مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

هل الفوز بجائزة نوبل يضر بالصحة ؟!

الكاتب

د/ أحمد بن حامد الغامدي

جامعة الملك سعود – الرياض- المملكة العربية السعودية

الوقت

05:50 مساءً

تاريخ النشر

13, أكتوبر 2024

يطمح أغلب الناس لتحقيق الشهرة ونيل أقصى درجات التفوق، ولهذا بعد وصولهم للقمة الشاهقة ربما يصابون بفقدان الدافع المحفز للإبداع والتميز، وبما أننا هذه الأيام في أجواء الإعلان عن جوائز نوبل فلعله من الملائم أن نشير إلى مقولة الشاعر البريطاني تي إس إليوت عندما حصل على جائزة نوبل في الأدب وهو في سن الستين بعد أن نضب معينة الإبداعي (الحصول على جائزة نوبل أشبه بحصول الشخص على تذكرة جنازته، لم يحقق أحد أي شيء بعد فوزه بجائزة نوبل).

في الواقع بعد حصول تي إس إليوت على جائزة نوبل في الأدب عام 1948م نجد بعد هذا التاريخ بحوالي عشر سنوات قيام الكاتب والروائي وعالم الكيمياء البريطاني إس بي سنو بإلقاء محاضرة ثقافية (تحولت إلى كتاب مؤثر وواسع الانتشار) حملت عنوان (الثقافتان The Two Cultures) طرح فيه فكرة أن عالم الأدب والدراسات الإنسانية منفصل ويختلف عن دنيا العلوم والتقنية وأنهما لا يلتقيان. وبالرغم من عدم موافقتي لهذ الطرح الفكري القاصر إلا أنني يمكن أن أوظفه لمحاولة تفسير الاختلاف بين (استمرار) مسيرة الإبداع لدى العلماء والأطباء الحاصلين على جائزة نوبل في مقابل التعثر النسبي للأدباء والشعراء بعد حصولهم على جائزة نوبل في الأدب.

في الغالب يحصل الروائي أو الشاعر على جائزة نوبل في الأدب على (مجمل) إنتاجه الأدبي عبر سنوات مسيرته الأدبية الطويلة، ولهذا عندما يحصل أخيرا على الجائزة ربما يكون بالفعل ليس لديه أي مزيد من الإبداع الأدبي. بينما في المقابل نجد أن العلماء والأطباء عندما يحصلون على جائزة نوبل في العلوم تكون الجائزة منحت مقابل (اكتشاف) علمي محدد ولهذا من المحتمل أن يتوصل العالم مع المزيد من الجهد لتحقيق اكتشافات علمية إضافية يُمنح لجودتها الفائقة على جائزة نوبل ثانية. وفي مقابل الأديب المتشائم تي إس إليوت الذي قارن وربط بين الحصول على جائزة نوبل والوفاة والموت المعنوي نجد أنه عبر العقود الماضية يتردد في المجتمعات البحثية والعلمية عبارة (توجد حياة بعد الحصول على جائزة نوبل). في عام 2000م حصل عالم الأعصاب الأمريكي إريك كاندل على جائزة نوبل في الطب وهو في سن 71 وبحكم أنه كان نشيطا في أبحاثه العلمية لذا أصدر وهو في عمر 93 سنة كتابا حمل عنوان (توجد حياة بعد جائزة نوبل) ناقش فيه طبيعة حياته العلمية والاجتماعية في العشرين سنة التي تلت حصوله على جائزة نوبل.

ومن أكثر المظاهر والدلائل على أنه في دنيا العلوم كثيرا ما (توجد حياة بعد الحصول على جائزة نوبل) أنه بالفعل يوجد علماء حصلوا على أكثر من جائزة نوبل. فكما نعلم جميعا فإن أيقونة العلم السيدة ماري كوري بعد حصولها على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1903م قادتها أبحاثها الكيميائية لفصل النظائر المشعة مثل عنصر الراديوم للحصول على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1911 ميلادي. وفي عالم الرجال تجدر الإشارة إلى أن عالم الفيزياء الأمريكي جون باردين حصل على جائزة نوبل مرتين: الأولى في عام 1956م (لمساهمته في اختراع الترانستور ويكفيه هذا فخرا) والثانية في عام 1972 ميلادي. وعلى نفس  النسق كان لعالم الكيمياء البريطاني فريدريك سانجر شرف الحصول على الجائزة مرتين والغريب أنها في أزمان متقاربة نسبيا مع جوائز جون باردين حيث إن أول جائزة نوبل لسانجر كانت عام 1958م (لمساهمته في اكتشاف تركيب هرمون الإنسولين ويكفيه هذ فخرا) والثانية عام 1980 ميلادي. وبالإذن من القارئ الكريم سوف أتعمد إهمال ذكر مزيد من المعلومات عن عالم الكمياء الأمريكي كارل شاربلس الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء مرتان في عام 2001م وعام 2022م ذلك لأن الاكتشافات العلمية التي توصل لها متخصصة جدا وغير مفهومة لغير المختصين ولهذا سوف أعود إلى العالمين السابقين باردين وسانجر.

لا شك أن أهمية اختراع تقنية الترانستور المسيطر على جهاز الكمبيوتر، أو اكتشاف التركيب الكيميائي لهرمون الإنسولين المهيمن على عمليات نمو وصحة الجسم البشري، لا شك أن هذه اكتشافات علمية وتقنية على درجة عالية من الأهمية ولهذا جوائز نوبل التالية التي حصل عليها باردين أو سانجر لا تقارن في أهميتها مع تلك الجوائز الأولى. ولهذا بالجملة جائزة نوبل الأولى في حياة أي عالم هي الأهم غالبا إلا في استثناءات محدودة تثبت أنه ليس فقط توجد حياة بعد نوبل بل قد تكون أفضل وأهم الاكتشافات العلمية المحورية هي ما قد يتوصل لها بعض العلماء بعد حصولهم بسنوات على جائزة نوبل !!.

خذ على ذلك مثال حصول أينشتاين على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1921م وذلك ليس لأنه توصل لاكتشاف علمي مهم، ولكن لأنه في عام 1905م أعطى (تفسيرا علميا) صائبا لظاهرة فيزيائية مهمة مكتشفة قديما هي: ظاهرة التأثير الكهروضوئي. وفي حين أن القاصي والداني يعرف أن شهرة أينشتاين الطاغية هي لتي أوصلته (لاكتشاف) النظرية النسبية العامة والتي أنجزها في عام 1917م وفيها توصل أينشتاين لمعرفة تأثير الجاذبية على الضوء. وبالتالي صحح الأخطاء (النسبية) التي وقعت فيها نظرة وتصور نيوتن للجاذبية. والمقصود أنه كدليل لصحة مقولة (توجد حياة بعد نوبل) في دنيا العلوم يمكن الاستشهاد بأن شهرة أينشتاين الطاغية جاءت لاكتشاف علمي توصل إليه بعد سنوات وسنوات من الإسهام العلمي الذي منحه جائزة نوبل. وفي ذات المساق والسياق نجد أن عالم الفيزياء النيوزلندي إرنست راذرفورد استحق لقب (أبو الفيزياء النووية) ليس لأبحاثه حول النشاط الإشعاعي التي منحته جائزة نوبل في الكيمياء عام 1908م ولكن لتوصله بعد ذلك بسنوات وبالتحديد في عام 1911م لاقتراح فكرة (نموذج راذرفورد لتركيب الذرة) الذي يعرفه جميع طلاب المدارس. وبهذا أثبت أنه بالفعل في دنيا العلم يمكن للعالم أن يتوصل لأهم اكتشافاته العلمية بعد حصوله بسنوات على جائزة نوبل.

تحذير .. الفوز بجائزة نوبل يضر بالصحة

فيما سبق حاولت حشد الأمثلة من دنيا العلوم وعالم الاختراعات التقنية لأثبت أنه بالفعل توجد حياة بعد جائزة نوبل، ومع ذلك ربما كان الشاعر الإنجليزي تي إس إليوت على بعض الحق في مقولته (الحصول على جائزة نوبل أشبه بحصول الشخص على تذكرة جنازته). فهذا ما حصل بالفعل لعالم المناعة الكندي رالف ستنمان الذي أعلن في بداية شهر أكتوبر من عام 2011م عن حصوله على جائزة نوبل في الطب بينما كان قبل ذلك الإعلان بأيام قليلة قد توفي بمرض السرطان. وبحكم أن جائزة نوبل لا تمنح إلا لشخص على قيد الحياة فقد حصلت ضجة كبرى لإهمال لجنة جائزة نوبل في التدقيق من أن الشخص المرشح لجائزة نوبل ما زال على قيد الحياة. وبالمناسبة الشخص الوحيد الذي منحت له جائزة نوبل والجميع يعلم أنه (لا حياة له بعد جائزة نوبل) هو الشاعر السويدي إريك كارلفات الذي منحت له جائزة نوبل في الأدب في شهر أكتوبر من عام 1931م مع أن الجميع يعلم بأنه قد توفي قبل ذلك  بعدة أشهر أي في شهر أبريل. والأغرب من ذلك أن نفس هذا الشاعر (وهو على قيد الحياة) قد منح جائزة نوبل في الأدب عام 1919م ومع ذلك رفض قبول تلك الجائزة المرموقة !!.

في حالات نادرة تكاد  تذكر يحصل نوع من  التزامن بين الحصول على جائزة نوبل وبين الموت (الفعلي) الجسماني بينما من الناحية الإحصائية توجد تكرارية ملموسة بين الحصول على جائزة نوبل والموت (المعنوي) والاضمحلال الإبداعي الذي قصده الشاعر توماس إليوت. ومع ذلك احتمالية (التأثير الضار) للحصول على جائزة نوبل قد لا يصل لحالاته القصوى بالموت والتلاشي، ولكن قد يكون الحصول على جائزة نوبل بالفعل أمرا ضارا بالصحة كما هي المقولة المشهورة لعالم الكيمياء الأمريكي كاري موليس الحاصل على جائزة نوبل لعام 1993 ميلادي. من العادات المتبعة عند الإعلان عن اسم الفائز الجديد بجائزة نوبل في المجالات العلمية أن يتم تنبيهه وتحذيره من قبل رئيس الجمعية الملكية السويدية للعلوم عندما يتصل به قبل ساعة من الإعلان الرسمي بفوزه بالجائزة بأن تلك آخر ساعة في عمره ينعم فيها بالراحة لأن حياته في الغالب سوف تتغير بشكل ملموس بعد الإعلان عن حصوله على الجائزة.

وهذا متوقع تماما لأن الفائز بجائزة نوبل سوف يتردد اسمه فجأة في كل بقاع الأرض وسوف تنهمر عليه آلاف الاتصالات والمقابلات الصحفية وسوف يدعى للمشاركة في المؤتمرات العلمية وتعرض عليه عضوية اللجان المرموقة في الجامعات والمراكز البحثية والمجلات العلمية المحكمة وربما يتم اختياره لبعض المناصب الحكومية أو توكل له بعض المهام الاستشارية لحكام الدول والوزراء. وبمختصر العبارة سوف يزيد الضغط العلمي والاجتماعي بل وحتى السياسي على أي شخص يحصل على جائزة نوبل وهذا في جوانب منه قد يسبب القلق والإرهاق مما يثمر بعض المشاكل الصحية بل وحتى الاضطرابات النفسية التي يعرف بعضها باسم (متلازمة جائزة نوبل Nobel Prize Syndrome).

بسبب (النجومية) الطاغية للحاصلين على جائزة نوبل والتقدير والاحتفاء بهم بشكل مبالغ فيه يبدأ الناس في الاعتقاد بأن الحاصلين على جائزة نوبل هم أشخاص على درجة عالية من الذكاء وقدرة كبيرة على الحكم على الأمور بحكمة وصدق. لقد عبر عالم الاقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1976م، عبر عن سخطه عن ظاهرة المبالغة في الاعتقاد أن الفائزين بجائزة نوبل يفهمون في كل شيء ويستطيعون الإجابة على جميع الأسئلة، فحسب وصف فريدمان (لقد سئلت أنا شخصيا عن رأيي في كل شيء حتى عن علاج نزلات البرد). الاهتمام المتضخم بخبرة علماء نوبل وقدرتهم على تقديم الاستشارة في جميع القضايا وصلت إلى قادة الدول والحكام لدرجة أن عالم الكيمياء الأمريكي كاري موليس السالف الذكر والحاصل على جائزة نوبل لعام 1993م كتب يشير إلى (ثقل جائزة نوبل) وأنها تفتح له جميع الأبواب وأنه لا يوجد مكتب رئيس وزراء ولا حاكم دولة لا يستطيع أن يدخل إليه بسبب أن الجميع يتوقع من علماء نوبل أن لديهم شيئا مهما جديرا بالاستماع إليه.

المشكلة أنه مع الزمن يقع بعض الفائزين بجائزة نوبل في مصيدة إغراء حب الظهور وربما يدفعهم الغرور إلى الاعتقاد أنهم بالفعل أشخاص عباقرة في جميع المجالات وليس فقط في مجال تخصصهم العلمي الدقيق ولهذا ينخرط بعضهم في مشكلة (الإفتاء) وإبداء الرأي في جميع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والتربوية والقائمة تطول وتطول.

للأسف فيما يخص بعض علماء نوبل نجد أنه مع الزمن وكلما يتقدم بهم العمر ومع استمرار مظاهر التبجيل والإعجاب بهم وثقة شرائح واسعة من المجتمع بأنهم يملكون معرفة موثوقة في جميع المجالات، لذا نجد بعض هؤلاء العلماء يتعرضون لخلل في التفكير ويطلقون أحكاما وتصريحات وأفكار خاطئة تماما، وتوجد قوائم بالأخطاء الفاحشة والحماقات الغريبة التي قام بها كوكبة من علماء نوبل. هذه الحالة العقلية المختلة وغير السوية التي قد يقع فيها بعض علماء نوبل بسبب الثقة الزائدة في قدرتهم على الإفتاء وإبداء الرأي في مجالات معرفية بعيدة تماما عن تخصصاتهم العلمية يطلق عليها البعض من باب السخرية من علماء نوبل (مرض متلازمة نوبل) أو مرض الالتهاب النوبلي (Nobelitis).

ومن هذا وذلك يمكن للبعض أن يقبل الادعاء الشائع في الأوساط الطبية أن بعض العباقرة مثل علماء نوبل قد يتعرضون أحيانا لمشاكل صحية واختلالات ذهنية أكثر من غيرهم بمعنى أنه بالفعل (الفوز بجائزة نوبل قد يكون مضرا بالصحة) في حين أن الاستقراءات الإحصائية تعطي صورة مختلفة تماما حيث إن الفوز بجائزة نوبل يجعل الشخص في العادة يعيش أطول من عمر أقرانه من العلماء. ولعلنا نختم بذكر أن من طرائف تناقضات حالة الاضطرابات النفسية التي قد تصيب بعض الأفراد الذين قد يتعاطفون أو يتعاونون مع أعدائهم أو من أساء إليهم وهي الحالة النفسية التي تعرف باسم (متلازمة ستوكهولم) نسبة للحادثة المشهورة التي وقعت في عام 1973م عندما حصلت جريمة سطو مسلح على بنك في مدينة ستوكهولم وتم أخذ أربعة أشخاص كرهائن ولاحقا تعاطفوا مع خاطفيهم بل ودافعوا عنهم. التناقض الذي حصل في ستوكهولم والمتمثل في التعاطف مع من أساء إليك يشبه بصورة من الصور حالة التناقض للعالم والمخترع الذي يصل إلى مدينة ستوكهولم عاصمة السويد لكي يستلم جائزة نوبل كنوع من الاعتراف بعبقريته الفذة ثم مع الزمن يتغير ذلك العالم النوبلي العبقري إلى شخص لديه اختلال في التفكير ولذا يوصف بأنه مصاب بمتلازمة نوبل أو بعبارة أخرى (متلازمة ستوكهولم Stockholm Syndrome) أي العبقري الذي يتصرف بغرور أو بجنون.

البريد الإلكتروني: ahalgamdy@gmail.com

___________________________

نُشر حديثاً للكاتب

عندما يتذبذب الزمن وتختل رزنامة التاريخ

الكلمات المفتاحية

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

الكلمات المفتاحية

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x