تشكل ندرة المياه أحد التحديات الكبيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بسبب المناخ الجاف والنمو السكاني المستمر، إلى جانب التأثيرات الناتجة عن التغيرات المناخية التي تزيد من الضغوط على مصادر المياه المحدودة. ولمجابهة هذه التحديات، لجأت العديد من دول المنطقة، مثل دول الخليج العربي، إلى اعتماد تقنية تحلية المياه لتلبية حاجياتها من المياه. غير أن اعتماد هذه التقنيات يواجه عددا من المشاكل مثل ارتفاع استهلاك الطاقة وتكاليف الاستثمار والتأثيرات البيئية الناجمة عن تصريف المحلول الملحي.
ورغم هذه التحديات، تظهر نتائج دراسة مراجعة أجراها باحثون من الأردن وتونس وألمانيا ونشرت مؤخرا في دورية (Water) العلمية، أن الطاقات المتجددة يمكن أن توفر فرصا كبيرة لجعل تقنيات تحلية المياه أكثر استدامة في مجابهة التحديات الناتجة عن ندرة المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وأظهرت الدراسة أيضا أنه يمكن للمنطقة، من خلال الاستفادة من مصادر الطاقة المتجددة وتطوير تقنيات تحلية المياه، تحقيق الأمن المائي مع التخفيف من الآثار البيئية وتعزيز التنمية الاقتصادية.
تحلية المياه: الحل مكلف ماديا وبيئيا
تبرز ندرة المياه كقضية ملحة في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تتميز بهيمنة الصحاري والمناخ الجاف وشبه الجاف في الغالب وتتراوح المعدلات السنوية لهطول الأمطار في معظم المناطق بين 100 و 250 ملم، مع تقلبات عالية، تؤدي إلى تفاقم مشكلة المياه.
تعتمد المنطقة في تلبية حاجياتها من الماء على مصادر تقليدية محدودة مستمدة من المياه السطحية مثل الأنهار والسدود، والمياه الجوفية التي تواجه تحديات مثل الإفراط في الاستغلال والنضوب وزيادة الملوحة. ويتجلى هذا الوضع بوضوح، وفق الدراسة، في دول مجلس التعاون الخليجي وجيبوتي وليبيا والأردن، حيث تندر موارد المياه السطحية والجوفية.
موارد المياه الجوفية والسطحية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (المصدر: دراسة المراجعة)
وبحسب مؤلفي الدراسة فإن تحقيق إدراة مستدامة للمياه يتطلب اتباع نهج متعدد الأوجه، يشمل إمدادات منتظمة من المياه، ومصادر طاقة مستدامة، واستخدام فعال للمياه في القطاعات المنزلية والصناعية والزراعية. وتُعد تحلية المياه أحد الجوانب الأساسية لهذه الاستراتيجية، حيث تفرض نفسها كحل واقعي لزيادة موارد المياه العذبة.
غير أن تحلية المياه، تعتبر عملية كثيفة الاستهلاك للطاقة، ويصل استهلاكها في المتوسط إلى حوالي 75 تيراوات في الساعة سنويًا ما يمثل 0.4٪ من استهلاك الطاقة الكهربائية العالمي. تؤدي كثافة الطاقة هذه إلى تأثيرات بيئية كبيرة، حيث تنتج ما يقرب من 76 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًا، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 218 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًا بحلول عام 2040 بسبب زيادة قدرات تحلية المياه. وتؤكد العلاقة المعقدة بين المياه والطاقة والبيئة على الحاجة إلى حلول مستدامة، لذلك تبرز أهمية استخدام الطاقة المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية، كبديل واعد للطاقة الأحفورية للحد من البصمة البيئية لعمليات تحلية المياه.
وبما أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تستحوذ على ما يقرب من نصف القدرة العالمية لتحلية المياه العالمية (47.5٪)، فإن تبني تقنيات تحلية المياه بالطاقة الشمسية يكتسب زخمًا متزايدا وخاصة في دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، كما يقول المؤلفون. ويشير النسق المتزايد للاستثمارات في تحلية المياه بالطاقة الشمسية، على الرغم من ارتفاع التكاليف الأولية، إلى تحول نحو الممارسات المستدامة في المنطقة، وهذا ما يؤكده، على سبيل المثال، بناء أكبر محطة للطاقة الكهروضوئية والتناضح العكسي في العالم في المملكة العربية السعودية والخطط الخاصة بمشروع كبير للطاقة الكهروضوئية والتناضح العكسي في الإمارات العربية المتحدة.
سعة تحلية المياه بتقنيات التناضح العكسي في بلدان مختلفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
(دراسة المراجعة)
وعلى الرغم من استمرار التحديات مثل تلك المرتبطة بالتخلص من المحلول الملحي والتكاليف الأولية المرتفعة، فإن التقدم في تقنيات تحلية المياه بالطاقة الشمسية والطلب المتزايد على المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يشير إلى مستقبل واعد لممارسات تحلية المياه المستدامة. وتعمل جهود البحث العلمي في المنطقة على المساهمة في تطوير محطات تحلية المياه، وخاصة منها التي تقوم على تقنيات التناضح العكسي، من خلال اعتماد مصادر الطاقة المتجددة، لتحسين كفاءة هذه العمليات وجدواها الاقتصادية.
مساهمة دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أبحاث تحلية المياه باستخدام الطاقة الشمسية
ينعكس الاهتمام المتزايد باعتماد تقنيات تحلية المياه التي تستخدم الطاقة الشمسية في الجهود التي تبذلها دول المنطقة في مجال البحث العلمي، حيث يكشف التحليل الذي أجراه مؤلفو دراسة المراجعة، عن مساهمة كبيرة لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الانتاج العلمي العالمي حول تحلية المياه بالطاقة الشمسية. وتُبيّن النتائج أن هذه الدول أنتجت 391 ورقة علمية من أصل 1262 ورقة منشورة عالميا حول هذا الموضوع خلال الفترة من 2004 إلى يونيو 2024، (ما يمثل نسبة مساهمة قدرها 30.1٪)
وأظهر التحليل، أن مصر كانت المساهم الرئيسي في إنتاج هذه الأبحاث بين دول المنطقة، حيث بلغ انتاجها 144 ورقة علمية منشورة، تلتها المملكة العربية السعودية (129 ورقة) في المرتبة الثانية، ثم تونس في المرتبة الثالثة (45 ورقة). كما برزت كل من الأردن والإمارات العربية المتحدة كمساهمين مهمين، بإنتاج 32 و 31 ورقة على التوالي. بحسب الدراسة، فإن هذه النتائج، تعكس خبرة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتزامها بمعالجة تحديات ندرة المياه، كما تثبت مشاركتها النشطة ومساهماتها الكبيرة في التقدم في تكنولوجيا تحلية المياه بالتناضح العكسي باستخدام الطاقة الشمسية.
خريطة التعاون بين البلدان المشاركة في التأليف فيما يتعلق بتحلية المياه
بالتناضح العكسي باستخدام الطاقة الشمسية (المصدر: دراسة المراجعة)
وكشف التحليل كذلك أن المملكة العربية السعودية كانت على رأس قائمة الدول الأكثر تعاونا مع دول أخرى من المنطقة في انتاج الأوراق العلمية في هذا المجال البحثي حيث تضمن 42 مقالا بحثيا أنتجتها مراكز البحوث السعودية بالتعاون مع باحثين من دول المنطقة، من جملة 69 مقالاً (60.1٪) أنتجت في إطار الشراكة. واحتلت مصر المرتبة الثانية (29 مقالا من أصل 93)، تلتها الإمارات العربية المتحدة (ـ15 من أصل 22 مقالاً).
وتظهر هذه النتائج، أن بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قادرة على وضع نفسها في طليعة البلدان الرائدة في مجال تحلية المياه باستخدام الطاقة الشمسية، مما يساهم في مستقبل مائي أكثر أمنا واستدامة للمنطقة.
تحلية المياه باستخدام الطاقة الشمسية: الحل الواعد
تستقبل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما بين 22% إلى 26% من أشعة الشمس التي تتلقاها الأرض، وتعادل هذه الكمية من الطاقة الشمسية حوالي 1.5 مليار برميل من النفط الخام سنويا، وهو مصدر يمكنه توفير نصف استهلاك العالم من الكهرباء. وعلى الرغم من هذه الإمكانات، كان استخدام الطاقة الشمسية في دول المنطقة منخفضًا نسبيًا، ولا يمثل سوى 1% من القدرة العالمية على توليد الكهرباء المتجددة بسبب توفر الطاقة الأحفورية منخفضة الكلفة نسبيا. غير أن ذلك لم يمنع العديد من البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من وضع أهدافً طموحة لزيادة قدرتها على توليد الطاقة المتجددة.
وقد كشفت العديد من الدراسات التي تمت مراجعتها عن فعالية محطات تحلية المياه باستخدام الخلايا الكهروضوئية وتقنية التناضح العكسي من حيث التكلفة والاستدامة البيئية مقارنة بأنظمة الطاقة التقليدية التي تعمل بالشبكة في سياقات مختلفة، بداية من وحدات تحلية المياه الصغيرة في بيروت إلى المحطات الكبيرة في المغرب ووادي الأردن. وأكدت هذه الدراسات أن دمج تقنية الخلايا الكهروضوئية والتناضح العكسي يمثل نهجا واعدا لتحلية المياه بشكل مستدام.
وتناولت البحوث المنشورة تحسين أنظمة الطاقة الشمسية المركزة المتكاملة مع تحلية المياه بالتناضح العكسي، مع التركيز على التأثيرات البيئية والفعالية من حيث التكلفة. وقد كشفت هذه الدراسات عن نتائج واعدة، مثل انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 27.6٪ وتحديد التصميم الأكثر فعالية من حيث التكلفة عند الجمع بين التناضح العكسي والطاقة الشمسية.
وسعت أوراق أخرى إلى البحث عن كيفية تعزيز فعالية تقنيات مختلفة لتحلية المياه، بما في ذلك تلك التي تستخدم الطاقة المتجددة ومحركات الاحتراق الداخلي وخفض كلفتها، من خلال استكشاف مجموعة متنوعة من العوامل، مثل اختيار السوائل العاملة وتوافر مصادر الحرارة وعمليات التسخين والتبريد.
بشكل عام، أظهر اقتران مصادر الطاقة المتجددة بعمليات تحلية المياه إمكانية تقليل التأثير البيئي وتكاليف إنتاج المياه العذبة بشكل كبير، فإن التحديات مثل انقطاع المياه وكفاءة النظام لا تزال قائمة. ومن الضروري إجراء المزيد من جهود البحث والتطوير لتحسين هذه الأنظمة، وتعزيز قابليتها للتوسع وفعاليتها من حيث التكلفة، كما يقول المؤلفون.
المصادر
Innovations in Solar-Powered Desalination: A Comprehensive Review of Sus tainable Solutions for Water Scarcity in the Middle East and North Africa (MENA) Region
البريد الإلكتروني للكاتب: gharbis@gmail.com