تنتمي شجرة الزيتون (Olea europaea)، إلى عائلة الزيتونيات (Oleaceae)، وهي من النباتات الزيتية دائمة الخضرة. ينقسم هذا النوع إلى نوعين فرعيين هما الزيتون البري، (Olea europea L. Oleaster) والزيتون المزروع (Olea europea L. Sativa). تتميز شجرة الزيتون البرية بكونها شجيرة شوكية، ذات أوراق صغيرة، تنتج القليل من الثمار صغيرة الحجم وتعطي كمية أقل من الزيت مقارنة بأشجار الزيتون المزروعة. وقد جرى استخدام الزيتون البري، وفق بعض المصادر، منذ العصر الحجري الحديث، للحصول على كميات كبيرة نسبيا من الزيت في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة الأيبيرية، لكن إنتاجه استُخدم حصريا لإنتاج الأدوية والعطور في العصرين اليوناني والروماني. أما شجرة الزيتون المستأنسة، فهي شجرة كبيرة الحجم يمكن أن تصل إلى ارتفاع كبير، أوراقها مستطيلة ويختلف حجم ثمارها وانتاجها من الزيت باختلاف الصنف.
يُرجع الباحثون ظهور الزيتون البري إلى العصر الميوسيني قبل أكثر من 5.5 مليون سنة، إثر تشكل البحر الأبيض المتوسط. وقد عثر العلماء على أدلة تثبت انتشار أشجار الزيتون البرية على طول شاطئ البحر، خلال العصر البليوسيني، قبل 3 ملايين سنة، عندما استقر مناخ البحر الأبيض المتوسط وأصبح جافا في الصيف وباردا في الشتاء، وهي ظروف مثالية لأشجار الزيتون. ويبدو أن الأحقاب الجليدية التي جدّت لاحقا (قبل حوالي 2.5 مليون سنة ثم بين 1.5 مليون سنة و12 ألف سنة قبل الميلاد)، قد قلصت من انتشار أشجار الزيتون لتقتصر على المناطق المحمية من البرد على شواطئ البحر الأبيض المتوسط في سواحل سوريا وفلسطين وشمال أفريقيا وشبه الجزيرة الإيبيرية. وهذا التوزيع على المناطق المعزولة خلال العصور الجليدية يفسر حسب الباحثين، تنوع الخاصيات الوراثية لأشجار الزيتون البرية وأشجار الزيتون المزروعة لاحقا.
انتشار الزيتون المزروع (باللون الرمادي الفاتح) والبري (باللون الرمادي الداكن) حول حوض المتوسط
تشير بعض الدراسات التي قامت بتحليل السجلات الأحفورية وشبه الأحفورية إلى أن مجموعات الزيتون البري أعادت استعمار منطقة البحر الأبيض المتوسط خلال فترة ما بعد العصر الجليدي (حوالي 11700 إلى 8000 سنة مضت). وقد ساعد في ذلك المناخ المتوسطي المناسب وكذلك النشاط البشري، حيث عثر عدد من الباحثين على أدلة للاستغلال البشري للزيتون منذ العصر الحجري القديم الأعلى والعصر الحجري الحديث في استخدامات مختلفة، بما في ذلك استهلاك الفاكهة والخشب وعلف الماشية.
ويعود أقدم فحم من خشب الزيتون عُثر عليه في رواسب على ساحل الشام وشبه الجزيرة الأيبيرية وفرنسا، وفق نفس المصادر، إلى الألفية السادسة قبل الميلاد. ثم شاع استخدام الإنسان لخشب شجرة الزيتون وثمارها، لكونها أحد مكونات الغطاء النباتي الطبيعي لتلك المناطق إلى جانب أنواع أخرى من الأشجار مثل الكرمة (Vitis vinifera)، والتين (Ficus carica)، والرمان (Punica granatum)، والخروب (Ceratonia siliqua)، ونخيل التمر (Phoenix dactylifera) في المناطق الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط
وقد عثر الباحثون في البقايا الأثرية على أدلة على قيام الحضارات الإنسانية المبكرة التي ظهرت في الشرق الأوسط بالتجارة في زيت الزيتون خلال العصر البرونزي (6000-5500 سنة مضت؛). لكن الكثير من الباحثين يعتقدون أن تدجين الزيتون بدأ بعد هذه الفترة في موقع بالقرب من الحدود بين تركيا وسوريا اليوم، وأن هذه العملية كانت متنوعة إقليميا وزمنيا، لأسباب قد تعود إلى التقلبات المناخية، مما يجعل من الصعب تتبع الأصول المبكرة بناء على البيانات النباتية الأثرية وحدها.
وتوصل العلماء من خلال الاكتشافات الأثرية المتعلقة بالأخشاب المتفحمة والمواد المتحجرة المرتبطة بالتمور والبقول والحبوب في بعض المناطق البعيدة عن النطاق الطبيعي لانتشار الزيتون، إلى أدلة غير مباشرة على التطورات التكنولوجية في الهندسة الزراعية، مثل زرع الشتلات وري المحاصيل. لكن أقدم الأدلة التي تدعم الوجود المبكر للأنشطة المرتبطة بالزيتون في شرق المتوسط عثر عليها فريق من العلماء في موقع مغمور في ساحل الكرمل بفلسطين ويعود تاريخها إلى حوالي 7000 سنة مضت. وقد أظهروا أن الزيتون الذي ينمو بالقرب من هذا الموقع جرى جنيه من قبل السكان، وخلصوا إلى أن صناعة الزيتون سبقت عملية تدجينه بعدة قرون.
كما قدمت السجلات الأثرية والبيولوجية المتعلقة بالتغيرات التي طرأت على حجم نوى الزيتون شكلها، أدلة أخرى على انتشار زراعة الزيتون واستهلاكه في وسط وغرب البحر الأبيض المتوسط خلال العصر البرونزي (4500-4000 سنة مضت). وتوجد في العديد من المناطق في شرق المتوسط العديد من المواقع الأثرية التي تحتوي على مكتشفات متعلقة بالزيتون، مثل حجارة الرحى، وأحواض التصفية، وأواني التخزين، واللوحات الجدارية، والكتابات القديمة. وفي قصر كنوسوس بجزيرة كريت، عثر على جداول طينية تسجل تجارة زيت الزيتون حوالي عام 1700 قبل الميلاد . وفي منطقة أورلا، بالقرب من مدينة إزمير التركية، توجد منشأة قديمة لمعالجة زيت الزيتون يرجع تاريخها إلى 600 قبل الميلاد إلى جانب العديد من الأواني الطينية والتي كانت تستخدم لتخزين ونقل زيت الزيتون.
ومع أن الاعتقاد السائد بشكل عام يشير إلى أن الفينيقيين هم أول من جلبوا الزيتون المستأنس إلى إسبانيا وشمال أفريقيا حوالي عام 1000 قبل الميلاد ، فإن الباحثين اكتشفوا تغيرات مفاجئة في شكل نوى الزيتون متفحمة في مواقع في جنوب شبه الجزيرة الإيبيرية وشرقها استوطنها البشر في العصر البرونزي، تؤكد وجود الزيتون المستأنس قبل ألفي عام من وصول الفينيقيين والاستعمار الروماني، والذي أدى إلى إدخال أصناف جديدة إلى المنطقة. واكتشف الباحثون زيادة مفاجئة مصاحبة في أعداد بقايا نوى الزيتون في المواقع الأثرية في شرق وغرب البحر الأبيض المتوسط، بما يتوافق مع العصر البرونزي المتأخر (حوالي 3500-3000 سنة مضت)، ولكن لم تظهر الأنماط النموذجية لزيتون شرق المتوسط في السجل الأثري الغربي إلا بعد مرور بين 1000و1500 سنة من تلك الحقبة، مما يشهد على الدور الأساسي الذي لعبته الهجرات البشرية القديمة من الشرق إلى الغرب في التنوع البيولوجي الزراعي للزيتون في حوض غرب البحر الأبيض المتوسط.
المصادر
– https://www.college-de-france.fr/media/jean-pierre-brun/UPL647861261671861351_Cours1_Introduction.pdf
– https://academic.oup.com/aob/article/121/3/385/4775111
– https://journals.openedition.org/annuaire-cdf/15888
– https://nph.onlinelibrary.wiley.com/doi/full/10.1111/nph.13181
– https://www.nature.com/articles/s41598-022-10743-6
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com