.
يتمتع زيت الزيتون بسمعة غذائية واقتصادية ممتازة، باعتباره العنصر الأساسي بلا منازع في النظام الغذائي المتوسطي. وقد دفع الطلب المتزايد عليه الإنتاجَ العالميَّ إلى الارتفاع ليصل، رغم تأثير تقلبات العوامل المناخية إلى نحو 3.2 مليون طن في عام 2024. لكن وراء هذه الصورة المثالية لحقول الزيتون الخضراء الشاسعة، التي تغطي نسبةً لا بأس بها من مساحة الدول المحيطة بحوض المتوسط، يكمن واقع بيئي أكثر تعقيدًا وإثارةً للقلق؛ إذ ينتج عن استخراج هذا المنتج الثمين كميات هائلة من النواتج الثانوية “السامة في كثير من الأحيان” التي تهدد النظم البيئية المحلية.
في سياق هذه الأزمة البيئية الكامنة، تقترح دراسةٌ مراجعة نُشرت مؤخرًا في دورية (Journal of Bioresources and Bioproducts) العلمية تحولًا جذريًا في نموذج الإنتاج، يتمثل في تحويل هذه النفايات الضخمة إلى موردٍ قيّم لتنقية المياه. وتُلخص هذه المراجعة الأدبية نتائج 66 دراسة حديثة لتوضيح كيف يمكن تحويل نفايات المعاصر الصلبة والسائلة إلى مواد ماصّة عالية الكفاءة للمعادن الثقيلة والمركبات الكيميائية الصيدلانية من المياه العادمة، بما يقدّم حلًا مزدوجًا لإدارة النفايات الزراعية الصناعية وتلوث المياه عالميًا.
العبء البيئي لنفايات صناعة زيت الزيتون
لإدراك نطاق الحلول التي يقترحها الباحثون، من الضروري فهم حجم التحدي البيئي الذي تمثله صناعة زيت الزيتون، إذ تنتج كميات هائلة من النفايات. وتقدّر بعض الدراسات الكتلةَ الحيويةَ المتبقية التي تنتجها هذه الصناعة الزراعية الغذائية بأكثر من 40 مليون طن سنويًا، بينما يتراوح حجم مياه الصرف الصحي لمعاصر الزيتون، وهي المياه الناتجة عن عصر الزيتون بين 10 و30 مليون متر مكعب سنويًا. وهذه المياه العادمة، المعروفة بمياه صرف معاصر الزيتون، تتميز بلونها الداكن ورائحتها الكريهة وانخفاض درجة حموضتها عند تصريفها دون معالجة مسبقة، مما يشكل تهديدًا مباشرًا لخصوبة التربة والحياة المائية.
ولا تقتصر المشكلة البيئية على حجمها، بل تكمن جوهريًا في المحتوى الكيميائي لهذه المياه العادمة. وكما يشير الباحثون، تتمثل مخاطر هذه النفايات خاصةً في محتواها العالي من المركبات العضوية (لا سيما الفينولات) المعروفة بكونها شديدة السمية للأنظمة البيئية. وهذه البوليفينولات، على الرغم من فائدتها لصحة الإنسان بجرعات منخفضة بفضل خصائصها المضادة للأكسدة، تصبح سمومًا بيئية عند وجودها بتركيزات عالية؛ إذ تمتلك خصائص مضادة للميكروبات تثبط النشاط البكتيري اللازم للتنقية الذاتية الطبيعية للمجاري المائية والتربة. ووفقًا لمصادر خارجية متخصصة في الإدارة البيئية، يمكن أن يصل الطلب الكيميائي للأكسجين لمياه الصرف الصحي من معاصر الزيتون (وهو مؤشر لقياس كمية المركبات العضوية في الماء) إلى قيم عالية جدًا تصل إلى 220 غرامًا/لتر، أي ما يعادل تقريبًا 200 إلى 400 مرة أعلى من مياه الصرف الصحي المنزلية، مما يؤدي إلى اختناق البيئات المائية من خلال عملية التخثث.
علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي الانتشار غير المنضبط لهذه النفايات إلى جعل التربة عقيمة وغير صالحة للزراعة، من خلال التسبب في تسمم النباتات وانسداد مسامها، وهي ظاهرة أكدتها الدراسات الزراعية الإقليمية. وفي ظل هذه الملاحظة المقلقة بأن التخلص من النفايات قد يؤدي إلى عقم التربة، أصبحت الحاجة إلى تثمين هذه المخلفات ضرورة بيئية ملحة.
كفاءة استثنائية: من الكتلة الحيوية الخام إلى المرشحات عالية التقنية
يكمن جوهر الدراسة في تحليل فعالية النفايات الصلبة والسائلة لمعاصر الزيتون (ثفل الزيتون ونوى الزيتون ومياه الصرف) ونفايات التقليم، في امتصاص مجموعة واسعة من الملوثات المائية، من المعادن الثقيلة إلى المواد الصيدلانية الثابتة. وتظهر النتائج أن هذه المواد التي تُستخدم غالبًا في حالتها الخام أو بعد معالجة طفيفة تنافس، بل تتفوق أحيانًا، على المواد الماصّة التجارية باهظة الثمن.
أظهرت الدراسة أن ثفل الزيتون أثبت فعاليته بشكل خاص فيما يتعلق بالتلوث المرتبط بالمعادن الثقيلة، وهو مصدر قلق رئيسي للصحة العامة. وسلطت الضوء على حالات مكّن فيها استخدام المركبات الحيوية القائمة على ثفل الزيتون من إزالة ما يقرب من 100% من الرصاص الموجود في مياه الصرف الصحي الحقيقية. فيما حقق الماص الحيوي المعتمد على حبات الزيتون معدل إزالة مذهل للكادميوم وهو معدن شديد السمية بلغ 99% وبقدرة امتصاص تبلغ 200 ملغم/غرام.
كما حققت المركبات التي تجمع بين ثفل الزيتون وألجينات الصوديوم (sodium alginate) وهو مركب مستخلص من الطحالب البنية—معدلات إزالة للنحاس في الماء تتجاوز 90%. والأكثر إثارة للإعجاب هو قدرة امتصاص نوى الزيتون المحولة إلى كربون نشط؛ إذ تُظهر قدرة امتصاص قصوى للنحاس تبلغ 230.2 ملغم/غرام، وهي قيمة تشهد على قوة هذه المواد الحيوية بمجرد تنشيطها.
ومع ذلك، لا تقتصر فاعلية نفايات المعاصر على المعادن؛ إذ تُبرز دراسة المراجعة نتائج مذهلة تتعلق بالأصباغ الصناعية، ولا سيما أزرق الميثيلين، وهو مركب معروف بسميته وضرره البيئي ويُستخدم على نطاق واسع في صناعة النسيج. ومن اللافت للنظر أن نوى الزيتون المجففة والمطحونة إلى جسيمات نانوية “دون أي معالجة كيميائية” أثبتت قدرة امتصاص تبلغ 476 ملغم/غرام للنوى السوداء و625 ملغم/غرام للنوى الخضراء (للمقارنة، لا تتجاوز سعة امتصاص نوى الزيتون غير المطحونة على المستوى النانوي 44.5 ملغم/غرام). وتعد هذه النتيجة جوهرية لأنها تثبت أن تقنية النانو الخضراء يمكن أن تقدم حلولًا عالية الأداء دون اللجوء إلى الكواشف الكيميائية الملوثة. وبالمثل، بالنسبة للمركبات الفينولية، أثبت ثفل الزيتون—عند تركيز يبلغ 50 غرامًا/لتر—أنه أفضل مادة ماصّة في مياه الصرف الصحي لمعاصر الزيتون، محققًا معدلات إزالة تتجاوز 90%. وتظهر هذه الخصائص أيضًا في قدرة ثفل الزيتون على التنظيف الذاتي، إذ تعالج النفايات تلوثها بنفسها ببراعة كيميائية نادرة. علاوة على ذلك، وبالنسبة للملوثات الناشئة مثل المستحضرات الصيدلانية، أظهرت الكربونات الناتجة عن نفايات الزيتون منزوعة النوى أداءً متفوقًا في إزالة مركبات الديكلوفيناك والإيبوبروفين والتريكلوسان، مما يؤكد تنوع مصفوفات الكربون هذه.
التحديات والآفاق والتأثير المستدام
إلى جانب الأداء التقني البحت، يقول المؤلفون إن دمج نفايات معاصر الزيتون في عمليات معالجة المياه يجسد مبادئ الاقتصاد الدائري تمامًا، محولًا المسؤولية البيئية إلى أصل صناعي مستدام. وأكدوا أن استخدام هذه المخلفات يدعم اقتصادًا دائريًا ومستدامًا من خلال التخفيف من الآثار البيئية للنفايات الزراعية والصناعية.
ومن أهم النقاط التي أثارتها هذه المراجعة جدوى استخدام المواد الخام أو المعالجة جزئيًا. ويقدّم هذا النهج ميزتين رئيسيتين: فهو يجنب تكاليف الطاقة والتكاليف الاقتصادية المرتبطة بالكربنة أو التنشيط الكيميائي (كما هو الحال في الكربون المنشّط التقليدي)، ويمنع استخدام كواشف كيميائية إضافية قد تسبب تلوثًا ثانويًا. ووفقًا للمؤلفين، يمثل هذا “قيمة مضافة من منظور الاقتصاد الدائري، إذ لا حاجة إلى استخدام طاقة أو موارد إضافية لمزيد من المعالجة”.
ومع ذلك، يشير المؤلفون إلى أن التوسع من المختبر إلى الإنتاج الصناعي لا يزال محفوفًا بالعقبات التي يسعى المجتمع العلمي إلى التغلب عليها. فبينما تم اختبار ثفل الزيتون “خارج ظروف المختبر” وأثبت فعاليته في بيئات واقعية، فإن معظم الدراسات التي أُجريت على مخلفات أخرى، مثل نوى الزيتون، لا تزال تقتصر على المحاليل الاصطناعية. ويؤكد المؤلفون “ضرورة تقييم أثرها في عينات المياه الملوثة في الواقع، لأن عوامل مثل الرقم الهيدروجيني ومحتوى المادة العضوية يمكن أن تؤثر بشكل كبير في أداء المادة الماصّة”. علاوة على ذلك، ينبه المؤلفون إلى ضرورة توخي مزيد من الحذر فيما يتعلق بسلامة هذه المواد؛ إذ من الضروري ضمان ألا تطلق المادة الماصّة نفسها مكونات ضارة أو تعزز نموًا ميكروبيًا غير مرغوب فيه في المياه المعالجة.
تؤكد هذه المراجعة الشاملة أن مخلفات صناعة زيت الزيتون أكثر من مجرد نفايات زراعية يجب إدارتها؛ فهي تشكل موردًا استراتيجيًا للحفاظ على البيئة والموارد المائية في مواجهة الضغوط البشرية المتزايدة.
.
المراجع
Correia, and al. (2025).” Unveiling the potential of olive oil production residues as adsorbent materials for water treatment: A literature review“. Journal of Bioresources and Bioproducts, 10, 460-475.
Rusan, M. J. M., and al. (2016).“Treated Olive Mill Wastewater Effects on Soil Properties and Plant Growth”. Water, Air, & Soil Pollution.
Enaime, G., and al. (2024). “Olive mill wastes: from wastes to resources”. Environmental Science and Pollution Research.
.
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
دور الحلول الرقمية في صمود الزراعة أمام الكوارث