لقد تألّق العطاء الإسلامي و العربي في مجالات العلوم و ازدهر إبّان تصاعد المد الحضاري. ومن أهم الميادين التي لمع فيها العلماء المسلمون والعرب ميدان الطب. وخير مثالٍ على ذلك كتاب "القانون في الطب" لابن سينا الذي ظلّ مرجعًا طبيًا هامًا في أوروبا إلى أواخر القرن الخامس عشر ميلادي (1). ليس هذا فحسب، بل إنّ أقدم إجازة طبية في العالم قد حُرّرت باللغة العربية، وذلك في المغرب وتحديدًا في جامعة القرويين سنة 1207 ميلادية للطبيب المغربي بن صالح الكتامي (2) (أنظر الصورة أدناه).
لقد أثارت العين، هذا العضو الصغير بحجمه، والكبير بقيمته العلمية و الأدبية اهتمام الكثير من العلماء عامة، والعرب خاصةً، فلم يكن طب العيون حديث العهد باللغة العربية. إذ أنه وُثّق منذ زمنٍ بعيد بها. وممّا يدل على ذلك، مصنفات عديدة منها: " دغل العين" لأبي زكريا يوحنا بن ماسويه، و الذي يعدّ من أقدم كتب الطب ( 190 -242 ه)، وكتاب "العشر مقالات في العين" المنسوب لحنين بن إسحاق (194-264 ه) والذي يعتبر أقدم كتاب جرى كتابته بطريقةٍ علمية في طب العيون (3,4) (انظر الصورة أدناه).
ولا يمكننا التحدّث عن العلوم و ازدهارها بأي لغةٍ من اللغات، قبل أن نتحدث عن الترجمة، والتي تعتبر نشاطًا بشريًّا هامًا، باعتبارها وسيلة تواصلٍ وتفاهمٍ بين الثقافات والشعوب واللغات المختلفة. ولئن كان هذا النشاط اللغوي موغلًا في التاريخ وضاربًا في القدم، فإنّ أهميته تزايدت بشكلٍ ملحوظٍ نظرًا للتطوّرات والمتغيرات الطارئة على مرّ التاريخ. فقد أمست الترجمة أداةً لا غنى عنها، ففيها تتجدد اللغات وتتطوّر. وبالإضافة إلى دورها الكبير في إثراء وتطوير اللغة بحدّ ذاتها، فهي تساهم في صناعة وإنتاج المعرفة بكل أشكالها. وقد اعتنى العرب بالترجمة حال اتصالهم بالثقافات المجاورة، حیث نقلوا العلوم والآداب عن الفرس والیونان والصین والهند. ومن المؤكد أنّ ازدهار حركة الترجمة ازدھارًا كبیرًا في أواخر العصر الأموي وبدایات العصر العباسي -لاسیما حینما أخذت بُعدًا مؤسسیًا في عهد الخلیفة العباسي المأمون- كان عاملًا مھماً من عوامل النھضة والتقدم في تلك الفترة. فعلى سبيل المثال، كان الخليفة العباسي هارون الرشيد يرسل العلماء إلى شتى أصقاع العالم بحثًا عن الكتب والمخطوطات، كما كان يكافئ المترجمين بسخاءٍ لا مثيل له. وفيما بعد، جنّد ابنه المأمون أفضل العلماء والمترجمين للقيام بالأبحاث العلمية والترجمة والتأليف في مختلف المجالات وقد برز في هذا العصر علماء على درجةٍ عظيمة من العلم والتبحر في المعرفة، ومن أمثال هؤلاء نذكر الخوارزمي والجاحظ والكندي بالإضافة إلى مترجمين عظماء ومن أشهرهم حنين بن إسحاق العبادي الذي جمع في سجاياه المهارة في الطب والنبوغ في الترجمة والتصنيف. وقد تكلّلت كل هذه الجهود بإنشاء بيت الحكمة في بغداد، والتي كانت أول أكاديمية في العالم الإسلامي تجمع خلف جدرانها أفضل العقول والعلماء والباحثين.
