أظهرت دراسة علمية جديدة قام بها فريقٌ دولي من الباحثين أنّ موجات الحرارة البحرية التي شهدها البحر الأبيض المتوسط خلال السنوات الماضية تسبّبت في أضرارٍ بيئية كبيرة، وموتٍ جماعي متكرر لعددٍ من أنواع الكائنات الحية البحرية الأساسية.
وسجّلت الدراسة التي تعتبر الأكثر شمولًا في دراسة تأثير الموجات الحرارة البحرية على البيئة البحرية، تضرُّر أنواعٍ أساسية من الكائنات البحرية بما فيها الشعاب المرجانية والإسفنج والطحالب الكبيرة، جراء هذه الأحداث المناخية مما يهدّد بحدوث تغيرٍ كبيرٍ في البيئة البحرية وتراجُع التنوع البيولوجي في البحر الأبيض المتوسط.
موجات حرارة بحرية أكثر تواترًا
تؤكد بعض الدراسات العلمية أنّ التغيرات المناخية الناشئة عن الأنشطة البشرية قد تسبّبت في زيادة سريعة في تواتر الأحداث المناخية المتطرفة وشدتها. وتعتبر موجات الحرارة البحرية، وهي فترات طويلة من درجات حرارة البحر المرتفعة بشكلٍ غير طبيعي، من بين أكثر الأحداث المناخية المتطرفة تأثيرًا في البيئة البحرية.
وقد تضاعف معدّل تكرار هذه الموجات خلال العشرين عامًا الماضية على مستوى العالم، كما أنّها أصبحت أكثر اتساعًا وشدة وتدوم لفتراتٍ أطول. وقد تعرّض البحر الأبيض المتوسط لهذه الظروف الحرارية الشديدة في السنوات الأخيرة ممّا أدى إلى رفع درجات حرارة مياه البحر بأكثر من 5 درجات في بعض المناطق عن المتوسط العادي الذي يبلغ حوالي 19 درجة مئوية.
وأثبتت نتائج البحوث أنّ موجات الحرارة البحرية تؤثّر بشدّة على بعض الموائل مثل الشعاب المرجانية والأعشاب البحرية، وأنها مسؤولة عن فقدان ما يصل إلى 80 % من أعداد بعض أنواع الكائنات في البحر الأبيض المتوسط. كما تشير بعض التقديرات إلى أن موجات الحرارة البحرية كانت مسؤولة عن فقدان ما بين 80 و90 % من كثافة الشعاب المرجانية في البحر الأبيض المتوسط منذ عام 2003.
نفوقٌ جماعي
في هذه الدراسة الجديدة التي نُشرَت مؤخرًا في مجلة "غلوبال تشانج بايولوجي" (Global Change Biology)، أثبت الباحثون أنّ موجات الحرارة البحرية التي شهدها البحر المتوسط تسبّبت أيضًا في نفوق جماعي لعددٍ من الكائنات البحرية وذلك خلال الفترة الممتدة بين عامي 2015 و2019 في عدد من مناطق.
وسجلت الدراسة التي شارك في إنجازها أكثر من 30 مجموعة بحثية من 11 دولة (من بينها تونس والجزائر والمغرب)، تضرُّر حوالي 50 نوعًا من الكائنات البحرية بما في ذلك الشعاب المرجانية والإسفنج والطحالب الكبيرة، بهذه الأحداث المناخية، بحسب بيان نُشر على موقع معهد علوم البحار في برشلونة (Institut de Ciències del Mar) الذي قاد الدراسة.
كما وجدت الدراسة أن درجات حرارة البحر المسجّلة في البحر الأبيض المتوسط، خلال تلك الفترة كانت الأعلى منذ بدء التسجيل في عام 1982. ومن بين ما يقرب من ألف مسح ميداني تمّ إجراؤه، وجد الباحثون أن 58 % منها يحتوي على أدلة على انتشار واسع لنفوق الحياة البحرية، وذلك مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفترات شديدة الحرارة.
