شهد نشاط البحث العلمي والابتكار في دول الشرق الأوسط والدول العربية تطورا كبيرا على مدى العقود القليلة الماضية. ولا شك في أن فهم هذه التطورات ورصد اتجاهاتها ودراسة تأثيرها على المنطقة يمكن أن يوفر رؤى قيمة حول المشهد العلمي فيها، ويحدد عناصر قوته وضعفه، ويكشف عن المجالات المحتملة لتحسين أدائه ومخرجاته.
في هذا المقال سنستعرض نتائج دراسة تحليل ببليومتري شامل للإنتاجية البحثية في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية على مدى 20 عاما، أجراها باحثون من جامعة الأردن ونشرت في دورية “Publications” العلمية المحكمة.
وتضم منطقة الدراسة جميع دول منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك تركيا وإيران وقبرص إضافة إلى دول المغرب العربي وجيبوتي وجزر القمر.
ورغم أن هذه النتائج كشفت عن زيادة ثابتة في إنتاجية البحوث، فقد رصدت فوارق كبيرة بين البلدان في الإنتاج العلمي والتميز والتأثير، إلى جانب ضعف مساهمة المنطقة في الأوراق العلمية المنشورة في المجلات عالية التأثير من حيث نسب الاستشهادات والاقتباسات. هذا في الوقت الذي ركزت فيه الجهود البحثية على مواضيع جون أخرى، فقد أظهرت النتائج كذلك أن بعض المجلات البحثية كمجال العلوم الفيزيائية حظيت باهتمام كبير في منظومات البحث لدول المنطقة عكس العلوم الاجتماعية التي لم تحظى باهتمام كبير.
تفاوت كمي ونوعي في الإنتاج العلمي
يقول المؤلفون في هذه الدراسة إن تنوع الخصائص الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمنطقة الشرق الأوسط والدول العربية انعكس على انتاجها العلمي الذي شهد تطورا كبيرًا خلال العقود القليلة الماضية. ويظهر تحليل البيانات الخاصة بقاعدة سكوبس “Scopus ” أن دول المنطقة قامت مجتمعة بنشر أكثر من 3.3 مليون ورقة علمية بين عامي 2003 و2022 من قبل الباحثين المنتمين لمنطقة الشرق الأوسط والدول العربية. ومع أهمية هذا العدد، فإنه لا يمثل في الحقيقة سوى أقل من ربع انتاج دول الاتحاد الأوروبي (حوالي 13.8 ورقة) وأكثر بقليل من خمس انتاج أمريكا الشمالية (14,79 مخرجًا علميًا) خلال نفس الحقبة. وكانت المملكة العربية السعودية أعلى الدول العربية من حيث عدد إجمالي المخرجات العلمية (345,802 منشورا) تليها مصر (327,649)، بينما تصدرت كل من إيران وتركيا دول المنطقة ككل بإنتاج 804,289، و783,062 مخرجا علميا على التوالي.
توزيع المنشورات العلمية لمنطقة الشرق الأوسط والدول العربية على الدوريات العلمية المصنفة حسب مستوى تأثيرها (المصدر: الدراسة)
وفي ترتيب أعلى مؤسسات البحث نشرا للأوراق العلمية، احتلت جامعة الملك سعود وجامعة القاهرة المرتبة الثانية والثالثة في ترتيب أعلى مؤسسات البحث نشرا للأوراق العلمية بنشرهما 72727 و 58709 بحثا على التوالي وراء جامعة آزاد الإسلامية الإيرانية (139188 منشورا). في المقابل وفي أسفل هذا الترتيب تأتي جامعة القمر في جزر القمر بـ 74 ناتجا علميا، ومركز الدراسات والبحوث في جيبوتي بإجمالي 102 مخرجًا علميًا، وجامعة الصومال الوطنية في الصومال بـ 44 مخرجًا علميًا فقط.
التفاوت بين دول المنطقة شمل أيضا الجوانب المتعلقة بجودة البحوث ودرجة تأثيرها، إذ تظهر النتائج أن بعض الدول كان لديها نسب عالية من المخرجات العلمية المنشورة في الدوريات عالية التأثير الموجودة في الربع الأول من تصنيف سكوبس (أي من نسبة 25 بالمائة من المجلات الأعلى تأثيرا) . وتمتلك قبرص أعلى نسبة من المخرجات العلمية المنشورة في مجلات الربع الأول من الدرجة الأولى (41.48%)، تليها المملكة العربية السعودية (41%)، وقطر (45.73%)، وجيبوتي (44.09%). وتُظهر العديد من البلدان توزيعًا متوازنًا نسبيًا عبر مستويات الدوريات المختلفة، مما يعني، وفق المؤلفين، أن لديها محفظة نشر متنوعة من حيث تصنيفات الدوريات. وقد أظهرت الجزائر والأردن وليبيا والمغرب على سبيل المثال، نسبًا متشابهة في توزع منشوراتها عبر فئات الربع الأول والربع الثاني والربع الثالث. ومع ذلك، زل عدد يسير من البلدان لديها نسبة أعلى من مخرجاتها العلمية في المجلات ذات التصنيف الأدنى، مثل العراق حيث تم تصنيف 27.76% من إنتاجها العلمي ضمن فئة الربع الرابع.
غير أن مؤلفي الدراسة يشيرون إلى أن تصنيف التميز البحثي من خلال النسبة المئوية للمقالات المنشورة في دوريات الربع الأعلى له حدوده الخاصة، لاسيما عندما يكون عدد المخرجات العلمية منخفضًا، مما قد يؤدي إلى نتائج إيجابية “كاذبة”.
