على مدار العقود التالية للثورة الصناعية في القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا ازدادت انبعاثات الغازات الدفيئة المتولدة عن الأنشطة البشرية عن معدلها الطبيعي كما لم يحدث من قبل، وأدى ذلك إلى تسارع التغير المناخي للأرض، ومن المتوقع استمرار التغير المناخي حتى القرن القادم مسببا ارتفاع متوسط درجات الحرارة وزيادة مستوى سطح البحر، والتسبب في كوارث بيئية كالفيضانات وحرائق الغابات، ونقص الماء والغذاء، والهجرة من المناطق المتضررة.
منظمة المجتمع العلمي العربي
من أين تأتي توقعاتنا عن التغير المناخي “النمذجة المناخية”
النماذج المناخية هي امتداد لنماذج التنبؤ بالطقس ولكنها أكثر تعقيدا وتقدما حيث تعمل بحواسب فائقة السرعة ويتطلب تصميمها سنوات طويلة على أيدي العلماء في مختلف التخصصات، تقدم هذه النماذج توقعات عن التغير المناخي خلال العقود القادمة اعتمادا على رصد التفاعلات بين العوامل المؤثرة في مناخ الكرة الأرضية مثل: الغلاف الجوي والمحيطات واليابسة والمناطق الجليدية، ويتم تحليل هذه التفاعلات باستخدام النظريات الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية المسلم بها في الأوساط العلمية، وتستخدم التقارير المناخية لهذه النماذج لتوجيه السياسات والأبحاث العلمية للتعامل مع الآثار المتوقعة للتغير المناخي خلال العقود القادمة.
يعتمد علماء الأوبئة على تنبؤات النماذج المناخية للتنبؤ بالأضرار الصحية للتغير المناخي، ولكن ما مدى دقة هذه النماذج؟
تستعرض النماذج المناخية عدة احتمالات للأضرار المتوقعة اعتمادا على المدخلات الأولية ثم تقوم بعرض احتمال واحد من بينها، يفضي هذا إلى الشك في مدى صحة هذه النتيجة بالتحديد من بين الاحتمالات المستبعدة، مؤخرا يحاول العلماء التغلب على هذا القدر من مشكوكية النتائج بتشغيل النموذج عدة مرات أو باستخدام أكثر من نموذج في نفس الوقت للحصول على احتمالات أكثر ومدى أوسع من النتائج والترجيح بينها، وبالرغم من ذلك لا يزال الشك في صحة النتائج حيث وجد أن نفس المدخلات الأولية إذا أدخلت لأكثر من نموذج تعرض نتائج متباينة -على غير المتوقع- مما يطرح سؤال أي هذه التوقعات هي الأقرب للصحة؟
من أجل تحسين دقة نتائج التوقعات الصحية المتعلقة بالتغير المناخي، قام “البرنامج العالمي للبحوث المناخية” بعمل نموذج محاكاة موحد يضم النتائج لأكثر من 20 مجموعة “نمذجة مناخية” والتي يمكن أن تعطي توقعات أكثر دقة عن أضرار التغير المناخي، رغم ذلك قليل من بحوث الأوبئة المتعلقة بالتغير المناخي تطبق مبدأ “النمذجة المناخية الموحدة” هذا في توقعاتها للأضرار الصحية.
التطور البشري مقابل التغير المناخي
من الأضرار الصحية الملموسة والمتوقعة للتغير المناخي ارتفاع الوفيات المتعلقة بالتعرض للحرارة بخاصة لدى مرضى القلب والرئة، والتأثير كذلك على انتشار ناقلات الأمراض الفيروسية إلى مناطق جديدة، ورغم صحة هذه التوقعات نسبيا إلا أنها تهمل عدة عوامل مثل اختلاف درجات الحرارة في مناطق عن أخرى حيث تتكيف المجتمعات البشرية مع مدى واسع من درجات الحرارة من العيش تحت درجة الصفر في مناطق إلى فوق 50 درجة سيليزية في مناطق أخرى ولا شك أن الاستجابة لارتفاع درجات الحرارة لن تكون متساوية في كلتا المنطقتين.
في دراسة لمعدل الوفيات المتعلقة بالحرارة عبر 12 دولة وجد أن تأثير درجة الحرارة على معدل الوفيات في المناطق الحارة يكون عند درجات حرارة مرتفعة بكثير، مقارنة بالمناطق الباردة التي يرتفع فيها معدل الوفيات عند درجات حرارة أقل، مما يعني أن مقاومة سكان المناطق الحارة أكبر، ويُعزى ذلك إلى خصائص المباني السكنية والسلوكيات التي يتخذها سكان المناطق الحارة للتكيف، كما وجد أن مقاومة الأفراد للحرارة تزداد بنهاية فصل الصيف مقارنة ببدايته مما يثبت القدرة على التكيف بيولوجيا مع ارتفاع درجات الحرارة على المدى القصير. رغم ذلك يصعب التكيف مع درجات الحرارة الأكبر المتوقع حصولها في القرن القادم.
بجانب قدرة البشر على التكيف واختلاف الاستجابة من منطقة لأخرى، تتغافل التوقعات الصحية للتغير المناخي احتمالية إحراز تقدم في علاج الأمراض المتعلقة بالحرارة مثل أمراض القلب والرئة أو القدرة على التحكم في ناقلات الأمراض الميكروبية وإنتاج لقاحات فعالة لهذه الميكروبات كما حدث من قبل، على سبيل المثال معدل الوفيات المتعلقة بالحرارة أقل بكثير من المعدل الذي تم توقعه العقود الماضية نتيجة لشيوع استخدام المكيفات المنزلية. مثال آخر: زيادة إنتاج وتوزيع لقاح فيروس الحصبة بين عامي 2000-2018 منع حدوث 23.2 مليون حالة وفاة متوقعة معظمها بين سكان إفريقيا.
في ظل الاحتمالات المطروحة لا يمكن التسليم الكامل بنتائج النماذج المناخية بخصوص الاضرار الصحية للتغير المناخي، ولا يمنع ذلك من اتخاذ الإجراءات للتعامل مع الأسوأ، وفي الوقت ذاته يحاول العلماء أخذ بعض هذه العوامل في الاعتبار مثل استخدام المعلومات المتوفرة عن المناطق الحارة اليوم عند التنبؤ بالآثار الصحية للمناطق الباردة المتوقع وصول درجة حرارتها إلى درجة مماثلة في المستقبل.
المراجع
– https://academic.oup.com/aje/article/188/5/866/5381895
– https://www.who.int/europe/news/item/07-11-2022-statement
– https://www.carbonbrief.org/qa-how-do-climate-models-work
– https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/measles
تواصل مع الكاتب: faresragab101@gmail.com
أحدث 30 ورقة عربية منشورة عن التغيير المناخي
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة