.
يشهد مجال صناعة الأدوية العالمية تحولات كبيرة تقودها التقنيات الحديثة، بعد فشل النموذج التقليدي للإنتاج الضخم، القائم على مبدأ “مقاس واحد يناسب الجميع” في تلبية لتلبية الطلب المتزايد على الأدوية. وفي هذا السباق، توفر الطباعة ثلاثية الأبعاد بديلا واعدا من خلال إحداث ثورة في تصميم الأدوية وتطويرها وتصنيعها حسب الاحتياجات المحددة لكل مريض.
وإذا كانت الدول الغربية، وأبرزها الولايات المتحدة، هي الرائدة في هذه التكنولوجيا، وقد قطعت بالفعل أشواطا عديدة في هذا المضمار، فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بدأت منذ سنوات في الاهتمام بالطباعة ثلاثية الأبعاد في مجال الصيدلة بشكل أكبر، وفق دراسة مراجعة علمية لباحثين سعوديين نشرت في دورية (Saudi Pharmaceutical Journal) العلمية مؤخرا.
وقدم الباحثون في هذه الدراسة تحليلا معمقا للوضع الحالي لأبحاث الطباعة ثلاثية الأبعاد الصيدلانية وتطورها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالاعتماد على البيانات الحديثة، واستكشاف الآفاق المستقبلية.
طفرة في تبني تكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
يكشف تحليل المنشورات العلمية، عن نمو هائل في الاهتمام بهذه التكنولوجيا خلال السنوات القليلة الماضية. قبل عام 2017، كان عدد المنشورات منخفضا نسبيا، ولا يمثل سوى 6% فقط من إجمالي المنشورات المسجلة بين عامي 2012 و2022. ثم حدثت نقطة تحول بعد عام 2017، مثلت بداية نشاط بحثي أكثر كثافة في مجال الطباعة ثلاثية الأبعاد. وفي عام 2021، وصل إجمالي عدد منشورات الطباعة ثلاثية الأبعاد دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى حوالي ربع (26%) ما أنتجته الولايات المتحدة، مما يظهر زخما مشجعا.
وبرزت في المنطقة كل المملكة العربية السعودية ومصر إلى جانب إيران باعتبارها الدول الأكثر نشاطًا في أبحاث الطباعة ثلاثية الأبعاد، حيث أنتجت على التوالي 24% و17% و36% من إجمالي المنشورات. ويؤكد تحليل أكثر تفصيلا للمنشورات الأصلية هذا الاتجاه، حيث تضاعف عدد المقالات الأصلية حول الطباعة ثلاثية الأبعاد في المملكة العربية السعودية وإيران، بين عامي 2018 و2022، ليستحوذا معا على حوالي 70% من المقالات الأصلية من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مما يسلط الضوء على الأهمية المتزايدة لهذه التكنولوجيا في هذين البلدين.
تطبيقات صيدلانية في بداياتها
رغم هذا الازدهار في الأبحاث في مجال الطباعة ثلاثية الأبعاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن تطبيقها في مجال الأدوية لا يزال محدودا نسبيا وفق الدراسة. ففي عام 2022 على سبيل المثال، ركزت 50% من المقالات الإيرانية الأصلية على هندسة الأنسجة، بينما ركزت 33% من المنشورات السعودية على تطبيقات طب الأسنان. في المقابل، لم تمثل الأبحاث الصيدلانية الخاصة بالطباعة ثلاثية الأبعاد، سوى 20% من إجمالي المنشورات في المنطقة، و19% و10% فقط من المنشورات في المملكة العربية السعودية وإيران على التوالي.
وتوضح هذه الأرقام ريادة المملكة العربية السعودية وإيران في أبحاث الطباعة ثلاثية الأبعاد، مع هيمنة التطبيقات الطبية الحيوية. لكن التطبيقات الصيدلانية، على الرغم من أنها أقل تطورا في الوقت الحالي، تظل مجالا واعدا لتطبيق لتطور هذه التقنية في المستقبل.
وبحسب الدراسة، يجري في المنطقة استكشاف العديد من تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، بما في ذلك البثق والطباعة النافثة للحبر والطباعة بالليزر. تُستخدم تقنيات البثق والطباعة بالليزر بشكل شائع لتطوير أشكال الجرعات مثل الأقراص، والمدخلات والحبوب المتعددة. يجعل البثق، الذي يتكون من ترسيب مادة شبه صلبة أو منصهرة في طبقات متعددة، من الممكن إنشاء أشكال معقدة ودمج المكونات النشطة المختلفة في نفس شكل الجرعة. بينما تستخدم الطباعة بالليزر الليزر لدمج المساحيق وإنشاء هياكل صلبة.
وتعتبر الطباعة ثلاثية الأبعاد القائمة على نفث الحبر تقنية واعدة للغاية مع العديد من التطبيقات الصيدلانية، حيث تم تصنيع، أول منتج ثلاثي الأبعاد معتمد من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، باستخدام هذه التقنية. ويعتمد مبدأ نفث الحبر على القدرة على نفث ترسب قطرات سائلة صغيرة والتحكم فيها رقميا.
التحديات يجب التغلب عليها
على الرغم من إمكانياتها، لا تزال الطباعة الصيدلانية ثلاثية الأبعاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تواجه العديد من العقبات. ويشكل الافتقار إلى مبادئ توجيهية تنظيمية واضحة عقبة رئيسية أمام تطوير الأدوية المطبوعة ثلاثية الأبعاد وتسويقها. يعد تنسيق اللوائح ووضع معايير الجودة أمرا ضروريا لضمان سلامة هذه المنتجات الجديدة وضمان فعالتها
علاوة على ذلك، فإن تكلفة معدات الطباعة ثلاثية الأبعاد وتعقيد التكنولوجيا يمكن أن يحد من إمكانية الوصول إليها، وخاصة بالنسبة للمؤسسات الصغيرة العاملة في قطاع الأدوية. لذلك، فإنه من الضروري، وفق المؤلفين، تطوير حلول ميسورة التكلفة وتدريب الموظفين المؤهلين لإضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى هذه التكنولوجيا.
كما أن البحث والتطوير في مجال الطباعة الصيدلانية ثلاثية الأبعاد يتطلب تعاونا وثيقا بين الجامعات ومراكز الأبحاث وصناعة الأدوية. ويعد تبادل المعرفة والخبرة أمرا بالغ الأهمية لتسريع الابتكار وتشجيع اعتماد هذه التكنولوجيا.
مستقبل واعد
توفر الطباعة الصيدلانية ثلاثية الأبعاد آفاقا كبيرة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فهو يساعد على تلبية الاحتياجات المتزايدة للطب الشخصي من خلال تكييف الأدوية مع الخصائص الفردية للمرضى، لا سيما من حيث الجرعة وشكل الجرعة وملف الإطلاق، كما أنها الطريق أمام علاجات أكثر فعالية، مما يساعد على تحسين رعاية المرضى.
ويمكن أن تلعب الطباعة ثلاثية الأبعاد أيضا، دورا مهما في تأمين إمدادات الأدوية، وتمكين إنتاج الأدوية الأساسية محليا عند الطلب. وتعتبر هذه القدرة ذات أهمية خاصة وسط الأزمات الصحية والاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية.
تعد الطباعة ثلاثية الأبعاد الصيدلانية تقنية متنامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفق دراسة المراجعة. وفي حين لا تزال هناك تحديات، لا سيما فيما يتعلق بالتنظيم وإمكانية الوصول، فإن إمكانات هذه التكنولوجيا للطب الشخصي وتأمين إمدادات الأدوية لا يمكن إنكارها. ويعد تعزيز التعاون بين الجهات الفاعلة في القطاع وإنشاء إطار تنظيمي مناسب أمرا ضروريا لتمكين منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من الاستفادة الكاملة من هذه الثورة التكنولوجية.
المصدر:
– Trend of pharmaceuticals 3D printing in the Middle East and North Africa (MENA) region
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
نُشر حديثاً للكاتب
نقص البيانات يفاقم تحديات الأمن المائي في لبنان
هل يعالج اللبان مرض الباركنسون؟
إحياء الأنظمة التقليدية لحصاد مياه الأمطار