مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

خطر الميكروبلاستيك على الصحة والبيئة

كيف تُهدد الجسيمات البلاستيكية الدقيقة الصحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟
الكاتب

الصغير محمد الغربي

صحفي علمي

الوقت

11:25 صباحًا

تاريخ النشر

19, أغسطس 2025

.

حجمها صغير وخطرها كبير، لا تكاد تُرى بالعين المجردة لكنها تتسرب إلى الهواء والمياه، وحتى إلى الطعام بكميات مهولة تفوق 100 مليون طن سنويا. لم تعد الشظايا البلاستيكية، التي يقل حجمها عن 5 ملليمترات، والمعروفة باسم الجسيمات البلاستيكية الدقيقة، مجرد كارثة بيئية عميقة تعاني من تداعياتها جل المنظومات البيئية البرية والبحرية على سطح الكوكب، بل أصبحت تُمثل كذلك مصدر خطر صحي للإنسان في العديد من المناطق من العالم بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

هذه المنطقة تعاني بحكم موقعها من مخاطر بيئية وصحية مضاعفة بسبب انتشار الصناعات التي تقوم على مادة البلاستيك وتحلل هذه المواد في البيئات البحرية مما يهدد بتلوث مصادر الغذاء الرئيسية للسكان ويمثل مصدر خطر متزايد على صحتهم.

مراجعة علمية شاملة نُشرت هذا العام في دورية ” International Journal of Environmental Research and Public Health ” العلمية، أجراها باحثون من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، دقت ناقوس الخطر ورسمت صورة مثيرة للقلق للتلوث واسع النطاق بجسيمات البلاستيك الدقيقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكشفت الدراسة الآثار المدمرة لهذه الجسيمات على صحة الإنسان بدءا من اضطرابات الجهاز الهضمي ووصولا إلى الأمراض العصبية التنكسية. وأظهرت أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تُمثل بؤرة عالمية ساخنة، حيث يُشكّل عدم وجود سياسات ناجعة لمجابهة هذا الخطر في الكثير من دول المنطقة إلى جانب نقص الوعي العام، عوامل مساعدة لزيادة المخاطر الصحية لهذه الجسيمات.

جسيمات البلاستيك في كل مكان

على الرغم من أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تُسهم سوى بنسبة 1.4%  من انبعاثات البلاستيك العالمية في المحيطات التي تقدر بحوالي 400 مليون طن سنويا، فإنها تُعاني من عواقب وخيمة بسبب الانبعاثات العالمية من هذه المواد. فقد أصبح البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي من بين أكثر البحار تلوثا في العالم بجسيمات البلاستيك.  ووفقًا للدراسة، فإن البحر المتوسط الذي تنتشر على ضفافه المراكز السياحية ومصدر رزق لملايين البشر، يستقبل 570 ألف طن من البلاستيك سنويا، أي ما يعادل إلقاء 33 ألف زجاجة بلاستيكية كل دقيقة في البحر. وقد أدى ذلك إلى تسجيل تركيزات قياسية تصل إلى 400 جسيم من البلاستيك في مياه البحر وإلى حوالي 8 آلاف جسيم في الرواسب البحرية، مما يؤثر بشدة على السياحة ومصائد الأسماك.

الأبحاث الميدانية التي شملتها المراجعة، تؤكد هذا الاتجاه المُقلق في جميع أنحاء المنطقة. ففي مصر، كشفت الدراسات عن تركيزات شديدة في الكائنات البحرية؛ فعلى سبيل المثال، يُمكن أن تحتوي الأسماك العاشبة Siganus rivulatus على أكثر من 1000 جزيء بلاستيكي دقيق لكل فرد، يبتلعها بشكل رئيسي عن طريق الطحالب الملوثة التي تتغذى عليها. وفي لبنان، تظهر التحاليل وجود متوسط 2433 جسيما لكل كيلوغرام في الرواسب البحرية، بينما سجلت إحدى الدراسات تركز 7960 جسيم لكل كيلوغرام  من الرواسب البحرية 400 جسيم لكل متر مكعب من مياه البحر المتوسط قبالة السواحل التونسية.  ولم تسلم دول الخليج من هذا التلوث: ففي عمان وقطر والكويت، عُثر على جزيئات البلاستيك الدقيقة في الرواسب والأسماك. وكشفت دراسة في إيران عن مستويات صادمة من جزيئات البلاستيك الدقيقة، تتراوح بين 80 وأكثر من 56 ألف جسيم لكل غرام من الغبار في الفصول الدراسية، مما يُبرز أن التلوث ليس بحريا فحسب، بل جويا أيضا.

من المحيط إلى الجسم: تلوث غذائي واسع الانتشار

بحسب الدراسة فإن تناول الطعام يعدّ الناقل الرئيسي للتلوث لدى البشر. فبمجرد دخول الجزيئات البلاستيكية الدقيقة إلى البيئة، فإنها تتسرب إلى السلسلة الغذائية خلسة. وتُبرز الدراسة أن المأكولات البحرية تأتي في صدارة هذه المخاطر. فقد أظهرت تحاليل الأسماك التجارية في مصر أن ما يقرب من 92% من العينات تحتوي على جزيئات بلاستيكية دقيقة. المشكلة على الأسماك التي تُزال أحشاؤها، فالمأكولات البحرية، مثل المحار وبلح البحر، إذا ما أُكلت كاملة، تُعدّ إسفنجات حقيقية للبلاستيك الدقيق. وقد وجدت دراسات أُجريت في لبنان وتونس أن متوسط عدد جزيئات البلاستيك الدقيقة في هذه الرخويات يزيد عن 7 جزيئات لكل كائن.

لكن التلوث يتجاوز المأكولات البحرية بكثير. فقد وجدت دراسة لبنانية أن 84.6% من ماركات ملح الطعام المسوّقة تحتوي على جزيئات بلاستيكية دقيقة، مما يُعرّض المستهلك العادي لما يقرب من 2400 جسيم سنويا نتيجة لذلك وحده. كما تُعدّ المياه المعبأة، التي غالبا ما تُعتبر بديلا آمنا، مصدرا للتعرض لهذه الجسيمات. ففي المملكة العربية السعودية، تظهر نتائج الدراسات أن 57% من عينات المياه المعبأة ومياه الصنبور تحتوي على جزيئات بلاستيكية دقيقة. تنشأ هذه الجزيئات من تحلل مواد التغليف والأغطية، وحتى من عمليات المعالجة والتعبئة. هذا الانتشار الواسع يجعل كل وجبة وكل رشفة من الماء مصدرا محتملا للتعرض لمزيجٍ من البوليمرات مثل البولي إيثيلين البولي بروبيلين والبوليسترين.

تأثيرات صحية مثيرة للقلق

بحسب الدراسة، فإن عواقب التناول المزمن للمواد البلاستيكية بدأت تنكشف للعلماء، وهي مُقلقة. فبمجرد دخولها الجسم، لا تنتقل المواد البلاستيكية الدقيقة عبره فحسب، بل يُمكن لأصغر الجسيمات أن تخترق الحواجز البيولوجية وتتراكم في الأعضاء. وتُشير الدراسة إلى ظهور أدلة على آثار خطيرة على الأجهزة الحيوية داخل الجسم

الجهاز الهضمي: تُخلّ المواد البلاستيكية الدقيقة بالتوازن الدقيق لبكتيريا الأمعاء. وتُظهر الدراسات التي أُجريت على نماذج حيوانية انخفاضا في البكتيريا النافعة (مثل البكتيريا العصوانية، ذات الخصائص المضادة للالتهابات) وزيادة في الاختلالات التي قد تؤدي إلى التهاب مزمن.

الجهاز القلبي الوعائي: أحد الاكتشافات الرئيسية المذكورة في المقالة يأتي من دراسة رصدية كشفت عن وجود جزيئات البولي إيثيلين والبولي فينيل كلوريد (PVC) مباشرة في لويحات تصلب الشرايين لدى مرضى خضعوا لجراحة الشريان السباتي. وقد ارتبط وجود هذه المواد البلاستيكية بزيادة خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية والوفاة.

الجهاز الغدد الصماء: يحتوي البلاستيك على إضافات كيميائية معروفة بأنها تُسبب اختلالات في الغدد الصماء (مثل بيسفينول أ). وتشير الدراسة إلى أن المواد البلاستيكية تعمل بمثابة “أحصنة طروادة”، إذ تنقل هذه المواد الكيميائية في جميع أنحاء الجسم. وترتبط هذه المواد باضطرابات في استقلاب الدهون، وقد يكون لها دور في أزمة السمنة العالمية.