بشكل عام، يرى الباحثون أن دول الشرق الأوسط والدول العربية تتمتع بنسبة أقل من الإنتاج العلمي المنشور في المجلات ذات التأثير الأعلى مقارنة بالاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية. هذا التفاوت النسبي في الجودة يظهر أيضا خلال تحليل إنتاجية البحث ومؤشرات التأثير، حيث كان متوسط الاستشهادات لكل منشور ونسبة تواجد منشورات دول المنطقة في قائمة البحوث الأكثر استشهادا (مما يوضح مدى جودة عمل الباحث مقارنة بأقرانه من حيث تأثير الاستشهادات)، دون تلك المسجلة في المنطقة الأوروبية وفي أمريكا الشمالية.
“تأثير الاستشهادات الميداني المرجح” FWCI لمنشورات الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط (المصدر: الدراسة)
العلوم الفيزيائية في صدارة الاهتمام والعلوم الاجتماعية الأقل اهتماما
استكشف المؤلفون كذلك مجالات البحث الأكثر انتشارًا في إجمالي المخرجات العلمية التي أنتجتها دول المنطقة خلال فترة الدراسة، وتظهر النتائج هيمنة كل من تركيا وإيران تليهما العرية السعودية ومصر على عدد من المجالات البحثية من حيث عدد المنشورات مثل مجال العلوم الزراعية والبيولوجية والكيمياء والعلوم البيئية والهندسة والطب. في المقابل برزت عدد من الدول العربية التي تمتلك مخرجات بحثية أقل بجودة البحوث في بعض المجالات، فاحتلت قطر، على سبيل المثال، الصدارة بين دول المنطقة في قيمة مؤشر “تأثير الاستشهادات الميداني المرجح” FWCI لبحوثها المنشورة في أبحاث علوم الكمبيوتر التي بلغت 2.13 (مما يعني أن هذه المنشورات كان لها معدل استشهادات يفوق ضعفي متوسط الاستشهادات لجميع البحوث المنشورة في المجال خلال السنوات الثلاث السابقة لسنة نشر هذه البحوث) وبالمثل برزت كذلك كل من ليبيا (4.27)، وفلسطين (3.09)، واليمن (3.98) في أبحاث الطب.
النسبة المئوية للمخرجات العلمية في كل مجال من مجالات موضوعات سكوبس لكل بلد ومنطقة.(المصدر: الدراسة)
ومن بين أربع فئات لمجالات البحث الرئيسية التي تعتمدها قاعدة سكوبس وهي العلوم الفيزيائية، والعلوم الصحية، والعلوم الاجتماعية، وعلوم الحياة، وجد الباحثون أن مجال العلوم الفيزيائية يحتل الصدارة باعتباره المجال الموضوعي الأكثر انتشارًا في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية، حيث يحوز على 60.5% من الاهتمام البحثي. وعلى العكس من ذلك، حظيت العلوم الاجتماعية باهتمام بحثي أقل نسبيًا، حيث لم تشكل سوى حوالي 8.9% من الاهتمام.
التعاون في مجال البحث العلمي
في جانب التعاون الدولي والأكاديمي وبين المؤسسات داخل كل دولة في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وجدت الدراسة أن دولا مثل جزر القمر وجيبوتي وموريتانيا والسودان واليمن، كان لديها مستوى عالٍ من التعاون مع بلدان أخرى بمعدلات تزيد عن 70%. في المقابل، تظهر بعض البلدان الأخرى مثل الجزائر وإيران والعراق والمغرب وتركيا معدلات منخفضة من التعاون الدولي، تتراوح من 25٪ إلى 50٪. وتتراوح معدلات التعاون الأكاديمي مع الشركات في معظم البلدان بين 1% و4%، في حين تكشف بعض البلدان مثل جيبوتي وإيران والعراق والمغرب وتونس عن الحد الأدنى من التعاون الأكاديمي مع الشركات بنسب أقل من 1%..
وبحسب المؤلفين، فإن النسب المئوية المرتفعة للتعاون البحثي الدولي في البلدان منخفضة الموارد قد تشير إلى أن عددا كبيرا من هذه الدراسات أجراها باحثون رئيسيون دوليون أجانب. كما أن معدلات التعاون الدولي المنخفضة التي شوهدت في العديد من البلدان، مثل تركيا (21.3%)، وإيران (24%)، والعراق (33.6%) قد تكون متعلقة بعوامل مختلفة مثل الظروف الجيوسياسية، أو أولويات البحث، أو قيود التمويل، أو اللغة.
وعموما توضح مقارنة بيانات الإنتاج العلمي أن منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية ما زالت تتخلف بشكل كبير عن العالم المتقدم (البلدان الأوروبية وأمريكا الشمالية) من حيث المخرجات العلمية وجودتها، رغم الزيادة الثابتة التي سجلت في العقدين الأخيرين. ويؤكد المؤلفون أن العوامل المتعلقة بتمويل الأبحاث المحدود، وعدم وجود البنية التحتية الكافية، وعدم الاستقرار السياسي، والصراعات الإقليمية، يمكن أن تؤدي إلى تقليل فرص البحث والموارد المتاحة للعلماء والباحثين. كما يمكن لحواجز اللغة أن تلعب دورًا في انخفاض المخرجات العلمية في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية. وفي ظل هيمنة اللغة الإنجليزية على النشر العلمي، قد يواجه الباحثون من البلدان غير الناطقة باللغة الإنجليزية تحديات إضافية في نشر أبحاثهم في المجلات الدولية.
المصادر:
– Mapping Two Decades of Research Productivity in the Middle Eastern and Arab Countries: A Comprehensive Bibliometric Analysis
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com