ومما يثير الاهتمام أنّ المأمون كان قد منح المترجمين في فترة خلافته أعلى المناصب في البلاط تكريمًا وتقديرًا لجهودهم الحثيثة في إثراء التراث الإسلامي والعربي بفروع المعرفة الجديدة آنذاك. وهو ما أكده الباحث ديمتري جوتاس في كتابه "الفكر اليوناني والثقافة العربية: حركة الترجمة اليونانية – العربية في بغداد والمجتمع العباسي المبكر". علاوةً على ذلك، لعبت الترجمة دورًا محوريًا أثناء النھضة العربیة الحدیثة التي بدأت في مطلع القرن التاسع عشر والتي مارس معظم روادها الترجمة، وأسھموا في تطویرھا وعلى رأسهم رفاعة رافع الطهطاوي مؤسس نواة مدرسة الألسن. وعلى الرغم من الاختلافات الجوهرية بين حركتي الترجمة في العصر العباسي وعصر النهضة باعتبارهما تجربتان متباينتان من حيث التموقع الحضاري للعرب/المسلمين وديناميكيات إنتاج المعرفة والظرف الثقافي/السياسي، فإنّ الترجمة كانت ولا زالت همزة الوصل في مشروع إثراء اللغة العربية لغويًا ومعرفيًا (4,5,6).
صورة 1 : أقدم إجازةٍ معروفةٍ في الطب منحت للطبيب عبد الله بن صالح الكتامي
يقول العلَّامة المستشرق سيديو: وإذا بحثنا فيما اقتبسه اللاتين من العرب في بادئ الأمر، وجدنا أنّ جربرت الذي أضحى بابا باسم سافستر الثاني أدخل إلينا بين سنة (359هـ/970م) وسنة (369هـ/980م) ما تَعَلَّمَه في الأندلس من المعارف الرياضية. وأن أوهيلارد الإنجليزي طاف بين عامي (493هـ/1100م) و (522هـ/1128م) في الأندلس ومصر فتَرْجَم من العربية كتاب (الأركان) لإقليدس، الذي كان الغرب يجهله. وأنّ أفلاطون التيقولي ترجم من العربية كتاب (الأُكَر) لثاذوسيوس، وأنّ رودلف البروجي ترجم من العربية كتاب (الجغرافيا في المعمور من الأرض) لبطليموس، وأن ليونارد البيزي ألَّف حوالي سنة (596هـ/1200م) رسالة في الجبر الذي تَعَلَّمه من العرب، وأن كنيانوس النبري ترجم عن العرب في القرن الثالث عشر كتاب إقليدس ترجمة جيدة شارحًا له، وأن قيتليون البولوني ترجم كتاب (البصريات) للحسن بن الهيثم في ذلك القرن، وأن جيرارد الكريموني أذاع في ذلك القرن أيضًا علم الفلك الحقيقي المتين بترجمته (المجسطي) لبطليموس، و(الشرح) لجابر… إلخ. وفي سنة (648هـ/1250م) أَمَرَ الأذفونش القشتالي بنشر الأزياج الفلكية التي تحمل اسمه، وإذا كان روجر الأول قد شجَّع على تحصيل علوم العرب في صقلية ولا سيَّما كتاب الإدريسي، فإنّ الإمبراطور فردريك الثاني لم يَبْدُ أقلَّ حضًّا على دراسة علوم العرب وآدابهم وكان أبناء ابن رشد يُقِيمُون ببلاط هذا الإمبراطور؛ فيُعَلِّمُونَه تاريخ النباتات والحيوانات الطبيعي. ويبدو واضحًا من كلام سيديو أنّ المسلمين لم ينقلوا علومهم فقط للأوروبيين، بل أسهموا وبقوَّة في أن يعرف الأوروبيون تاريخ أجدادهم الإغريق الذين كانوا بمعزلٍ تامٍّ عنهم. وهكذا كان التأثير في كلِّ أنواع ومجالات العلوم (4,6,7).
صورة 2: صورة فوتوغرافية لأول صفحة من كتاب المقالات العشر المنسوب لحنين بن إسحاق
لقد صاحبت حركة الترجمة والتأليف في العالم العربي الإسلامي ممارسة فعلية لأمور الطب كلها، وكان للأطباء دور مهم في تطوير فروع الطب المختلفة، فقد تميّز علماء الطب المسلمون بأنهم أول من عرف التخصص، فكان منهم أطباء العيون الذين عُرفوا بـ (الكحالين) ومنهم الجراحون والفصادون (الحجامون) ومنهم المختصون في امراض النساء، وكان من عمالقة هذا العصر المبهرين أبو بكر الرازي. كما ألّف المسلمون العديد من الكتب في طب العيون وجراحتها ومداواتها، ومن أشهر كتب الكحالة (وهو ما كان يطلق على أطباء العيون)، عشر مقالات في العين لأبي زيد حنين بن إسحاق (8) والذي يُعدّ أقدم كتاب في طب العيون جرى كتابته على الطريقة العلمية. و يعد أبو زيد حنين بن إسحاق (809-873 م) من الأطباء النقلة الذين نقلوا كتب الطب وغيره من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي. وقد كان عالماً باللغات الأربع وهو مؤرخ ومترجم ويُعدّ أهم مترجم إلى العربية على مر العصور، وكان يجيد -بالإضافة للعربية- السريانية والفارسية واليونانية. وقد قام بن إسحاق بترجمة أعمال غالينوس وأبقراط وأرسطو والعهد القديم من اليونانية، وقد حفظت بعض ترجماته أعمال جالينوس وغيره من الضياع وله مؤلفات أخرى في طب العيون ( 9) منها :
– كتاب المسائل في العين.
– كتاب تركيب العين.
– كتاب الألوان.
– كتاب تقاسيم علل العين.
– كتاب اختبار أدوية العين.
– كتاب علاج أمراض العين بالحديد.
كما وضع ابن النفيس مبادئ أساسية يسير عليها الكحال للتعرّف على أحوال العين. وتطور طب العيون على يد اثنين من أشهر الكحالين المسلمين هما أبو القاسم عمار بن علي الموصلي و علي بن عيسى. وكان الأول خبير في طب العيون، وقد أجرى العمليات الجراحية، وهو من أكثر الأطباء المسلمين ابتكارًا، وقد مارس مهنته في القاهرة. أمّا علي بن عيسى فقد اشتهر الى جانب حذقه بمهنة الكحالة بكتابه المعروف "تذكرة الكحالين" ومارس مهنته في بغداد. ويعتبره المستشرقون أكبر طبيبٍ للعيون أنجبته العصور الوسطى، وترجموا كتابه إلى اللاتينية مرتين وكذلك إلى العبرية (4,8).
إنّ اطلاعنا و قراءتنا لهذا التاريخ الجميل و المجيد يحيي في قلوبنا همةً و شغفًا، لكي نعيد هذا العلم الذي اشتهرت بداياته و تطوراته الكبيرة من طرف مسلمين وعرب في عصرٍ ذهبي بلغة الضاد. لذلك، ألم يحن الوقت لكي نستيقظ من جديد ونترجم، نكتب، نؤلف، ندرس ونبحث بلغتنا العربية التي تبقى ملكة اللغات بجماليتها ودقتها وسحرها وحتى تعود هي أم لغات العلوم؟
المصادر
1- كتاب الكافي في الكحل من تأليف بن محاسن الحلبي ، دار الفكر -1995 – صفحة 10
2- كتاب جولة في تاريخ الطب بالمغرب ،نادي التواصل الصحي – 2021 – صفحة 29
3- كتاب مقالات العين العشر المنسوب لحنين ابن إسحاق – دار صادر – بيروت -1968 – الصفحة الأولى
4- أطروحة تحت عنوان ' الأعراض و الأمراض الأكثر شيوعا في طب العيون ' د.سارة التوري – كلية الحسن الثاني بالدارالبيضاء ، رقم 251 – سنة 2022 ، المغرب
5- مقال ' في يومها العالمي ..دور الترجمة في نهضة اللغة العربية ' لحسام بن الأزرق من موقع www.aljazeera.net
6- أطروحة : دروس أمراض القلب : الترجمة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية للدكتورة هناء النجاري ، كلية الطب و الصيدلة بالرباط ، أطروحة رقم 135 ، سنة 2018
7- أثر الحضارة الأندلسية في الحضارة الأوروبية من موقع www.islamstory.com
8- إسهام علماء المسلمين في طب العيون – م. م. بسام عبدالحميد حسين السامرائي من مجلة الملوية للدراسات الآثارية والتاريخية
المجلد الثالث ــ العدد الرابع ـــ السنة الثالثة- العراق ــــ شباط 2016م على موقع: www.iasj.net
9- حنين بن إسحاق، من موقع: www.mareefa.com
مصادر الصور
الصورة 1: من ويكيبيديا – عبد الله بن صالح الكتامي
الصورة 2 :صورة فوتوغرافية لأول صفحة من كتاب المقالات العشر لحنين ابن إسحاق ، المطبعة الأميرية بالقاهرة – 1967
تواصل مع الكتاب: saraet2020@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة