.
لطالما كان العلم هو البوصلة التي توجّه المجتمعات نحو المستقبل. ومن دون مجتمع علميٍّ حيّ، يظلّ التطوّر معلّقًا بين الرغبة والواقع. في ورقته البحثية “نحو تكوين مجتمع علمي عربي“، يضع عالم الفيزياء والمفكّر العربي الرائد الدكتور أنطوان زحلان (رحمه الله) رؤيةً مُلهمة تدعو العرب إلى استعادة زمام المبادرة العلمية، ليس فقط لإنتاج المعرفة، بل لبناء مستقبلٍ مشترك قائمٍ على الابتكار والاعتماد على الذات.
العلم شبكة لا أفراد
يُذكّرنا د. زحلان بأنّ التقدّم العلمي ليس نتاج عبقرية فردية معزولة، بل ثمرة شبكة من العلماء والمؤسسات والصلات العابرة للحدود. فهي منظومة معقّدة تضمّ آليات للتحكيم والمراجعة وإضفاء الشرعية على المعرفة الجديدة. هذه العمليات (والتي تتمّ من خلال الدوريات العلمية المتخصّصة والجمعيات العلمية) تشكّل “القوّة الرابطة” للمجتمع العلمي.
ويشير إلى أنّ العلم نظام يديره الأقران وليس نظامًا ديمقراطيًا، حيث تعود الكلمة النهائية إلى الطبيعة لا إلى التصويت. هذا المبدأ الأساسي يفسّر لماذا قد تُخطئ غالبية العلماء أحيانًا في تفسير الظواهر الطبيعية، كما حدث مع اكتشاف دور البكتيريا في التسبّب بقرحات المعدة ومقاومة المجتمع الطبي لها لسنوات قبل قبولها.
التاريخ شاهد والمستقبل ممكن
يستشهد د. زحلان بالنموذج التاريخي للمجتمع العلمي العربي-الإسلامي في القرون الأولى من الإسلام، والذي كان رائدًا في عدد كبير من التطوّرات العلمية والتكنولوجية. كان الاعتماد على الذات سمةً ثقافيةً عربية، كما يوضّح من خلال مثال نقل تكنولوجيا صناعة الورق من الصين، حيث لم يكتفِ العرب باستيراد الورق، بل تعلّموا صناعته وطوّروها.
غير أنّ هذا التفوّق العلمي بدأ في الانحطاط حوالي القرن الرابع عشر نتيجة عوامل متعدّدة، منها الطاعون (الموت الأسود) عام 1340، والحملات الصليبية، والغزوات المنغولية. أمّا الضربة القاتلة فكانت تفكيك الإمبراطورية التجارية العربية بين عامي 1498 و1630 حين هيمنت الشركات الأوروبية على التجارة في آسيا.
ويشير كذلك إلى أنّ الوطن العربي يمتلك اليوم إمكانات بشرية ومؤسسية واسعة لم تكن متاحة في الماضي؛ فعدد الجامعات والخريجين في تزايد مستمر، كما ينشر آلاف الباحثين العرب أبحاثهم في المجلات العلمية العالمية. غير أنّ هذا التوسّع الكمّي لم يتحوّل بعد إلى تقدّم نوعي ملموس لأسباب عديدة، أبرزها ضعف الإنفاق على البحث والتطوير، إذ لا يتجاوز في معظم البلدان العربية 0.3% من الناتج القومي الإجمالي، مقارنةً بدول مثل الصين أو الهند التي تضاعف استثماراتها في هذا المجال.
ويُضيف أنّ غياب المجتمعات العلمية العربية المنظَّمة، وضعف حضور الدوريات العربية في قواعد البيانات العالمية مثل ISI وScopus، يحول دون أن تتحوّل هذه الجهود الفردية إلى قوة تراكمية قادرة على إحداث نقلة حقيقية في البحث العلمي العربي.
توصيات تحمل الأمل
يقترح د. زحلان استراتيجية عملية لبناء مجتمع علمي عربي، وتتضمن إنشاء ودعم مدارس صيفية ومراكز بحثية متخصّصة، وتحسين جودة الدوريات العلمية العربية ورفع معايير النشر فيها، وتمكين الباحثين العرب من الاستفادة من “الكليات غير المنظورة” وهي وهي شبكات صغيرة من العلماء النشطين الذين يجتمعون بانتظام لتبادل أحدث المعارف، مما يساعد على تسريع وتيرة التقدّم العلمي وتفادي التكرار.
كما يدعو إلى بناء قواعد بيانات مشتركة لتسهيل التعاون البحثي، إضافة إلى تعزيز الروابط بين العلماء من خلال آليات النقد الذاتي المنظم. هذه الخطوات لا تبدو بعيدة المنال ويمكن تنفيذها بجهدٍ معقول وتمويل زهيد نسبياً، لكن أثرها قد يكون عميقًا لأنها تهيّئ الأرضية لتشكيل جمعيات علمية عربية فاعلة وتزيد من قوة الروابط المؤسسية بين الباحثين.
رؤية مستقبلية من الفكرة إلى التطبيق
ما يقدّمه الدكتور أنطوان زحلان ليس مجرّد تحليل أكاديمي، بل رسالة إيمان بأنّ العرب قادرون على استعادة مكانتهم العلمية إذا اختاروا أن يؤمنوا بالعلم كمشروع جماعي. فالعلم لا يزدهر إلا حين يصبح قضيّة مجتمعية يتشارك فيها الجميع: من الحكومات إلى الجامعات إلى الأفراد.
.
المصدر: © نبراس | nBRAS
نحو تكوين مجتمع علمي عربي

.
يجدر الذكر بأن هذه الورقة كانت نقطة الانطلاق الاولى لتأسيس “منظمة المجتمع العلمي العربي” وأساس لفكرها ونشاطها المستمر. حين تمكنت مجموعة صغيرة من تأسيسها بجهود ذاتية، ويظل نجاح هذا المشروع مرهونًا بمشاركة وتعاون العلماء العرب وكل المعنيين بالشأن العلمي.

© 2025 نبراس | nBRAS – Powered & Secured
>
تواصل معنا: info@arsco.org