ولاحظ الباحثون أن آثار الوفيات كانت أكثر وضوحًا بين السطح وعمق 45 مترا، حيث كانت موجات الحرارة البحرية المسجلة استثنائية، ووصلت إلى درجات حرارة تزيد عن 26 درجة مئوية في بعض المناطق.
وكانت بعض الأنواع الأكثر تضررًا أساسية للحفاظ على الأداء الوظيفي والتنوع البيولوجي للموائل الساحلية الرئيسية، وتشمل مروج نبتة البوسيدونيا (Posidonia oceanica) أو التجمعات المرجانية، وهما من أكثر الموائل أهمية في البحر الأبيض المتوسط.
لكن الإجهاد الحراري الشديد لا يبدو أنّه السبب الوحيد والمباشر لحوادث النفوق الجماعي للكائنات البحرية في المتوسط، إذ ترتبط درجات حرارة المياه المرتفعة أيضًا بتكاثر الكائنات الحية المسببة للأمراض، مثل البكتيريا والفطريات والفيروسات، ممّا يقلّل من قدرة النظام البيئي على التكيف مع الحرارة الشديدة، ويساهم في أضرارٍ بيئية إضافية.
هجرة بحرية
بالإضافة إلى التسبُّب في موت الحياة البحرية على نطاقٍ واسع، غالبًا ما تؤدي موجات الحر البحرية إلى الهجرة، وذلك ما ذكره جون سبايسر أستاذ علم الحيوان في جامعة "بلايموث" (University of Plymouth) في مقال نشره على موقع "ذي كونفرسيشن" (The Conversation). ففي مثل هذه الحالة، تتنقل الأنواع الغازية في المياه الدافئة نحو المناطق الأكثر دفئًا، لتحلّ محل الأنواع التي تهرب من درجات الحرارة المرتفعة. وتشير بعض الأدلة إلى أنّ درجات الحرارة الاستثنائية التي شهدها البحر الأبيض المتوسط هذا الصيف قد تكون الدافع وراء هجرةٍ جماعية واسعة النطاق.
وقد لوحظ في الفترة الأخيرة انتشار الأنواع الغازية في عدد من المناطق شرق المتوسط والشواطئ الجنوبية لفرنسا وقرب سواحل اليونان، حيث سُجل وجود سمك الأسد وهو نوع سام ومضر بالبيئة البحرية. ويمكن أن يؤدي غزو الأنواع المفترسة، إلى تغييرٍ كبيرٍ في أداء النظم البيئية للبحر الأبيض المتوسط وتراجعٍ كبيرٍ في التنوع البيئي.
ومع ذلك، في حين أن الأدلة القصصية وفيرة، فإنّ البحث في الآثار البيئية لموجات الحرارة البحرية لا يزال في مهده. وهناك حاجة لمزيدٍ من الدراسات العلمية القوية التي يمكن من خلالها تطوير نماذج لسيناريوهات مستقبلية واقعية.
وفي بعض فروع المجتمع العلمي، تشير شدة موجات الحر البحرية وتواترها مؤخرًا إلى أننا وصلنا إلى "نهاية لعبة المناخ". وهذا ينطوي على الاستعداد للعواقب الكاملة لنفوق الأنواع البحرية على نطاقٍ واسع، إذا لم يتم كبح الانبعاثات. وإن الموجة الحارة البحرية المدمرة على الأرجح في البحر الأبيض المتوسط هذا العام ستضيف وقودًا لمثل هذه المناقشات.
المصادر
– https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/gcb.16301
– https://www.icm.csic.es/en/news/mass-mortality-events-linked-marine-heatwaves-could-become-new-norm-mediterranean-sea
– https://theconversation.com/the-mediterranean-has-experienced-record-sea-temperatures-this-summer-this-could-devastate-marine-life-188995
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة