هل يفسر العلم كل الظواهر حولنا؟
طبعا لا.. ليس في إمكان العلم ذلك، لكن لديه القدرة على تفسير بعض الظواهر لأن العلم لا يفسر الماهيات بل يعلل الظواهر وليس كلها؛ فالعلم لا يقول ماهية الجاذبية، لكن ظواهر من تسارع أو قصور وغيرها. وكذلك من طبيعة العلم أن يعطينا إحصائيات إجمالية وليست فردية؛ فهو مثلا لم يقس شحنة إلكترون مفرد بذاته بل قاس الملايين منه ومن هذه الملايين تم معرفة شحنة الإلكترون على باب الإحصاء، وعلى ذلك فقِسْ كثير من قضايا العلم.
الحتمية العلمية
عندما ظهرت قوانين نيوتن للحركة التي فسرت حركة الكواكب في القرن السابع عشر الميلادي، ظهر فريق من الفلاسفة ينادون بالحتمية وهي أن الكون محكوم بقوانين العلم التي تسيره حتى يقول العالم الفرنسي لابلاس: "إن جميع الحوادث هي نتيجة ضرورية للقوانين الطبيعية". فالكون في نظرهم هو آلة ميكانيكية تخضع لقوانين حتمية صارمة، وكل ما يحدث فيه له سبب ويؤدي إلى نتيجة حتمية ومحدودة.
فلاسفة المادية استفادوا من هذه النتائج في بناء صرح الحتمية التي يريدونها، فما دامت القوانين الميكانيكية تسيّر الكون وفق نواميسها فلا داعي (لفكرة) الإله المسيطر والمنفذ للكون؟!
لذا نجد لابلاس السابق الذكر، يقدّم كتاب إلى نابليون عن الأفلاك السماوية فيقول هذا الأخير: – لقد أخبروني يا لابلاس أنك كتبت هذا الكتاب الضخم عن نظام الكون ولم تشر إلى الله خالقه؟
فيرد لابلاس: – لست بحاجة إلى هذه الفرضية؟!
وجاءت نظرية التطور لداروين لتؤكد نفس هذا المفهوم – حتمية العلم وإلغاء الإله الصانع – وتؤكد أن الكائنات الحية نشأت تحت قانون الانتخاب الطبيعي والارتقاء ليس الخلق.
فهل العلم ظل داعما لهذه الحتمية المطلقة والتي أدت – أو لنقل – دعمت موجة الإلحاد العارمة؟
تطوّر العلم
نسي هؤلاء أن من سمات العلم التراكم والثورية، وهما يشكلان طابعا ديناميكا لتقدم المعرفة العلمية حيث تتراكم المعارف والاكتشافات حتى نصل إلى الدرجة التي تشرع وقائع جديدة في إعادة النظر في المعارف القديمة مغيرة نظرة الإنسان للعالَم – ولنا أكبر مثال في ذلك منظور نيوتن للجاذبية على أنها قوة، فقد جاءت النسبية العامة لآينشتاين لتوسع فيه وترى أن الجاذبية هي هندسة للمكان والزمان من حول الكتل. وهندسة إقليدس الجامدة حول المكان الثلاثي الأبعاد وسعتها وناقضت مسلماتها هندسة ريمان،
وأفكار نيوتن عن الضوء عارضتها أفكار هيجنز؛ فالأول يرى أن الضوء جسيمات والآخر يرى أن الضوء موجات ليأتي بعدهما آينشتاين ليرى جسيمات الضوء في الفوتونات.. ويجمع بين الآراء دي برولي في ازدواجية الضوء. وفكرة الكون المستقر اللانهائي في الزمان والمكان التي سادت في القرن التاسع عشر الميلادي خالفتها فرضيات هوبل في توسع الكون واشتقاقات جورج لومتر لمعادلات النسبية التي اثبتت توسع الكون لتأتي نظرية الانفجار العظيم لتثبت أن للكون بداية في الزمان والمكان.
وأفكار داروين حول التطور تتصادم مع علم الأجنة بعد اثبات تزوير صور الأجنة من قبل إرنست هيكل Ernst Haeckel.
وكذلك الحفريات المكتشفة حول ما يسمى الانفجار الكمبري؛ فقد ظهرت كل شعب الحيوانات المعروفة اليوم في نفس الوقت، في منتصف الحقبة الجيولوجية المعروفة باسم العصر الكمبري Cambrian Period تلك الحقبة الجيولوجية التي يُقدر أنها استمرت لنحو 65 مليون سنة، أي ما بين نحو 505 إلى 570 مليون سنة ماضية، ولكن الظهور المفاجئ لمجموعات الحيوانات الرئيسية قد استغرق فترة زمنية قصيرة من العصر الكمبري، وتعرف هذه الفترة غالبا باسم "الانفجار الكمبري Cambrian Explosion"، هكذا بدل أن تتطور واحدة عن الأخرى كما تقول نظرية التطور.
وقانون الديناميكا الحرارية الثاني يقف حجر عثرة أمام فكرة الحتمية؛ فهو يرى أن الأنظمة تبدأ متناسقة ثم تنتهي مضطربة مشوشة فكيف بكوننا الذي نعيش فيه؟
فهل أفكار العلم التي تطورت والثورات العلمية حافظت على الحتمية؟
ثورة الاحتمالات
في بداية القرن العشرين بدأت بوادر نظرية الكم أو ميكانيكا الكم في الفيزياء على يد العالم ماكس بلانك، هذه النظرية التي سبرت العالم الداخلي للذرة. فمن تفسير أشعة الضوء الصادر على أنه زخات متقطعة تدعى كمات quanta حتى تفسير كوبنهاجن الشهير.. هذه الأفكار فتحت أبوابا كثيرة حول فلسفة العلم والعلم نفسه. فالضوء – كما قلنا سلفاً- أصبح له طبيعتان فهو جسيمات (الفوتوناتphotons ) وفي نفس الوقت موجات، أما كيفية التعامل معه فيعود للراصد نفسه أو المراقب، فهو إذا رصده على أنه موجات سيتصرف الضوء كموجات، وإذا رصده كجسيمات سيتصرف الضوء كجسيمات ..فهذه الطبيعة الثنائية للضوء وضحتها معادلة شرودنجر الشهيرة.
ثم كانت دالة الموجةwave function التي قدمها ماكس بورن – وهي دالة رياضية أو أداة رياضية تحدد احتمال تواجد الجسم في هذا المكان فكلما ازدادت سعة هذه الدالة ازداد احتمال تواجد الجسم هنا والعكس صحيح. تماما كما نتحدث عن موجة جريمة في ضاحية معينة للمدينة فنقول إن موجة الجريمة عالية في المكان الفلاني يعني نسبة الجريمة عالية، ولكن لا يمنع تواجد الجريمة في مكان آخر.
ولكي نحدد موقع جسم معين يجب أن تنهار دالة الموجة الاحتمالية ليكون تواجد الجسم حقيقة في ذلك الموقع.
إذن الاحتمال هو سيد الموقف في العالم الذري وليس الحتمية.
الكون المحتمل
في تجربة مثيرة في الفيزياء، أوضحت مبدأ الاحتمال هذا وأهميته، هذه التجربة اسمها تجربة الشقين The Double Slit Experiment، وتتلخص في التالي:
لدينا جدار به ثقبان وخلفه جدار عاكس يحدد كمية ما ينفذ من الثقبين.
في المرة الأولى تم إطلاق رصاص من أحد الثقبين ورصد عدد الرصاص على الجدار العاكس، لا ريب أنه نفس العدد المار وكذلك الحال إذا فتحنا كلا الثقبين.
في المرة الثانية أعدنا نفس التجربة لكن باستعمال كمية من الماء – لوحظ أن الماء له تموجات- النتيجة إن كمية الماء المارة من الثقبين معا أقل من مرورها من كل ثقب على حدة نظرًا لتداخل موجات الماء فيما بينها.
في المرة الثالثة استعملنا رزمة من الإلكترونات – ضوء – تصرفت نفس تصرف الماء …ماذا يعني هذا؟
يعني عند امرار الماء أو الالكترونات أو الرصاص من أحد الثقبين كانت النتيجة مطابقة لما مر لأننا عرفنا مكان المرور (الحالة الأولى).
لكن في الحالة الثانية لما فتحنا الثقبين معا – خصوصا للماء والإلكترونات- لم ندرِ من أي ثقب سلكت جزيئات تلك المواد – طبعا ليس الرصاص ضمن هذه المواد لأن الرصاص لا موجه مصاحبة معه لأنه جسم مادي يخضع للفيزياء التقليدية، لكن الإلكترونات والماء ذات أمواج فعند فتح الثقبين معا لم ندرِ من أي ثقب عبرت لذلك كان الكمية على الجدار العاكس تختلف عما عبر.
هذا يقودنا إلى استنتاج مهم أنه لما علمنا – رصدنا ثقب المرور في حالة الثقب الواحد – انهارت دالة الموجة الاحتمالية المصاحبة للجسم وبالتالي كانت النتيجة حتمية، أما لما لم نعرف – لم نرصد – من أي ثقب عبرت الإلكترونات أو جزيئات الماء – في حالة الثقبين- لم تنهر دالة الموجة الاحتمالية المصاحبة للجسيم فكانت النتيجة احتمالية.
إذن الراصد هو الذي يحدد وجود الظاهرة من عدمها، يقول العالم الأمريكي جون ويلر: "لا تكون الظاهرة ظاهرة حقيقية إذا لم ترصد".
فالراصد الخارجي عن الظاهرة هو الذي يحدد وجودها..
دعونا نفترض – جدلا – أن الكون هو ذلك الالكترون الذي مر خلال الثقبين أو أن وجود الكون هو هذه التجربة ماذا نجد؟
أليس الكون موجودا؟ وله ظهور؟ فمنْ رصده؟
يعني أن راصدا خارجيا – ليس نحن طبعا ولا من جنسنا – هو الذي رصد الكون فجعل دالة الاحتمال تنهار فكان الكون.
لذلك يقول الفيزيائي ستيفن هوكينج: "لا بد أن يكون هناك كائن خارج الكون يراقبه لكي تنهار الدالة الموجية للكون ليصبح الواقع الذي نشاهده، فبدون هذا المراقب الخارجي سيتبخر الكون إلى دالة احتمال؟!!".
فالحتمية العلمية التي نادى بها رجال القرن السابع عشر الميلادي ومن بعدهم معتمدين على نتائج العلم آنذاك جاء العلم ونظرياته في القرن العشرين لينسفها.
وماذا بعد؟!!
العلم أداة رائعة في تفسير ما حولنا، لكن يجب أن نعرف أن العلم أيضا محدود في تفسير كل شيء، فعالَم الميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) أو الغيب ليس ضمن إدراك العلم، لأن العلم يعجز عن تفسير بعض الظواهر الفيزيائية المعاشة، فكيف عالم الغيب الذي لا يدخل ضمن أنبوبة الاختبار؟!
نظريات علم الفلك ترى أن ما اكتشفناه حتى اليوم من الكون يمثل 5 بالمائة فقط والباقي مادة مظلمة لا ندري عن كنهها أي شيء، وعلوم الأحياء تجد الأعاجيب في شريطD.N.A والهندسة الوراثية وغيرها..
فلا يكفي العلم وحده لتفسير كل شيء حولنا، خصوصا عالم الغيب الذي لا يكون معرفته إلا من خلال الخبر الصادق الذي جاءت به الأديان، وهكذا نحتاج الأداتين معا العلم والدين دون تنطع في أحد منهما ولا تداخل بين التخصصات، وتحضرني هنا مقولة للعالم الفيزيائي العظيم ألبرت آينشتاين: "العلم بلا دين أعرج، والدين بلا علم أعمى".
وأهم من ذلك، قول الله عز وجل: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، الإسراء، الآية ٨٥
المراجع
- ستيفن هوكينج، تاريخ موجز للزمان، ترجمة: مصطفى إبراهيم فهمي (القاهرة: إصدارات مكتبة الأسرة، 2001).
- أسامة علي الخضر، القرآن والكون (صنعاء: الهيئة العامة للكتاب، 2004).
- هارون يحيى، خديعة التطور، ترجمة: سليمان بايبارا (بيروت: مؤسسة الأجيال للتأليف والترجمة والنشر، 2002).
- بول ديفيز وجون جريبين، أسطورة المادة، ترجمة: علي يوسف علي (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 1998).
- مصطفى محمود، أينشتاين والنسبية (القاهرة: دار أخبار اليوم، 2009).
البريد الإلكتروني: abdualamri.75@gmail.com
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة