أمراض القلب الخلقية (Congenital Heart Disease) هي حالات مرضية شاذة منتشرة تؤثر على 1٪ من المواليد الأحياء في العالم (ما يقرب من 1.5 مليون حالة سنويا). وتعد هذه الأمراض السبب الرئيسي لوفيات الرضع، خاصة في المناطق المحرومة اقتصاديا، مثل البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. في العالم العربي، تواجه العديد من الدول تحديات مختلفة في مجال الرعاية الصحية، تشمل ارتفاع معدل الإصابة بأمراض القلب الخلقية واضطرابات القلب الأخرى التي تتأثر بعوامل نمط الحياة والتفاوت في الرعاية الصحية.
وقد أظهرت الدراسات الوبائية ارتفاع معدل الإصابة بأمراض القلب التاجية في البلدان العربية بسبب معدلات زواج الأقارب المرتفعة. ويقدر معدل الإصابة السنوي بأمراض القلب التاجية بين المواليد الأحياء بما بين 9 و15 في الألف في قطر، و12 في الألف في الأردن، و11 في الألف في لبنان، و7 في الألف في عمان، و10 في الألف في مدينة غزة في فلسطين.
وفي مصر، تم الإبلاغ عن زواج الأقارب في 44٪ من حالات أمراض القلب التاجية، وكانت هذه النسبة في حدود 30.5٪ في تونس. وفي عام 2015، سُجلت 65% من الأجنة المصابة بأمراض القلب التاجية في دولة الإمارات العربية المتحدة لدى عائلات ارتبط فيها الزوجان بعلاقة قرابة.
وعلى الرغم من وفرة الأبحاث العالمية حول هذا الموضوع، إلا أن هناك نقصًا ملحوظًا في الدراسات الشاملة التي تتناول مساهمات الدول العربية في جهود البحث حول هذه الأمراض والتحديات المختلفة لمعالجة هذه المشكلة الصحية.
في دراسة جديدة نشرت مؤخرا في دورية (Frontiers in Cardiovascular Medicine) العلمية، قام فريق من الباحثين من جامعات لبنانية وقطرية بإجراء مراجعة ببليومترية للأبحاث العربية المتعلقة بأمراض القلب الخلقية في العالم العربي والتي نشرت بين عامي 1997 إلى 2022. واظهرت الدراسة أن الإنتاج العلمي العربي حول هذا الموضوع سجل نموا سنويا متواصلا طوال هذه الفترة، لكنه ظل ضعيفا جدا مقارنة بالولايات المتحدة والبلدان الأوروبية. كما اتسم هذا الإنتاج بتفاوت كبير بين الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط والضعيف، حيث أنتجت خمس دول فقط أكثر من ثلاثة أرباع إجمالي المنشورات.
إنتاجية البحوث العلمية المتعلقة بأمراض القلب الخلقية
بحسب الدراسة، فقد بلغ إنتاج الدول العربية من الأبحاث العلمية المتعلقة بأمراض القلب الخلقية خلال السنوات الخمس والعشرين الممتدة من 1997 إلى 2022، 2666 ورقة علمية، بمتوسط 5.7 مقالاً لكل مليون نسمة. ورغم أن إنتاجية النشر سجلت معدل نمو سنوي قدره 11.5 بالمائة، فإن متوسط إنتاج هذه الأبحاث لكل مليون ساكن ظل ضعيفا جدا مقارنة بدول مثل كندا (184 ورقة لكل مليون ساكن) والولايات المتحدة (119) وفرنسا (94) مما يعني أن الإنتاجية البحثية للفرد في الدول العربية كانت أقل في المتوسط بنحو 24 مرة من مثيلتها في هذه الدول، لكنه يبقى في نفس الوقت أعلى من المتوسط الذي سجلته دول أخرى مثل باكستان (2.4) والهند (2.4) ونيجيريا (0.78).
تطور عدد الأوراق العلمية المنشورة حول أمراض القلب الخلقية لدى الأطفال في الدول العربية بين عامي 1997 و2021 (المصدر : دراسة المراجعة)
واستنادا إلى عدد كليات الطب الموجودة في الدول العربية والتي يبلغ عددها 150 كلية، يكون معدل الإنتاجية لكل كلية طب 17.7 ورقة علمية طوال فترة الدراسة، وهو معدل أضعف بحوالي 15 مرة في المتوسط مقارنة بالولايات المتحدة والدول الأوروبية حيث بلغ متوسط إنتاج كليات الطب في كندا على سبيل المثال 411 ورقة لكل كلية و182 في الولايات المتحدة و170 في فرنسا.
تباين كمي وكيفي بين الدول العربية
كان إنتاج الأبحاث العلمية المتعلقة بأمراض القلب الخلقية متفاوتا بين الدول العربية، حيث ساهمت خمس دول هي المملكة العربية السعودية، مصر، المغرب، لبنان، وتونس بحوالي 78 بالمائة من إجمالي المنشورات. وحصلت المملكة العربية السعودية على أعلى نسبة مساهمة في المقالات المنشورة، بلغت 23.5% (626 مقالة)، تليها مصر بنسبة 21.5% (573 مقالة).
وشمل التباين في مخرجات البحوث بين الدول العربية أيضا معدلات النشر لكل مليون نسمة، حيث شهدت دول مجلس التعاون الخليجي معدلات إنتاجية مرتفعة كان أعلاها في قطر التي بلغ فيها متوسط المقالات المنشورة لكل مليون نسمة (24.8)، تلتها المملكة العربية السعودية (17.2) وعمان (15) والكويت (14). وسجلت باقي الدول العربية معدلات متفاوتة بلغت في لبنان 16.2 ورقة علمية لكل مليون ساكن وتونس (7) ومصر (5) وهي دول ذات دخل متوسط منخفض. وكان متوسط إنتاجه الدول ذات الدخل المنخفض مثل اليمن وسوريا والصومال والسودان فقد في حدود 0.5 مقالة لكل مليون نسمة. أما البلدان التي شهدت فترات من عدم الاستقرار مثل العراق ورغم أنها تصنف ضمن البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى، فقد سجلت معدلات منخفضة أيضا قدرت ب0.9 و0.5 على التوالي.
لم يكن متوسط إجمالي الاستشهادات السنوي منتظما طوال فترة الدراسة، وفق دراسة المراجعة، إذ كان متدنيا في حدود 0.42 استشهاد فقط لكل ورقة علمية سنة 1997 ووصل إلى 9.4 في عام 2012 لكنه تراجع إلى 5.2 في 2017 و 3 استشهادات لكل مقالة في عام 2020.
تطور متوسط الاستشهاد لكل مقالة منشورة في الدول العربية حول أمراض القلب الخلقية لدى الأطفال بين عامي 1997 و2021 (المصدر: دراسة المراجعة)
وكانت الأوراق العلمية الأكثر استشهاداً هي تلك التي أنتجتها كل من المملكة العربية السعودية ومصر ولبنان، حيث بلغ إجمالي الاستشهادات 4690 و4347 و902 على التوالي. وحصل لبنان على أعلى نسبة استشهاد لكل مقالة بمعدل 10.1، تليها مصر (7.6) والمملكة العربية السعودية (7.5). أما في الصومال وسوريا واليمن، وهي بلدان تصنف ذات دخل منخفض، فقد بلغ متوسط الاستشهاد بها 0.5 و1 و0.8 لكل مقالة على التوالي. للمقارنة، وصل معدل الاستشهادات للأبحاث المنشورة في الولايات المتحدة الأمريكية، 76.7 استشهادا لكل ورقة، وفي كندا (80.2) وفي فرنسا (28).
هيمنة للدوريات ذات عامل التأثير المنخفض
معظم المقالات العلمية العربية المتعلقة بأمراض القلب الخلقية نُشرت في مجلات ذات عوامل تأثير منخفضة أو متوسطة تتراوح بين 0.1 و1.7، ولم ينشر سوى عدد قليل من البحوث في الدوريات الأعلى تأثيرا. وشملت قائمة المجلات العشر الأكثر نشرا لهذه البحوث خمسة من الدوريات التي تصدر في دول المنطقة (ثلاث دوريات في المملكة العربية السعودية ودوريتين في مصر). وقد أشارت دراسات سابقة إلى وجود اتجاه متزايد لنشر الأبحاث الطبية والطبية الحيوية في المجلات المحلية ذات عامل التأثير المنخفض في العالم العربي.
المجلات العشر الأكثر نشرا لبحوث الدول العربية في مجال أمراض القلب الخلقية لدى الأطفال (المصدر: دراسة المراجعة)
التعاون الدولي
ومن بين 2666 مقالة منشورة، وجدت الدراسة أن 26% منها شارك في تأليفها باحثون من بلدان متعددة في إطار تعاون دولي. ومثلت المقالات المنشورة من دولة الإمارات العربية المتحدة في إطار تعاون دولي نسبة 67%. وكانت 48% من المقالات المنشورة من قطر في إطار تعاون مع دول أخرى، وفي لبنان 34%، وفي المملكة العربية السعودية 26%، وفي مصر 20%. واستحوذت الولايات المتحدة الأمريكية على أكبر نسبة من المنشورات المنتجة في إطار التعاون 35%، تليها فرنسا (14%)، والمملكة المتحدة (12%)، وكندا (9%)، وألمانيا (7%). ولاحظ المؤلفون أنه كلما ارتفعت وتيرة التعاون الدولي، زادت جودة البحوث المنتجة.
المؤسسات البحثية الأكثر إنتاجا ومصادر التمويل
وبرز في قائمة المؤسسات والجامعات الأكثر مشاركة في إنتاج المنشورات بنك المعرفة المصري إلى جانب سبع جامعات مصرية وأربعة سعودية وجامعة لبنانية، بالإضافة إلى جامعتين من الولايات المتحدة الأمريكية، وأربعة من فرنسا. ووجد الباحثون أن العديد من البرامج البحثية ذات الكفاءة العالية والتي تم تمويلها بشكل جيد من قبل جامعات من مصر والمملكة العربية السعودية ولبنان أنتجت أعدادا كبيرة من البحوث ذات تأثير واستشهادات عالية.
المؤسسات والجامعات الأكثر مشاركة في إنتاج المنشورات العربية حول أمراض القلب الخلقية لدى الأطفال (المصدر: دراسة المراجعة)
وأظهرت نتائج الدراسة كذلك، أن 564 من أصل 2666 مقالة منشورة (22%)، حصلت على تمويلات جاء معظمها من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، ولم يمثل التمويل المتأتي من مصادر إقليمية مثل صندوق قطر الوطني للبحث العلمي والجامعات المحلية سوى أقل من 10%.
يرى مؤلفوا دراسة المراجعة أن هناك مشكلات مرتبطة بأمراض القلب الخلقية في العالم العربي، معدلات زواج الأقارب مرتفعة بشكل ملحوظ، ما زالت غير مستكشفة، مما يحتم مزيد الاهتمام بالأبحاث المتعلقة بالأساس الجيني لأمراض القلب الخلقية. وقد أكدت الدراسات السابقة أن قرابة الدم تشكل عامل خطر كبير، ودعت إلى إجراء المزيد من البحوث الجينية في هذا المجال.
ولاحظوا أن ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي يرتبط بزيادة إنتاجية البحث، لذلك فمن الضروري إدراك أن العوامل الأخرى المختلفة، بما في ذلك الموارد البشرية، ورؤية الحكومات، وخطط التطوير المنهجي، والاستقرار، تساهم بشكل كبير في تعزيز البحث. وأكدوا أنه يمكن للأبحاث المنشورة في البلدان النامية أن يكون لها تأثير أكبر عندما تنجز في تعاون دولي مع البلدان المتقدمة، لا سيما من خلال التعاون مع الباحثين العرب المهاجرين في الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
وخلص الباحثون إلى أن التحسينات في إنتاجية أبحاث أمراض القلب عند الأطفال في الدول العربية وزيادة تأثيرها، يرتبط بعوامل مثل الدعم الحكومي القوي والتطوير المنهجي واستقرار البلاد والتمويل الوفير والتعاون الدولي مع وجود رؤية بحثية محددة جيدا.
البريد الإلكتروني: gharbis@gmail.com