مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

الفضلات تهدّد الكائنات البحرية في البحر المتوسط

الكاتب

الصغير محمد الغربي

صحفي علمي

الوقت

10:10 صباحًا

تاريخ النشر

26, نوفمبر 2023

في العقود الأخيرة، شهدت منطقة البحر الأبيض المتوسط تحوّلاً حضرياً واسع النطاق مرتبطاً بالنمو السكاني، وزيادة معدل التحضّر والزراعة والسياحة والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية العميقة. هذا التحوّل يدفع إلى التساؤل حول كيفية تأثّر مكونات الوسط البيئي للبحر المتوسط الشبه المغلق، بالفضلات البيولوجية سواء البشرية منها، أو الحيوانية، أو الناتجة عن النشاط الزراعي.

منظمة المجتمع العلمي العربي

في دراسة مراجعة جديدة نُشرَت في دورية "Environmental Advances" العلمية، قام باحثون بدراسة التلوث في مناطق مختلفة من سواحل المتوسط، من خلال تتبّع آثار أحد الطفيليات (الجيارديا الاثني عشر) التي تُسبّب الإسهال لدى البشر والحيوانات، في مياه البحر.  وكشفت النتائج عن انتشار هذه الطفيليات في عددٍ من الكائنات البحرية التي يستهلكها الإنسان في بعض المناطق، لا سيما تلك التي تتميز بتركيزٍ حضري كبير، وحول مصبات بعض الأنهار الكبرى. ودعا الباحثون إلى العمل المشترك بين الدول المطلة على المتوسط للحدّ من مخاطر الفضلات، التي تنتجها التجمعات البحرية والحيوانات على الوسط البيئي للبحر المتوسط.

 

مصادر تلوث المتوسط بالفضلات

يقول المؤلفون إنّ مجموع السكان للدول المطلّة على البحر المتوسط يبلغ حالياً 480 مليون ساكناً، ومن إجمالي 46 ألف كيلومتر من السواحل، توجد 25 ألف كيلومتر داخل المناطق الحضرية حيث يقيم 250 مليون شخص (55% من إجمالي السكان) في المناطق الساحلية، منهم 56% (120 مليون) في المناطق الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. ولوحظ أعلى تركيز للسكان في المناطق الساحلية في منطقة شرق بحر إيجة، وفي غرب البحر الأدرياتيكي، وفي دلتا النيل. 

ويتضمّن النشاط الزراعي لهذه البلدان، تربية عدد ٍكبيرٍ من الحيوانات الأليفة، حيث يوجد حوالي 26,3 مليون رأس من البقر، و126,2 مليون من الأغنام، و33,9 مليون من الماعز،  بالإضافة إلى عددٍ غير معروف من الجمال والخيول والخنازير. ويبلغ عدد الكلاب أكثر من 1.3 مليون، كما أنّ عدد القطط كبير جداً، ولكن لم يتم تحديد كميته أبداً. ويتكون أكثر من 85% من إجمالي الإنتاج الزراعي في منطقة البحر الأبيض المتوسط من الحبوب والخضروات والحمضيات. كما يتم استخدام جزءٍ كبيرٍ من الأراضي الزراعية لزراعة منتجاتٍ أخرى مثل العنب والزيتون. وتتطلّب الزراعة الأسمدة (بما في ذلك السماد الحيواني) ومياه الري، مما يشكل ضغطاً مفرطاً على البيئة. ويُستخدَم ما يصل إلى 80% من المياه المتاحة لأغراض الري. ونتيجة لذلك، تم فقدان كمية كبيرة من موائل الأراضي الرطبة الطبيعية.

مصادر تلوث البيئة البحرية من الفضلات
(المصدر: دراسة المراجعة)