مخاطر الإصابة بالسرطان: أظهرت الأبحاث أن التعرض للبولي فينيل كلوريد (PVC) يرتبط بزيادة خطر الإصابة بسرطان الكبد. وقد كشفت التجارب المعملية أن البولي بروبيلين يمكن أن يزيد من إنتاج علامات الالتهاب (مثل الإنترلوكين-6) في سلالات خلايا سرطان الثدي.

الجهاز العصبي: ربما يكون هذا هو التأثير الأكثر إثارة للقلق، حيث تُبرز الدراسة أن جسيمات البولي بروبيلينات قادرة على عبور الحاجز الدموي الدماغي، الذي يحمي الدماغ. وبمجرد دخولها الدماغ، تُحفز التهابا عصبيا عن طريق تنشيط الخلايا المناعية الدماغية (الخلايا الدبقية الصغيرة)، وهذه العملية ترتبط بأمراض التنكس العصبي مثل الزهايمر وباركنسون.

مصادر خفية وسياسات تنقصها النجاعة

إلى جانب التلوث البيئي، تُسلط الدراسة الضوء على مصادر التلوث التي غالبا ما يتم إغفالها مثل صناعات الأدوية ومستحضرات التجميل، حيث تنتشر المواد البلاستيكية في كل مكان في تغليف الأدوية، وتُستخدم بعض المواد مثل البولي بروبيلينات أيضا كعوامل في التركيبات للتحكم في إطلاق المكونات النشطة للأدوية. كما تعدّ صناعة مستحضرات التجميل أيضا مساهما رئيسيا في هذا التلوث، حيث تستخدم حبيبات بلاستيكية دقيقة كمُقشّرات أو مواد مالئة في مُقشّرات البشرة ومعاجين الأسنان وجل الاستحمام. هذه الجسيمات المصمّمة للشطف، تنتهي مباشرة في أنظمة مياه الصرف الصحي، التي تُكافح محطات معالجة مياه الصرف الصحي لتصفيتها.

في مواجهة هذه الأزمة المُتشعّبة، يرى الباحثون أن الاستجابة السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تُعتبر غير كافية إلى حد كبير. فعلى الرغم من وجود قوانين في العديد من البلدان (مثل حظر الأكياس البلاستيكية)، إلا أن تطبيقها غالبا ما يكون ضعيفا بسبب ضعف استجابة القطاع الصناعي ونقص البدائل المجدية وعدم كفاية أنظمة إدارة النفايات.

 تُسلّط الدراسة الضوء على مُفارقة: فبينما تتفاقم المُشكلة، لا يزال الوعي العام مُنخفضًا بشكل كبير. وقد كشف استطلاع رأي أُجري في مصر أن 24% فقط من المُشاركين لديهم معرفة كافية بممارسات الاستخدام الآمن للبلاستيك، وهي فجوة معرفية تُعيق أي تغيير سلوكي واسع النطاق.

التوصيات: نداء عاجل للعمل المنسّق

في مواجهة هذه المخاطر، يدعو مُؤلفو الدراسة العلمية إلى عمل منسّق وواسع النطاق يستند إلى استراتيجية متعددة الجوانب. وترتكز هذه الاستراتيجية على ضرورة الاستجابة إلى الحاجة الملحة لسد الثغرات البحثية من خلال إجراء دراسات خاصة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتقييم مستويات التعرض والآثار الصحية طويلة المدى على السكان المحليين بدقة. كما تتضمن أيضا ضرورة انتقال صانعي السياسات من الأقوال إلى الأفعال من خلال تطبيق لوائح أكثر صرامة على استخدام المواد البلاستيكية أحادية الاستخدام، وتعزيز أنظمة التجميع وإعادة التدوير، وخلق حوافز اقتصادية للصناعات التي تتحول إلى بدائل مستدامة وقابلة للتحلل الحيوي. كما المؤلفون على أهمية مشاركة القطاع الخاص في هذه الاستراتيجية، بهدف ابتكار وتطوير عبوات ومنتجات خالية من البلاستيك. وأشاروا إلى الحاجة الملحة إلى حملة واسعة النطاق للصحة العامة لزيادة الوعي بالمخاطر وتشجيع المواطنين على تبني سلوكيات استهلاك أكثر مسؤولية.

.

المراجع

The Impact of Microplastics in Food and Drugs on Human Health: A Review of the MENA Region

.

تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x