.
على مدى قرونٍ طويلة، ظلّ الإنسان ينظر إلى النباتات على أنها كائنات صامتة، بلا وعيٍ ولا حركةٍ ولا إرادة. فهي تبدو ساكنة في أماكنها، تمتص الضوء والماء لتعيش فحسب. لكنّ العلم الحديث قلب هذه الصورة رأسًا على عقب.
فقد كشفت الأبحاث خلال العقود الأخيرة عن ذكاءٍ خفيٍّ يسكن عالم النبات؛ ذكاءٍ لا يشبه ذكاء الإنسان أو الحيوان، بل هو شكلٌ من الحسّ البيولوجي الراقي، يمكّن النبات من الاختيار، والتعلّم، والتواصل، والتكيّف مع بيئته بطرق تثير الدهشة والإعجاب.
سلوك أم ذكاء؟
حين يستخدم العلماء اليوم مصطلح «ذكاء النبات»، فهم لا يقصدون وجود عقلٍ أو وعيٍ بالمعنى الإنساني، بل يشيرون إلى قدرة النباتات على اتخاذ قرارات بيولوجية متكيفة مع البيئة المحيطة، اعتمادًا على إشارات كهربائية وكيميائية وهرمونية دقيقة. لقد أصبح واضحًا أن النبات ليس مجرد كائنٍ سلبيّ يعيش بردود فعل آلية، بل هو نظام حيوي متكامل يستطيع تحليل الموقف واتخاذ أنسب استجابة للبقاء. ويرى بعض الباحثين أن من الأدقّ الحديث عن «سلوك نباتي» لا «ذكاء نباتي»، تجنّبًا لسوء الفهم، غير أن هذا السلوك يبدو في كثير من الأحيان متقدمًا ومعقّدًا إلى حدٍّ يحاكي أنماط التعلّم لدى الكائنات الأعلى.
لغة كيميائية وتواصل خفي
من أروع ما اكتشفه العلم أن النباتات تمتلك لغة كيميائية خاصة تتواصل بها. فعندما تتعرض نبتة لهجومٍ من الحشرات، تُطلق في الجو مركّبات عضوية متطايرة تُحذّر النباتات المجاورة، فتبدأ الأخيرة بإنتاج مواد دفاعية قبل أن يصلها الخطر. وقد أثبتت التجارب الميدانية على أشجار الأكاسيا في إفريقيا أن الأشجار القريبة من شجرةٍ تتعرض لهجوم تغيّر محتوى أوراقها خلال دقائق، لتصبح أقلّ جاذبية للحيوانات العاشبة. مثل هذه الظواهر تؤكد أن النباتات لا تعيش في عزلة، بل تنتمي إلى شبكة بيئية حساسة، تتبادل فيها الرسائل كما تفعل الكائنات الاجتماعية.
ذاكرة النبات وتعلّمه
هل يمكن للنبات أن “يتذكّر”؟
في تجربةٍ شهيرة على نبات الميموزا (المعروف بالنبتة الحساسة)، لاحظ العلماء أنه يطوي أوراقه عند اللمس. لكن بعد تكرار اللمس مراتٍ عديدة دون ضرر، تعلّم النبات أن هذا المحفّز غير مؤذٍ، فتوقّف عن طي أوراقه. والأدهى من ذلك، أنه احتفظ بهذه “الذاكرة” لأسابيع! هذه النتائج تطرح سؤالًا جوهريًا: كيف يخزّن النبات المعلومات؟
رغم أن الإجابة لم تُحسم بعد، فإن الأرجح أن هناك آلياتٍ خلويةً تعتمد على تغيّرات في تراكيب البروتينات داخل الخلايا، على نحوٍ يشبه ما يحدث في التعلم العصبي لدى الحيوانات.
استشعار وتنبؤ بالمنافسة
تستطيع النباتات أن تستشعر وجود جيرانها حتى من دون لمس مباشر. فمن خلال تحليل نسب الضوء الأحمر إلى الأشعة تحت الحمراء المنعكسة من أوراق النباتات المجاورة، تدرك ما إذا كانت هناك نباتات قريبة تنافسها على الضوء، فتغيّر اتجاه نموها أو طول ساقها وجذورها. إنها عملية استشعار واستجابة ذكية تضمن للنبات فرص البقاء في بيئة مزدحمة، وتُظهر مستوى من “الوعي المكاني” لم يكن متصورًا قبل عقود.
إشارات كهربائية و«عواطف» نباتية؟
في السنوات الأخيرة، سمحت أجهزة القياس الحديثة برصد تيارات كهربائية دقيقة داخل أنسجة النبات. وقد تبيّن أن النباتات تولّد استجاباتٍ كهربائية عند تعرضها لمؤثراتٍ مختلفة، مثل اللمس أو الصوت أو حتى وجود إنسانٍ قريب.
وفي دراسة حديثة نُشرت عام 2025 بعنوان «أنظمة الإنذار الحيوي الكهربي للنباتات» (Plant Bioelectric Early Warning Systems)، استخدم الباحثون تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل الإشارات الكهربائية الصادرة عن النباتات أثناء تفاعلها مع البشر، وادّعوا أنهم تمكنوا من تمييز الحالة الانفعالية للإنسان بدقةٍ بلغت 97%! ورغم أن هذه النتائج مدهشة، فإنها ما تزال في طور البحث الأولي، وتحتاج إلى مزيد من التحقق قبل الجزم بأن النبات “يفهم” مشاعرنا فعلًا.
ذكاء بلا دماغ
المثير أن كل هذه السلوكيات تحدث من دون دماغٍ أو جهازٍ عصبي. فبينما تعتمد الحيوانات على شبكة أعصاب وخلايا متخصصة، يعتمد النبات على منظومةٍ من الإشارات الكيميائية والكهربية تمتدّ عبر الجذور والسيقان والأوراق، وتعمل بتناغمٍ مدهش كشبكة معلوماتٍ حيوية. يمكن القول إن النبات يمتلك ذكاءً موزعًا لا يتمركز في عضوٍ واحد، بل يتجلّى في تنسيق أجزائه وتفاعل أنسجته، تمامًا كما تعمل مستعمرات النحل أو أسراب الطيور.
بين العلم والفلسفة
إلى أيّ مدى يمكن اعتبار هذه القدرات نوعًا من الذكاء؟
يرى العلماء المحافظون أن ما نرصده هو نتاجٌ طبيعي للانتقاء التطوري عبر ملايين السنين، حيث طوّرت النباتات آليات بقاءٍ فعالة، لكنها لا “تفكر” بالمعنى الوجداني. أما أنصار علم الوعي النباتي فيرون أن التمييز بين الفكر والحياة البيولوجية ربما يكون ضيقًا للغاية، وأن علينا أن نوسّع مفهوم “الذكاء” ليشمل أشكالًا أخرى من الإدراك غير العصبي. وبين الرأيين، تبقى الحقيقة أن النباتات تمتلك من التعقيد والحساسية ما يجعلها أقرب إلى الكائنات “المدركة” مما كنا نظن. وربما يأتي يومٌ تُعامل فيه بعض النباتات ذات القدرات الخاصة ككائناتٍ واعيةٍ لها حقها في الحياة والتوازن.
حين يتكلم الصمت
إن اكتشاف أن النبات يسمع ويشمّ ويتذكّر ويتواصل و«يفكر» بطريقته الخاصة، ليس مجرد ترفٍ علمي، بل ثورة في فهمنا للعلاقات بين الكائنات على الأرض. فكل زهرةٍ، وكل ورقةٍ، وكل جذرٍ يحمل ذاكرةً وخطةً واستجابة، ويعيش صراعًا صامتًا من أجل البقاء دون أن يصرخ أو يتحرك. وإذا كنا نحن البشر نبحث عن الذكاء في المجرات البعيدة، فربما علينا أولًا أن نصغي إلى الذكاء الأخضر الذي يسكن كل حديقةٍ وغابةٍ وحقل قمح.
.
المراجع
Calvo, P., & Keijzer, F. (2011). Adaptive Behavior, 19(3), 155–171.
Gagliano, M. et al. (2014). Oecologia, 175(1), 63–72.
Lee, S., & Kim, J. (2024). Frontiers in Plant Science, 15:1372489.
Mancuso, S. & Viola, A. (2015). Brilliant Green: The Surprising History and Science of Plant Intelligence. Island Press.
Trewavas, A. (2014). Plant Behaviour and Intelligence. Oxford University Press.
Volkov, A. G. (2019). Plant Electrophysiology. Springer.
Witzany, G. (2023). Progress in Botany, 84, 171–189.
.
البريد الإلكتروني للكاتب: k.z.ahmed@minia.edu.eg
دكتور قاسم زكي أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا؛ ورئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، والرئيس الأسبق للجمعية العلمية الأفريقية لعلوم المحاصيل، واحد مؤسسي المجلس العالمي للنبات (GPC)؛ عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اتحاد الأثريين المصريين.