طفيليات تلوث المتوسط

بسبب الضغوط البشرية الشديدة وهطول الأمطار، تُراكِم الأحواض والأنهار الداخلية الفضلات الناتجة عن الأنشطة البشرية (مياه الصرف الصحي، والسماد الحيواني، والفضلات البشرية، وما إلى ذلك) والتي يتم نقلها في اتجاه مجاري الأنهار حتى مصباتها ثم إلى البحر. ويستقبل البحر الأبيض المتوسط سنوياً أكثر من 10 مليارات طن من النفايات الصناعية والحيوانية والحضرية مع القليل من التنقية أو عدم التنقية. وفي هذه الفضلات، يمكن أن تصل مسببات الأمراض الطفيلية، مثل الطفيليات الأولية، وبيض الديدان الطفيلية، إلى مصبات الأنهار وتلوث مياه البحر حيث يتم ترشيحها وتركيزها بواسطة المحار (معظمها صالح للأكل) أو يتم ابتلاعها بواسطة مجموعة من الحيوانات البحرية المضيفة. ومن هذه الطفيليات الجيارديا الاثني عشر (Giardia duodenalis) وهي واحدة من أهم الطفيليات الأولية المسؤولة عن الإسهال لدى مجموعة واسعة من المضيفين، بما في ذلك البشر والحيوانات الأليفة أو البرية. وتَحدُث العدوى بهذه الطفيليات التي تكون في الغالب دون أعراض، عبر ابتلاع الخراجات (الأكياس التي تفرزها) عن طريق الطعام أو الشراب الملوث، أو الاتصال المباشر مع الحيوانات أو الأشخاص المصابين.

وفي دراسة المراجعة الجديدة، قام باحثون إيطاليون بتحليل نتائج 237 بحثاً منشوراً بين عامي 2011 و2022 حول تلوث الكائنات البحرية في المتوسط بطفيليات الجيارديا الاثني عشر.
 

الأنهار وأحواض المياه التي يتم تصريفها في حوض البحر الأبيض المتوسط (المصدر: دراسة المراجعة)

 

طفيليات الجيارديا الاثني عشر في الكائنات البحرية 

أظهرت النتائج أنّ المحار هو أكثر الكائنات البحرية إصابة بهذه الطفيليات، لكنّ نسبة الإصابة كانت متفاوتة على سواحل المتوسط، حيث تراوحت بين انتشار منخفض (2%) في الساحل التونسي إلى انتشارٍ مرتفعٍ (23.3%) في مناطق أخرى من المتوسط. وتشمل المجموعات الحيوانات البحرية الأخرى، التي تمت دراستها، الثدييات والأسماك، وبلغت معدّلات انتشار الإصابة في الحيتان والدلافين بين 12 و16% وفي الأسماك المستزرعة والأسماك التي تعيش حرة نسبة 3.3%. 

وكشفت نتائج الدراسات التي أُجريَت في 14 دولة من دول الحوض المتوسط حول انتشار طفيليات الجيارديا الاثني عشر تفاوتاً في معدلات الإصابة، وسجلت أدنى نسبة في كرواتيا وأعلاها في مصر.

وأشار الباحثون إلى أنّ معظم الدراسات التي أُجريت على وجود الجيارديا في الحيوانات تتناول الحيوانات الأليفة وخاصة الكلاب والقطط، وبدرجةٍ أقلّ الحيوانات الأليفة الأخرى. ويرتبط هذا الجانب بضرورة دراسة الدور الحيواني لطفيلي الجيارديا نتيجة لاتصال البشر الوثيق بهذه الأنواع الحيوانية. ولا يمكن بالتالي، التقليل من دور الحيوانات البرية في المساهمة في التلوث البيئي. وتفرز الماشية المصابة بالجيارديا أعداداً كبيرة من الأكياس، وتكون أكثر قدرة على تلويث الغذاء وإمدادات المياه، وأيضاً بسبب الاستخدام غير القانوني لروثها للتخصيب. 

وقد وفّرت الدراسات التي تمت مراجعتها كذلك بيانات عن التلوث بالجيارديا في التربة والخضروات من خمس دول متوسطية، هي إسبانيا وإيطاليا والبوسنة والهرسك واليونان وسوريا ومصر والمغرب. وكشفت عن انتشار هذه الطفيليات بنسبة 4.6% في السلطات الجاهزة للأكل والتوت في إيطاليا. أما بالنسبة للتربة، فقد تمّت دراسة انتشارها في ثلاثة بلدان (البوسنة والهرسك ومصر والمغرب) وأظهرَت انتشاراً يصل إلى 66.7% في التربة المروية بمياه الصرف الصحي. 

كما أبلغت بعض الدراسات عن وجود الجيارديا الاثني عشر في عدّة أنواعٍ من المياه، مثل مياه الصرف الصحي والمياه السطحية ومياه الشرب. وكانت مصادر المياه الأكثر بحثاً هي تلك المأخوذة من محطات معالجة مياه الصرف الصحي، ولا سيما المياه الخام أو الحمأة، مع انتشار يتراوح بين 12.3% في اليونان و 100% في إسبانيا وتونس.

وتعكس المستويات العالية لتلوث المياه بواسطة الأكياس التي تفرزها الجيارديا، عمليات تصريف مياه الصرف غير المعالجة واحتواء المياه المتأتّية عن طريق الأودية والأنهار، من المناطق الحضرية والريفية الملوثة، على الفضلات البشرية والحيوانية. ومع ذلك، فإنّ عبء هذه المصادر يختلف بين مستجمعات المياه المتنوعة ويعتمد بشدّة على العوامل البيئية والمناخية والاجتماعية التي تميّز كل منطقة.  واستنتج الباحثون من نتائج تحليل البيانات التي تمّ الحصول عليها أنّ طفيليات الجيارديا الاثني عشر منتشرة على نطاقٍ واسعٍ بين العديد من الأنواع الحيوانية والبشر، ثم يتم تصريفها في مياه البحر بطرقٍ مختلفة ممّا يسبّب تلوث البحر الأبيض المتوسط، وإصابة الكائنات البحرية بهذه الطفيليات.

مؤشرات قد تُفاقِم الوضع في المستقبل

يقول المؤلفون إنّ عدد سكان البحر الأبيض المتوسط الذي سيصل إلى 572 مليون نسمة بحلول عام 2030، وارتفاع عدد سكان المناطق الساحلية بأكثر من 180% بحلول عام 2100، سيتطلّب تكثيف الأنشطة الزراعية (المحاصيل والثروة الحيوانية). وهذا الأمر سيؤدي، من ناحية، إلى زيادة استخدام المياه لأغراض الري، ومن ناحيةٍ أخرى، سيكون له آثار سلبية على الموارد المائية والتنوّع البيولوجي وصحة الإنسان. 

وسيؤدي انخفاض الأراضي الرطبة وفقدانها إلى تفاقم التأثير الناجم عن التنمية الساحلية للأنشطة البشرية، لأنّ النظم البيئية الساحلية يمكن أن تزيل مسبّبات الأمراض من جريان المياه الملوثة وتُخفّف من آثارها قبل تصريفها إلى البحر. وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن تنمو حركة المرور في البحر الأبيض المتوسط أكثر ممرات الشحن ازدحاماً في العالم بنسبة 4% سنوياً حتى عام 2025.كل هذه العوامل، بما في ذلك آثار تغيّر المناخ، لديها القدرة، منفردة أو بالتآزر، على زيادة تدفق المياه، وبالتالي زيادة نقل خراجات الجيارديا وغيرها من مسببات الأمراض والملوثات المحمولة على الأرض إلى البحر الأبيض المتوسط.

توصيات للحدّ من تلوث البحري بالفضلات، يرى مؤلفو الدراسة أنّه يتعيّن مراقبة المضيفين (الكائنات البحرية وخاصة المحار) وتلوث المياه، من أجل فهم ضغط التلوث الطفيلي في حوض البحر الأبيض المتوسط. ويتطلّب ذلك توحيد التدابير التشريعية بين دول المتوسط للكشف الميكروبيولوجي في المياه ومياه الصرف الصحي، ورَصد درجة التلوث البيئي للمياه التي يتمّ تصريفها في البحر مع مراقبة احتمال وجود تصريفاتٍ غير قانونية في المناطق الحضرية. كما يتطلّب أيضاً التحقّق من الجودة الصحية والصحية للمحاريات، التي تمّ قبول دورها كمؤشراتٍ حيوية لتلوث المياه في جميع أنحاء العالم، وتقييم كفاءة إزالة الكائنات الأولية شديدة المقاومة من محطات معالجة مياه الصرف الصحي

إلى جانب ذلك، يمكن للإجراءات التي تهدف إلى الحفاظ على الأراضي الرطبة الساحلية أو استعادتها أن تُخفّف من تأثير تقلّب المناخ والنمو السكاني البشري والحيواني والتغيّرات في استخدام الأراضي، على تدفّق الجيارديا من اليابسة إلى البحر. ويتعيّن بذل المزيد من الجهود المكثّفة في المستقبل من أجل حماية هذه البيئة الساحلية والبحرية الخاصة والحساسة للغاية في نفس الوقت، من خلال اعتماد استراتيجيات بيئية بحرية أكثر تكاملاً لتنفيذ برامج حماية منتظمة تدعمها السلطات الوطنية والدولية المسؤولة عن الحفاظ على هذا البحر المهدد والضعيف.

 


المصادر

– Final destination: The Mediterranean Sea, a vulnerable sea. The long journey of Giardia duodenalis cysts.
– https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S2666765723000728

 


تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com​

 

مواضيع متعلقة:

تقييم التلوث الفيزيائي – الكيميائي والميكروبي لمياه الصرف الصحي ومياه البحر في خمس دول متوسطية

 


يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

       

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x