على مدار التاريخ الإسلامي، ساهمت نساء رائدات في تقدم المجتمعات الاسلامية وتعزيز رفاهية الناس. وكانت أبرز هذه المساهمات في مجال الهندسة المعمارية من خلال تشييد عدد من الانشاءات التي لعبت دورا كبيرا في توفير خدمات أساسية مثل تشييد المساجد والجامعات وبناء الطرق والحمامات وقنوات الري. لكن ما قامت به السيدة زبيدة بنت جعفر زوجة هارون الرشيد في صدر الدولة العباسية، يعتبر علامة بارزة في هذه الإسهامات التي شملت انشاء شبكة من القنوات والآبار لتوفير المياه بصفة منتظمة في البقاع المقدسة في مدينة مكة، وتجهيز محطات استراحة على طول طريق الحج الرابط بين بغداد ومكة، المعروف بدرب زبيدة، بآبار وخزانات للمياه ومساجد وحصون لخدمة الحجاج.
منظمة المجتمع العلمي العربي
من هي زبيدة؟
هي أمة العزيز (أو أم العزيز) بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم. ولدت عام 762 م في الموصل في العراق الحالي، توفي والدها عندما كان عمرها سنة واحدة ونشأت في كنف جدها الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور، وهو من أطلق عليها لقب زبيدة لشدة بياضها. درست زبيدة في صغرها القرآن والحديث، واهتمت إلى جانب ذلك بالشعر والفن والتاريخ والأدب والعلوم. وبعد وفاة جدها تولى أحد أعمامها رعايتها. تزوجت زبيدة من الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد وأنجبت له ابنه الأمين. وقد حظيت لديه بمكانة مميزة بين باقي نسائه لنسبها القرشي ورأيها الحصيف وكان يستشيرها في عدد من أمور الدولة، وقد عاشت بعد وفاته 32 سنة، وتوفيت عام 831 م.
عرفت الملكة زبيدة بذكائها وفطنتها واهتمامها بالعلوم ودعت العلماء والشعراء إلى بغداد وأنفقت عليهم من مالها الخاص. ويقال إنها وظفت 100 امرأة لقراءة القرآن ليلاً ونهاراً حتى لو لم تكن في البيت. لكن أهم ما خلد اسمها هو المشاريع المعمارية التي انجزتها لتجهيز طريق الحج بين الكوفة ومكة بمحطات استراحة على مسافات منتظمة تضم حصونا وقصورا وبركا للمياه، إلى جانب انشاء شبكة القنوات والآبار لتزويد مكة بالمياه.
درب زبيدة ومواقع أهم المعالم التي أنشئت حوله (المصدر: مجلة العمارة والتخطيط)
درب زبيدة
يعد درب زبيدة من أشهر طرق الحج خلال القرون الأولى من العصر الإسلامي، وهو يربط المناطق الشاسعة من المشرق الإسلامي والعراق بالحرمين الشريفين. تعود البدايات الأولى لاستخدام هذا الدرب، وفق بعض الدراسات، إلى فترة ما قبل الاسلام حيث استخدم قبل البعثة من قبل المسافرين والتجار خصوصا بين مدينة الحيرة في العراق ووسط الجزيرة العربية والحجاز، كما سلكت الجيوش الإسلامية التي وجهت لفتوح العراق وبلاد فارس في عصر الخلفاء الراشدين أجزاء من هذا الطريق.
وكان الحجاج في تلك الأيام يسافرون سيرا على الأقدام وعلى ظهور الجمال والخيول لأداء مناسك الحج. وكثيرا ما يضل الحجاج أو المسافرين طريقهم في الصحراء بسبب العواصف الترابية وقد يموت بعضهم بسبب العطش. وقد عملت الدولة العباسية في بداياتها على توفير مرافق على طول هذه الطريق عبر حفر عدد من الآبار على مسافات منتظمة، بناء منارات النار على قمم التلال وإضاءتها لتوجيه الحجاج أثناء الليل. وكان من المعتاد نشر جنود لمرافقة القوافل لضمان سلامة الحجاج.
يعتبر بناء المرافق على طول هذا الطريق الذي تحول إلى طريق رئيسي للحج، أحد الإنجازات الكبرى للملكة زبيدة. وبأمر منها، قام المهندسون في ذلك الوقت بإعداد خريطة بعد إجراء مسح للمسار على طول 1200 كيلومتر. وقاموا على ضوء ذلك بتشييد المرافق الجديدة التي تضمنت وضع علامات على طول الطريق لإرشاد الحجاج وتشييد محطات استراحة رئيسية وأخرى فرعية وحفر آبار وبناء خزانات كبيرة للمياه في أماكن مختارة بعناية فائقة وبمسافات مدروسة، ليستفيد منها الحجاج للاستراحة والتزود بالماء.
وعن درب زبيدة التاريخي، يقول البروفسور سعد الراشد عالم الآثار السعودي: “في ضوء المعلومات الواردة في المصادر التاريخية والجغرافية، نجد أن طريق الحج من العراق (درب زبيدة)، خطط مسارها بطريقة علمية وهندسية متقنة، حيث ُحددت اتجاهاتها، وبُنيت على امتدادها المحطات والمنازل والاستراحات، ورصفت أرضية الطريق بالحجارة في المناطق الرملية والموحلة، ونُّظفت الطريق من الجلاميد الصخرية والعوائق في المناطق الوعرة والمرتفعات الجبلية، كما زودت بأسلوب هندسي ونظام دقيق لتوزيع المنشآت المائية من سدود وآبار وبرك وعيون وقنوات، ووضعت على مسارها بطريق حسابية موزونة الأعلام والمنارات والأميال (أحجار المسافة)، والمشاعل والمواقد ليهتدي بها المسافرون ليلا”
وقد سهّل إنشاء درب زبيدة السفر على الحجاج من خلال توفير جميع المرافق في ذلك الوقت، كما أدى إلى زيادة الأنشطة الثقافية والاقتصادية في هذه المنطقة. وبقيت درب زبيدة مأهولة لمدة ستة أشهر في السنة.
أحصى الرحالة المسلمون القدماء محطات الطريق ومنازله بين الكوفة ومكة، فبلغت 27 محطة رئيسية، و27 منزلا (أي محطة ثانوية)، وهي محطة استراحة تشيد على مسافة محددة بين كل محطتين رئيسيتين. غير أن دراسة علمية حديثة حددت باستخدام بيانات نظم المعلومات الجغرافية وجود 59 محطة فرعية. وأظهرت نتائــج تحليل البيانـات في هذه الدراسة أن متوسـط المسـافات بين محطـات درب زبيـدة الرئيسـة هـي 58 كلـم وهـي مسافة متوافقـة مـع احتياجات الإنسان القديــم ووسـائل النقـل المتاحة عنـد السـفر، وهـو مـا يؤكـد أن اختيــار مواقــع هــذه المحطات تــم وفــق توزيــع مكاني مثالي ليضيـف قيمـة هندسـية في عمليـة تجزئـة المسافات وفــق الاحتياج الطبيعــي لعابــري هــذا الــدرب ووســائل النقــل المتاحة في ذلــك العــصر.
وتجمع المصادر التاريخية والجغرافية المبكرة، أن درب زبيدة، بلغ أوج ازدهاره في العصر العباسي المبكر، وشعر المسافرون على الطريق والقادمون من أقصى المشرق الإسلامي بالأمن والطمأنينة. ولهذا يقول المؤرخ ابن كثير: “كانت طريق الحجاز من العراق، من أرفق الطرقات وأكثرها أمنا “. ولكن الطريق وغيرها من الطرق الرئيسية والفرعية، تعرضت في فترات متعاقبة لهجمات القبائل، فلم يكن باستطاعة الحجاج والمسافرين اجتياز الطريق الرئيسية أو أي من فروعها إلا بتوفر رعاية عسكرية وحماية من عاصمة الخلافة. وقد تعطلت الطريق بشكل كبير بعد سقوط بغداد في يد المغول في عام 1258 م وبدأت معظم محطات الطريق بالاندثار تدريجيا ولم تعد الطريق تستخدم إلا في فترات متقطعة، فيما بقيت بعض الآبار والبرك صالحة للاستعمال، بيد أن الغالبية العظمى منها غطتها الرمال مع مرور الزمن.
قناة عين زبيدة (وزارة الأوقاف السعودية)
عين زبيدة
تعتبر “عين زبيدة” إنجازا لا يقل أهمية عن انشاء المرافق على طول الطريق القديمة الرابطة بين الكوفة ومكة، وهي عبارة عن نظام متكامل من القنوات لإمداد مكة المكرمة والمشاعر المقدسة المحيطة بالمياه لأكثر من 1200 عام. نظرًا لشح المياه في مكة، أمرت الملكة زبيدة ببناء قناة يمكن أن تنقل المياه من الأودية المجاورة لمكة إلى المشاعر المقدسة. وبعد المسح التفصيلي من قبل المهندسين، تم اقتراح موقعين لجلب المياه إلى مكة، أحدهما في وادي حنين والآخر في وادي النعمان.
وتذكر المصادر أن وادي حنين كان أول مصدر جرى استغلاله لنقل المياه الجوفية منه إلى صهاريج تخزين كبيرة بالقرب من الحرم المكي. ومع ذلك، وبسبب الاستخدام المستمر لهذه المياه، انخفض منسوب المياه الجوفية وتحول التركيز إلى وادي النعمان حيث اشترت الملكة زبيدة الأرض في الوادي لإنشاء القناة الجديدة التي أصبحت تعرف بعين زبيدة. وتتكون القناة التي تمتد بطول 27 كيلومتراً، وتبدأ من وادي النعمان إلى حي العزيزية بمكة المكرمة، من 130 بئرا وخرازة. وقد تم حفر أربعة أو خمسة آبار في وادي النعمان، بعمق حوالي 35 مترًا، وتجميع مياهها في بئر واحدة عبر الأنفاق لتشكل بداية قناة عين زبيدة. ونُقلت المياه من هذه البئر الأم إلى مدينة مكة عبر القناة التي أنشئت بانحدار يضمن تدفق المياه بشكل طبيعي تحت تأثير الجاذبية، يبلغ حوالي مترا واحدا كل 3000 متر. وللمحافظة على الانحدار، تظهر القناة فوق الأرض في بعض الأماكن وتغوص تحت الأرض في أماكن أخرى.
قام المهندسون بإنشاء آبار وصول رأسية تعرف بالخرازة عند كل 50 مترًا تستخدم لصيانة القناة وتهوئتها. وكانت الخرازة والقناة مبطنة بالجير والحجارة لجعلها مقاومة للماء وتمنع امتصاصه. ومن وادي النعمان تتجه القناة نحو سهول عرفات حيث ترتفع عن سطح الأرض أكثر من 3 أمتار وتوجد ثلاثة خزانات بالقرب من جبل الرحمات، يمكن ملؤها بالمياه التي يتم جلبها من القناة، لتوفير إمدادات المياه العذبة للحجاج خلال موسم الحج. ومن عرفات تتجه القناة شمالاً ومعظمها تحت الأرض حيث تمر عبر وادي عرنة لتصل أخيرًا إلى مزدلفة، حيث تأخذ القناة شكل البئر، لتزويد الحجاج في مزدلفة ومنى بالمياه.
ظلت عين زبيدة مصدرًا لتزويد مكة المكرمة والأماكن المقدسة المجاورة لها بالمياه على مدار 1200 عام الماضية إلى غاية عشرينات القرن الماضي عندما ملأت الفيضانات في مكة القناة بالرمال والحصى، مما أدى إلى عرقلة تدفق المياه. وفي عام 1928 دعا الملك عبد العزيز مهندسين من مصر لتجديد واستعادة عمل القناة مما مكن من توفير أكثر من 40.000 متر مكعب من المياه يوميًا حتى عام 1974. وبسبب عدم كفاية العمليات والصيانة، إلى جانب الطلب المتزايد على المياه وظهور تقنيات الضخ الجديدة، انخفضت مستويات المياه الجوفية وانقطعت إمدادات المياه عن عين زبيدة، وأصبحت القناة جافة.
تعتبر تحفة هندسية ورمز دائم للعصر الذهبي للحضارة العربية الاسلامية. ويرى بعض الباحثين أنه حتى مع تكنولوجيا المسح الدقيقة بالليزر اليوم والجرافات التي يتم التحكم فيها بواسطة الروبوت، فإن تحقيق تصنيف بهذه الدقة سيعتبر إنجازًا كبيرًا، خاصة وأن القناة لا تتخذ مسارا مستقيما، بل تتعرج بين التلال، وفوق الصخور، تحت الأرض محافظة على تدفق منتظم للمياه المنسابة بداخلها.
المصادر:
– د. نجوى محمد اسماعيل، اتجاهات حديثة في دراسة درب زبيدة طريق الحج.
– أنيسة مزوزي، مكانة المرأة في الإسلام والوقت الحاضر السيدة زبيدة بنت جعفر أنموذجا.
– وليد بن سعد الزامل وعبد الرزاق بن ثابت محمد، تتبع درب زبيدة التاريخي من الكوفة حتى مكة المكرمة باستخدام نظم المعلومات الجغرافية.
– وجدان فريق عناد وستار جبار الجابري، طريق الحج البري درب زبيدة.
– Khalid Khurshid, AYN ZUBAYDAH FLOWS DOWN MEMORY LANE
– Overland Hajj Route Darb Zubayda
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة