تمهيد
يُستخدم مفهوم "الإعلام الجديد" منذ أكثر من عشر سنوات وحتى الآن، وقد يُطرح في هذا الصدد سؤال: هل يجب الاستمرار في تناول المنصات والأشكال الرقمية بوصفها "جديدة"؟، وبالفعل نستطيع الإجابة على هذا السؤال بنعم؛ وذلك بسبب التغير السريع والمستمر الذي يطرأ على هذه المنصات وتطويرها لأساليب جديدة مع كل تحديث تطلقه. فشبكة الويب ظلت طول عقد التسعينيات تقريباً، تميل إلى كونها منجماً للمعلومات. ولكن الاتجاه الذي كانت تتم به هذه العملية، كان موجهًا من طرف واحد أو أطراف محدودة مقارنة بالعدد الكلي للمستخدمين. أي أن المواقع والشركات، والقادرين فقط من الأفراد هم الذين يصوغون المواد المعروضة على الشبكة بشكل رئيسي، لكن كل ذلك تغيَّر مع ظهور الجيل الثاني من شبكة الإنترنت فالقضية لم تعد علاقة مستخدم بشري بآلة، بل علاقة مستخدم بمستخدم آخر.
وفي بيئة التواصل هذه تبرز قيم الديمقراطية، وحرية التعبير، وغياب المركزية، وحرية تبادل المعلومات والسلع، وإتاحة الفرصة لجميع المستخدمين للإسهام في صنع المعرفة ومشاركتها، وتحرير المحتوى وإنتاجه، وتفاعل الأفراد مع بعضهم؛ مما أدى إلى خلق أشكال جديدة للعلاقات الإنسانية، وفتح آفاق واسعة لمشاركة الأفراد في الفضاء الاجتماعي بقيود أقل وحرية أكبر وبأشكال متعددة. وهذا أدى بالضرورة إلى تغير طريقة تناول علماء الاجتماع لقضايا جوهرية في علم اجتماع الإعلام كالعولمة، وأزمة الهوية وتعدد الهويات، والخصوصية وغيرها من القضايا التي تعتبر أساسية وقديمة في علم الاجتماع، ولكن أصبحت تُدرس بطرق مختلفة وفقا لتأثير الإعلام الجديد عليها.
وسيحاول المقال الإجابة على التساؤلين التالية:
- ماهي القضايا المرتبطة بالإعلام الجديد التي يطرحها ويناقشها علم الاجتماع؟
- ما هي أكثر جوانب المجتمع تأثرا بالإعلام الجديد؟ ولماذا؟
المحور الأول:
ماهي القضايا المرتبطة بالإعلام الجديد التي يطرحها ويناقشها علم الاجتماع؟
في هذا المحور سيتم الحديث بإيجاز عن عدد من القضايا التي ترتبط بالإعلام الجديد وتعتبر محط اهتمام علماء الاجتماع، وهي العولمة التكنولوجية، والهوية الافتراضية وتعدد الهويات، وأزمة الهوية، والخصوصية.
العولمة التكنولوجية
إن الشركات متعددة الجنسيات هي الأداة الرئيسة لعولمة وسائل الإعلام، وهذه الشركات تتحكم في محتوى وتوزيع وسائل الإعلام العالمية، وإذا نظرنا بصورة سطحية نجد أن هناك فرص لا محدودة للعثور على وسائل إعلام متنوعة، لكن هذه الصورة ليست حقيقية، إذ تدل عولمة الإعلام أن هذه الوسائل يتحكم فيها عدد أقل من المالكين، وهذا يؤدي إلى احتكار هؤلاء المالكين القلة على غالبية سوق الإعلام. وبدلا من أن تؤدي هذه التكنولوجيات والوسائل إلى تمكين الأفراد المستخدمين، إلا أنها استغلت من قبل القوى الاجتماعية والاقتصادية الأكثر هيمنة. إن موضوع الاحتكارات مهم جداً لأن المنافسة الأقل تعني عادةً أن المستهلكين لا يحصلون على خدمات جيدة لأن الآراء المعارضة أو وجهات النظر المتنوعة يقل احتمال ظهورها. وإذا ما نظرنا إلى الاستعمار الثقافي الذي يحدث مع النمو التكنولوجي على سبيل المثال نجد أن الابتكارات التكنولوجية كمادة خالية من الأيديولوجيا، فكابل الألياف الضوئية هو نفسه في بلد مسلم أو بلد علماني أو بلد شيوعي أو بلد رأسمالي. لكن أولئك الذين يجلبون التكنولوجيا إلى الدول الأقل تقدماً سواء كانت منظمات غير حكومية أو شركات أو حكومات عادة ما يكون لديهم أجندة، كما يرى بعض الاقتصاديين أن التقدم التكنولوجي فتح المجال للتنافس في تقديم الخدمات، حيث يمكن لأي شخص في أي مكان أن يكون منافسًا عالمياً، ولكن الحقيقة هي أن الفرصة لا تزال تتجمع في المناطق التي تتمتع بميزة جغرافية، ومع ذلك لا نستطيع إنكار أن الانتشار التكنولوجي أدى إلى انتشار المزيد والمزيد من التكنولوجيا عبر الحدود إلى الدول المحيطية وشبه المحيطية، إلا أن المساواة التكنولوجية العالمية الحقيقية ما زالت تحتاج إلى طريق طويل (بركات، 2019) (أورتون و بريور، 2021).
الهوية الافتراضية وتعدد الهويات
تقوم الهوية بتعريف ما يصدر عنا من أفعال وتحديدها، أو ما نبدو عليه، وما هي نقاط قوتنا وضعفنا وما نستطيع القيام به وما لا نستطيع القيام به، وماهي نوعية الأفعال التي تناسبنا أخلاقيا. وقد نشعر بقوة أن مخالفة مثل هذه الحدود الواضحة للعيان مستحيل عمليا أو قد يؤدي إلى تمزيقنا ويحيلنا إلى أشخاص مختلفين تماما يستحيل التعرف عليهم (السوتاري، 2015). لكن هذه الحدود تصبح غائبة في المجتمع الافتراضي، ففي هذا المجتمع تكون هناك فرصة للأفراد إلى إخفاء هوياتهم الأصلية؛ بسبب زوال القيود التي تفرضها فيزيقية المكان الذي يسمح بإمكانية تشكل هوية افتراضية تختلف بشكل أو بآخر عن هويتهم في المجتمع المادي. وقد مكن هذا من التفاعل "الشخصي حقا" الذي يبعد عن كل تلك القيود التي تسببها آفاق التفكير الضيقة الناشئة عن الارتباط بالموقع الجغرافي أو بالحدود التي يفرضها التجسيد المادي (أورتون و بريور، 2021).
وتشير الهوية الافتراضية إلى "تطوير بناء متكامل للذات في بيئة افتراضية؛ بناء قد يختلف عن هوية الشخص في الحياة الحقيقية"، لأنه توجد الكثير من الفرص لتشكيل توقعات المجتمع الافتراضي، أو حتى التشجيع على إدخال تغييرات على خصائص معينة من الصور الرمزية والجوانب الشخصية المرتبطة بالهويات الافتراضية (Koles & Nagy, 2012). كما يرى كولز وناجي في دراستهم أنه من الواجب إنشاء هوية افتراضية إذا كان الشخص يرغب بأن يكون له حضور معترف به في المجتمع الافتراضي، مع العلم بأنه يمكن اعتبار الهوية الافتراضية كيانًا مفاهيميًا معقدًا وديناميكيًا ومرنًا؛ إذ أن هذه الهوية قد ترتبط بهوية الفرد الحقيقية أو قد تكون مختلفة تمامًا عنها(Koles & Nagy, 2012)؛ ويختلف هذا باختلاف حالة ومكانة هذا الفرد في مجتمعه المادي، وهل هو يؤدي السلوكيات التي يرغب حقا في أدائها ويتصرف كما يريد "هو" أو العكس. ويعتبر هذا أمرًا مؤثرًا لدى كثير من الأفراد في تشكيل هوياتهم الافتراضية وتعددها.
كما تؤثر منصات التواصل الاجتماعي التي تعتبر الوجه القوي للإعلام الجديد على تشكيل الهوية الاجتماعية للفرد من خلال ردود الفعل الاجتماعية، أي ممارسة تأثير اجتماعي على المستخدم، من خلال قرارات مستخدم آخر، لأن هذه الوسائط التفاعلية تعتبر قناة لنقل المعلومات حول الأدوار والقيم الاجتماعية التي يتم تبنيها من قبل كل فرد، وبالتالي لها دور مهم في تجارب وسلوكيات المستخدمين (سريجي، 2021).
وقد كانت المجتمعات المحلية التقليدية تسعى إلى مشاركة الفضاءات الاجتماعية الممتلئة بأوجه التفاوت، فإن هذه الفضاءات يمكن استبدالها بفضاءات إلكترونية مفتوحة وديموقراطية لا ترتبط بالمكان ولا يوجد فيها أوجه تفاوت على صعيد الثروة والطبقة الاجتماعية والنوع والعرق. ومن خلال هذا المنظور يمكن أن يتطور الفضاء الإلكتروني ويصبح مستودعا عالميا للأفكار البديلة التي تعرضت للتهميش أو الرفض تماما في العوالم المقيدة ماديا. ومع بداية الثورة الرقمية لم يعد الناس يجدون أن المجتمعات المحلية تلبي طموحاتهم، بل أصبحوا ينظرون إلى أبعد من ذلك نحو الترابط الكوني، لأنهم أدركوا كيف هدمت أجهزة الاتصال حواجز المكان والزمان التي كانت تمنع الاتصال من قبل في جميع أنحاء العالم، فالمجتمعات الرقمية و الشبكات الاجتماعية القائمة على الانترنت أصبحت تتيح للأفراد تطوير علاقات كونية وعابرة للثقافات، فالأفراد الآن يلتقون بأشخاص عبر الفضاء الافتراضي ويكوّنون معهم صداقات جديدة مبنية على الاهتمامات المشتركة (أورتون و بريور، 2021).
ومع ذلك ترى سريجي (2021) أنه لا يمكن أن يكون هناك فرق بين بناء الهوية الافتراضية والهوية الحقيقية في العالم الاجتماعي لأن كلاهما توجد فيها جوانب شخصية الفرد التي تؤثر في كلا العالمين، ومن أجل التوافق مع الملفات الشخصية يحاول المستخدمين تصوير واجهات سعيدة وعصرية لأن هذا ما يفعله المستخدمون الآخرون، ولعكس الرغبة في الكيفية التي يريد الفرد أن ينظر إليه الآخرون بها، بدلاً من إظهار صورة صادقة لما هو عليه حقاً. وبالتالي يفضل الكثيرون تبني هذا الوهم الآمن والسعيد، بالاتصال الافتراضي بدلاً من مشاركة علاقات الحياة الحقيقية وتطويرها، وأظهرت العديد من الدراسات أن هذه الروابط السطحية يمكن أن تؤدي في النهاية إلى مشاكل عاطفية ونفسية طويلة المدى (سريجي، 2021).
من ناحية أخرى يرى باومان (2016) أن ثقافة المجتمع التكنولوجي من خلال القدرة الهائلة لتكنولوجيا الاتصال الجماهيري استطاعت التخفيف من حدة التناقض بين الواقع الافتراضي والواقع الاجتماعي، من خلال دمج قيم الأول بالثاني وإعادة توزيعها على نطاق واسع في حياة الفرد (باومان، الحياة السائلة، 2016).
أزمة الهوية
إن أجل تحديد نموذج واضح لأزمة الهوية، من الضروري التمييز بين نوعين منها، النوع الأول: "أزمة الدافعية"، حيث يعاني الفرد من نقص في الالتزامات الموجهة ولكنه يكافح من أجل تحديد أهداف وقيم شخصية في صراع الهوية، والنوع الثاني: هو "أزمة الشرعية"، حيث يكون لدى الشخص العديد من الالتزامات التي تنص على وجوب اتباع أنماط سلوكية متعارضة في بعض المواقف، مثل أنه قد يلزمه في أحد المواقف الإخلال بالتزام بواحد من جوانب هويته على الأقل (Baumeister. & Tice, 1985).
أنا هنا ولست هنا، هذا بالضبط ما يشعر به الجيل الجديد من الأطفال والمراهقين، أنا بينكم وأعيش معكم، لكني لستُ مع أفكاركم ولا مشكلاتكم أحياناً، وليس بالضرورة أن يكون صديقي هو جاري القريب، ولا أن ألعب مع أصدقائي في الحي، لأني وبكل بساطة لي مجموعة تلائمني أكثر من الأصدقاء والألعاب على شبكة الإنترنت (زيد، 2011).
الخصوصية
نظرًا لأننا نزيد من اتصالنا على الويب للتواصل اجتماعي، ومشاركة المواد، وإدارة الأعمال، وتخزين المعلومات، فإننا نزيد أيضًا من تعرضنا لمن لديهم نوايا إجرامية. نشر مركز بيو للأبحاث مؤخرًا تقريرًا أشار إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت الذين أعربوا عن قلقهم بشأن مدى توفر المعلومات الشخصية الخاصة بهم على الإنترنت قفز بنسبة 17 في المائة بين عامي 2009 و2013. وفي نفس الاستطلاع، أشار 12 في المائة من المجيبين إلى أنهم تعرضوا للمضايقة عبر الإنترنت، كما أشار 11 بالمائة إلى أن المعلومات الشخصية، مثل رقم الضمان الاجتماعي الخاص بهم قد سُرقت (بركات، 2019).
والسؤال هنا كيف يمكن للأفراد حماية بياناتهم؟ تنشر الحكومة والمنظمات غير الربحية والقطاع الخاص تدابير وتعليمات السلامة، بما في ذلك ما يلي: التعرف على حقوق الخصوصية؛ قراءة سياسات الخصوصية عند إجراء عملية شراء بدلاً من النقر المباشر على "قبول"؛ إعطاء فقط الحد الأدنى من المعلومات المطلوبة من قبل أي مصدر؛ الاستفسار عن سبب جمع المعلومات، وكيف سيتم استخدامها، ومن سيحصل عليها (بركات، 2019).
المحور الثاني:
ماهي أكثر جوانب المجتمع تأثرا بالإعلام الجديد؟ ولماذا؟
لا مجال للاختلاف حول التأثير الكبير للإعلام الجديد على جميع جوانب المجتمع، ولكن ربما يسعنا القول بأن أكثر هذه الجوانب تأثرًا هو الجانب الاقتصادي الذي بدوره يؤثر بشكل أو بآخر على باقي الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
إن النمط الاقتصادي المهيمن في الوقت الراهن هو نمط " رأسمالية المعلومات " وهي مرحلة وشكل معين من رأس المال الذي حل فيه إنتاج المعرفة والأفكار محل إنتاج السلع والتوصيل المباشر للخدمات كأساس لتكوين الثروة. وترتبط رأسمالية المعلومات بسقوط الإنسان العام وظهور الشبكات الشخصية والمعرفة الخاصة بكل فرد. وهذا دشن عصر المسؤولية الفردية الذي أصبح الولاء فيه موجها نحو الذات والأسرة المباشرة (أورتون و بريور، 2021).
ويمكن أن نصف هذا العصر بأنه عصر تطبيقات التواصل الاجتماعي؛ وذلك لأن التطبيقات التي تتاح على متاجر الهواتف الذكية توسعت لتشمل ترفيه الشعوب، وتحسين جودة الحياة، وتحويل الحكومات والقطاع الخاص إلى أنظمة إلكترونية. وبالحديث عن المجتمع السعودي نرى أنه قد شهد وصلاً غير مقيد للمعرفة، وانفجارًا تقنيًا وتغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية، وقد تم إنشاء العديد من الشبكات الاجتماعية مثل: يوتيوب، واتساب، انستقرام، وآخرها سناب شات الذي يعد الأكثر استخدامًا من قبل المجتمع السعودي؛ حيث احتلت المملكة العربية السعودية المتربة الثانية عالميًا في استخدام سناب شات (الشقير، 2021).
وتعد منصات التواصل الاجتماعي أقرب ما تكون إلى مصدر ترفيهي، لكونها عبارة عن دفتر مذكرات يومية سريعة الإيقاع ملونة ومتغيرة باستمرار للحياة الشخصية للأصدقاء والمشاهير، ويبدو أن هذه المواقع تمتلك كثيرا مما يشبه بناء مجتمع عالمي حقيقي توحده المشاعر المشتركة من خلال توفير فضاءات جديدة من الانتماء (أورتون و بريور، 2021).
وربما يعد سناب شات أهم تطبيق تواصلي يجذب الفئات المهمشة، ويضعهم في الواجهة الاجتماعية، ويجعل منهم منصة إعلانات ذات أرباح كبيرة، ويحقق لهم عنصر الإثارة والدهشة، ويمنحهم حق التعريف بحياتهم اليومية العادية، وهؤلاء الذين عُرفوا بالمشاهير، يؤثرون على صغار السن الذين يعتبرونهم رموزهم الاجتماعية ويرون سلوكهم نموذجا يمكن محاكاته وتقبله اجتماعيًا (الشقير، 2021).
وكما هو معلوم أن الشركات التجارية تستخدم الإعلانات لبيع منتجاتها وقد تغيرت طريقة هذه الإعلانات في الوقت الراهن، حيث سمحت التكنولوجيا ووسائل الإعلام للمستهلكين بتجاوز مواقع الإعلان التقليدية. من اختراع جهاز التحكم عن بُعد، الذي يسمح لنا بتخطي الإعلانات التلفزيونية دون مغادرة مقاعدنا، إلى أجهزة التسجيل التي تسمح لنا بمشاهدة البرامج ولكن بتخطي الإعلانات، فإن الإعلانات التلفزيونية التقليدية في طريقها إلى الانخفاض، ولا يختلف الأمر بالنسبة لوسائل الإعلام المطبوعة. في الواقع، انخفضت إيرادات الإعلانات في الصحف والتلفاز بشكل كبير في عام 2009مما يدل على أن الشركات تحتاج إلى طرق جديدة لإيصال رسائلها إلى المستهلكين. لذلك بدأت الشركات تفكر لمعالجة مشكلة تباطؤ الإعلانات في استخدام فلسفة توظيف المشاهير، على نطاق مختلف تماماً (بركات، 2019).
ويسهم هؤلاء المؤثرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي في إنتاج المعرفة الغير موثوقة، وبروز ظاهرة الوعي المزيف بالحياة العصرية، ويقصد بها تصوير الاستهلاك والتردد على المقاهي والأسواق هو النموذج المثالي للإنسان العصري، وهذه الظاهرة بدأت نسائية ومن ثم انتشرت بين الجنسين، ويمثلها "الفاشينيستا" والمعلنات والمتسوقات؛ فهم يُظهرون المباهاة والقدرة على امتلاك الماركات، مع تبسيط فكرة إمكانية امتلاكها للناس العاديين، ثم تكون رأس مال جاذب للمتابعين والمعلنين، ثم تتحول إلى رأس مال اجتماعي من خلال امتلاك مئات الآلاف من المتابعين الذين يكونون من عامة الناس في الغالب، ويتسمون بسرعة تكوينهم لصورة ذهنية إيجابية عن المشاهير، وخاصة في الاهتمامات البسيطة والقريبة من إدراكهم، مثل موضوعات اليوميات وكلما كان المشهور بلا محتوى ولا يتطلب متابعة واعية زاد عدد المتابعات؛ نظرا لأن القاعدة الشعبية لا تميل للتعلم (الشقير، 2021).
فالمشاهير يسهمون في تحديد شكل وعي من يتابعهم، وهذا الوعي غالبا ما يكون سطحي أو زائف لعدم استناده على مصادر علمية أو حقائق معممة وإنما يستند على تجارب شخصية بحتة لهذا المؤثر، مع الأخذ في الاعتبار خلفيات المشهور الثقافية ومستواه التعليمي.
ويُعرَّف الوعي الزائف على أنه التمسك بمعتقدات خاطئة تتعارض مع المصلحة الاجتماعية للفرد والتي تساهم بالتالي في وضع غير مؤات للذات أو للمجموع (Jost,1995:397). ويرتبط مفهوم الوعي الزائف بالتنظير الماركسي إلى حد كبير رغم أن كارل ماركس نفسه لم يستخدم هذا اللفظ حرفيا، لكنه كثيرًا ما أشار له بطريقة أو بأخرى، حيث وصف أنواع من الوعي على أنها "غير صحيحة" أو "غير سوية " أو "غير حقيقية " أو ربطه بالـ"وهم "، ويظهر فيه الأفراد وهم متأثرين بقوى خارجية "تحفّز" تفكيرهم، وجرى الكثير من الجدل العلمي حول هذا المفهوم، مثل أن مفهوم انجلز له أصح كونه يربط بالوعي بجانب نفسي بينما ماركس يعطيه بُعد اجتماعي، ومثل أنه حتى نقيس زيف الوعي فيجب معرفة حقيقة الوعي أصلا (Pines,1997).
يلعب جانب الوعي والاعتقادات دورًا جوهريا في قرارات المستهلك وممارساته، تنشأ أيديولوجية الاستهلاك من الصراع بين رغبات المستهلك ونظام الاستهلاك، ثم ينعكس ذلك في التجارب الحية للمستهلكين، ويتم التعبير عنه في التمثيل الاجتماعي والممارسات التفاعلية (كما يحصل من مشاهير السوشيل ميديا) المرتبطة بالاستهلاك القائم على الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وتفضيل وكراهية علامات تجارية محددة (Schmitt, Brakus & Biraglia, 2021).
وبما إن القاعدة الشعبية العريضة تفتقد لمهارات النقد وحب التعلم. فإن كثيرًا منها لن يمتلك معايير جيدة للتقييم، وسيكتفون بالميل لمن يشبههم، وبالتالي فهم عرضة لتبني كثير من الأوهام، مثل: اعتقادهم أن المشاهير أشخاص طيبوا القلب وأنهم أذكياء وصادقون (الشقير، 2021)، وهذه الأوهام تجعلهم أكثر تأثرًا بالإعلانات وبالتالي تؤثر على زيادة استهلاكهم.
وقد يدخل المشهور مع شركات ومؤسسات في مفاوضات لتمرير سلع وخدمات وأجندات على المتابعين بمبالغ مالية، ويتغير سلوك المشاهير بتكثيف البث اليومي والبحث عن مجالات الإثارة حتى يزيد من المشاهدات، وذلك لأنه تحول إلى مؤسسة إعلامية. وقد أسهم بعض هؤلاء في تغيير الذوق العام بدعوى أنها حرية شخصية، فهم يكثفون القيم المادية والاستهلاكية والرفاهية المفرطة، على حساب قيم الذوق العام والادخار (الشقير، 2021).
وقد تحدث باومان(2016) في كتابه الحياة السائلة عن كيف حل المشاهير في المجتمع الحديث محل الشهداء والأبطال في الثقافات القديمة، ففي المجتمعات القديمة كان الشهيد يُقدّس لأنه ضحى بنفسه بدافع الولاء للقضية وللجماعة، وفي المجتمعات التي تزامنت مع ظهور "الدولة" يكتسب البطل قداسته من تجنيد الدولة له و موته "في سبيل الوطن، أما في المجتمع الاستهلاكي الحديث السائل لا مكان للشهداء ولا للأبطال وظهر مكانهم ما يعرفون بالمشاهير، إن المشاهير يحظون بمكانة مماثلة بين شخصيات العالم الحديث السائل. كانت شهرة الشهداء والأبطال تستمد من أفعالهم، وكانت ذكراهم حية حتى يمكن تخليد تلك الأفعال. أما الأسباب التي وضعت المشاهير في بؤرة الضوء فهي أقل الأسباب أهمية للاشتهار؛ فالسبب الوحيد لشهرتهم هو اشتهارهم فقط وليس فعل حقيقي اشتهروا من خلاله، كثرة صورهم المنشورة وانتشار أسمائهم في البرامج العامة والحوارات الشخصية، لا يوجد شيء أكثر من هذا. والحديث عنهم يدور على ألسنة الجميع، إنهم مثل الشهداء والأبطال يمثلون مادة لاصقة تربط بين أشتات من الناس، بل نستطيع القول بأنهم يمثلون العوامل الرئيسية التي توّلد الجماعات، ولكن هذه الجماعات مفككة وهشة ومتقلبة وزائلة (باومان، الحياة السائلة، 2016).
كما أن مقدار المعرفة التي يحتاج إليها المرء في الوقت الراهن يذهل العقل، فهناك أعداد مهولة من الأسماء والعلامات التجارية والشعارات التي يحتاج المرء إلى حفظها والاستعداد لنسيانها؛ حيث تظهر فجأة أسماء جديدة ومشاهير يقدسها الجماهير، والشركات الرائدة في التصميم، وأسواق الموضة، تظهر بقوة سريعا، وبذات السرعة تختفي (باومان، الحياة السائلة، 2016).
ولأن المجتمع ديناميكي بطبيعته وأي تغيير يحصل في نسق من أنساقه يؤثر بالضرورة على بقية الأنساق المتداخلة في الأصل، فنستطيع أن نلاحظ هنا تأثير زيادة الاستهلاك على الروابط الاجتماعية، يرى باومان (2016) أن الروابط والعلاقات أصبحت أشياء نستهلكها لا ننتجها، إنها تخضع لمعيار التقييم نفسه الذي تخضع إليه موضوعات الاستهلاك الأخرى كافة، ففي السوق الاستهلاكية، عادة ما تعرض السلع المعمرة في ظاهرها على سبيل التجربة؛ واستعادة الثمن مكفولة إن لم يرض المشتري عن المنتج تمام الرضى. فإذا كان الشريك في العلاقة الإنسانية ينطبق عليه هذا التصور، فلم تعد إذاً مهمة الشريكين كليهما العمل على استمرار العلاقة ونجاحها، العمل على نجاحها في العسر واليسر، وفي السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، بحيث يكون كل شريك في عون شريكه في أفراحه وأتراحه، وأن يغير رغباته المفضلة إذا اقتضى الأمر ، وأن يتنازل ويصل إلى حلول مرضية للطرفين، وأن يضحي في سبيل رباط دائم ، بل صار الأمر مسألة تتعلق بإشباع الرغبة من منتج جاهز للاستهلاك، وإذا كانت اللذة الحاصلة لا تصل إلى المستوى الموعود ولا المتوقع، يمكن للمرء أن يقيم دعوى طلاق، ويستشهد بحقوق المستهلك وقانون المواصفات التجارية. فما من سبب يجعل المرء يتمسك بمنتج قديم أو رديء بدلاً من أن يبحث عن منتج جديد ومعدل في المحلات.
ومن ثم فإن الطبيعة المؤقتة للعلاقات تتحول عادة إلى توجه نحو إشباع الذات. فإذا لم تكن الروابط الإنسانية، مثل كل الموضوعات الاستهلاكية الأخرى، شيئاً يتحقق عبر الجهد الطويل والتضحية من حين إلى آخر ، بل شيئاً يتوقع المرء منه أن يحقق الإشباع الفوري، في الحال، في لحظة الشراء، وشيئاً يرفضه المرء إذا لم يبعث على الرضى، شيئاً لا يحرص المرء على الإبقاء عليه واستخدامه إلا إذا كان يحقق الإشباع ولا يبقي عليه بعد الإشباع، فلا جدوى من إضاعة الأموال الطائلة فيما لا طائل منه، ولا جدوى من المحاولة الجادة والاجتهاد فيها بصبر ومثابرة، ناهيك بمعاناة القلق والاضطراب في سبيل إنقاذ العلاقة، بل إن تعثراً بسيطاً ربما يعصف بالعلاقة، ويؤدي بها إلى الانهيار والانفصال. فالاختلافات التافهة تتحول إلى صراعات مريرية، والاحتكاكات الطفيفة تصير علامات على اختلاف جوهري لا يقبل التجاوز (باومان، الحداثة السائلة، 2016).
المراجع تجدونها في ملف الـ PDF المرفق أعلى الصفحة
تواصل مع الكاتب: sma72017@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي.
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة