاقة بين الجسم المادي ذو الجذوع والأخصان والأوراق والثمار المكوَّن من مادة الخشب) وبين كلمة من ثلاثة حروف هي (ش-ج-ر). بهذه الطريقة عَمِلَ الإنسان على تسمية الموجودات في الطبيعة ليستغنيَ عنها في تحقيق التواصل الذي لابد له من لغة.

هكذا استطاع الإنسان أن يخترع اللغة، لقد بدأ بالنموذج البسيط وهو النقش والرسم وبعض الطقوس (كالرقص – وإشعال النار ....) وظلتْ هذه اللغات قائمة، وتم تطوير نُظم لغويةٍ أخرى أكثر تعقيدا وأشد متانة، وهي اللغات الحية وقواعِدها المنطقية الشديدة التعقيد (صرف – نحو – بلاغة – معجم ..)، وصولا إلى اللغات الحاسوبية (لغة الأرقام في البنوك والبورصات ومراكز الإحصاء ..) واللغات المُشفرة التي يتعامل بها الجيوش المؤسسات الأمنية عبر العالم، ناهيك عن التقدم الكبير في اختراع لغات أخرى لذوي الاحتياجات الخاصة كاللغة الإشارية للصم والبكم، ولغة المكفوفين وغيرها من اللغات الحديثة التي اخترعتْ لدواعٍ مختلفة.

وحسب "نعوم تشومسكي" فإن اللغة: هي توظيفٌ مجموعة متناهية من الحروف، لِتَكْوِينِ مجموعة لا متناهية من الكلمات والجُمل، ففي العربية مثلا يوجد ثمانية وعشرون حرفا، منها يمكن أن نكتب ونُنتج ما لا نهاية من الكلمات، وهذه من أبرز خصائص اللغة الحديثة، إنها تتطور وتنمو وتولِّدُ كلماتٍ وعباراتٍ جديدة وتموتُ وتفنى بعض العبارات القديمة وهكذا.

وبالتالي فالبشر أقدر الكائنات على إنتاج اللغة واستعمالِها وتطويرها، وذلك لارتباطها بالفكر والوعي، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يَعِي ويُدرك ما يقوم به من أفعال أو انفعالات، ويرى بعض العلماء المتخصصين في عِلم اللغة والصوتيات، أن الحيوانات وإن كانت تتواصل وتُصدر أصواتا (تحذير وقت الخطر / أو الإعلام بوجود فرائس) أو حركاتٍ (رقصات النحل / رقصات التزاوج / صراع السيطرة على القطيع ...) أو عن طريق إفرازات كيماوية (كما يحدث مع النمل حيث تتواصل النملات عن طريق إفرازات لعابية كيماوية تحتوي على معلومات ورسائل وشيفرات تواصلية خاصة)، كما أن هناك حيوانات تتواصل عن طريق تحرير روائح معينة، وبعضها يتواصل عن طريق اللون، إلا أن كل هذا (بحسب علماء اللغة والصوتيات ) مجرد وسائل تواصلية وليست لغة بمفهومها العلمي، حيث إن الحيوانات تفعل كل هذا بدافع الغريزة، وليس عن وعي وإدراك.

وقد فتحتْ هذه القضية الباب على مِصرعيه لدراسة ذكاء الحيوانات (الدلافين – قردة الشمبانزي – الفيلة –  الغربان -وبعض أنواع الكلاب) ولكن كل هذا لا يُعلل امتلاك الحيوانات لخاصية الوعي والإدراك، الذي لو كان عندها لسمح لها بتطوير أنظمة الاتصال فيما بينها، بل وتطوير نُظم عيشِها كذلك، ولمكّنها من منافسة البشر على إعمار واستعمار الأرض. وبالتالي ظل الإنسان هو الكائن الوحيد المُهيمِن على كل أشكال الحياة على الأرض، بل وتسببَ في انقراض كثير من الكائنات الأخرى، وتهديد وجودِه هو أيضا، كل هذا بسبب خاصية الوعي التي منحُ اللهُ إيَّاها. فأصبح الإنسان أكبرَ مُعجزة على هذه الأرض، وأكبرَ مشكلة أيضاً. مازال الأنسان إلى اليوم مَهُوسا بتعلم اللغات، وطوَّاقا دائما إلى امتلاك أكثرِ من لسان، ومازال البحث جاريا لابتكار أبسط وأسهل الطرق لتعلم اللغات، بل وأوجد الإنسانُ عُلوما خاصة باللغة كعِلم اللغويات أو اللسانيات، وهو عِلم يهتم بدراسة اللغة (لغة البشر) من خلال دراسة خائصِها وتراكيبها، بالإضافة إلى عدد كبير من المؤسسات والمراكز اللغوية التي تؤلف كل سنة ملايين الكتب لتعليم اللغات العالمية، وتنجز آلاف الدراسات والأبحاث حول طبيعة اللغة.

إن كلَّ ما تمتْ الإشارة إليه في هذا المقال، لا يعدو كونَه إشاراتٍ خفيفة وسريعة، ولمحاتٍ خاطفة لماهية اللغة، في حين أن الموضوعَ أعقدُ من هذا بكثير وأكبر، فإلى اليوم مازال العلماء حائرون في كثير من المحاور العريضة والتفاصيل الدقيقة لماهية اللغة وأصلِها ونُظُم وآليات بنائِها وطُرُق تطورها وأسبابِ موتِها واندثارِها، وحدودها وإمكانياتها التَّخْيِيلِيَّة والانزياحيَّة والتجريدية. ومدى تأثيرها في المتلقي، وسِرِّ قوتها الخطابية والإقناعية، ومازال علماء اللغة يدرسون الأسرار الكامنة وراء استسلام الناس لتأثير اللغة وسحرِها، وغيرِها كثيرٌ من الأسئلة التي مازال العِلم يبحث فيها إلى اليوم.

 
بريد الكاتب الالكتروني: bachoud.houssaine@gmail.com

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

مواضيع ذات علاقة

1 التعليقات

  • مراقب16 سبتمبر, 202209:23 م

    مراقب

    إشعار الكاتب قراءه بقيمته الفكرية والعلمية يكون بطيعة المحتوى وعمقه ونفعه، لا باستعمال مفردات ومصطلحات أعجمية مع وجود مقابل عربي لها. فالكرونولجيا مثلا هي الميقاتية، ومن المنفر أن يهوي الكاتب في وهدة التكلف.

    رد على التعليق

    إرسال الغاء

أضف تعليقك

/* Whatsapp Share - 26-6-2023 */