كثيراً ما يحدث من حين لآخر، قفز للفيروسات من نوع من العوائل إلى آخر، وفي تلك الحالة يطلق عليها فيروسات متفشية، وبذلك يكتسب الفيروس مدى عوائلي كبير، وقد يساعد ذلك في مصلحة بقاء ووجود الفيروس. من أجل ذلك إستطاع الإنسان القضاء على الفيروسات التي تصيب الإنسان فقط، مثل فيروسات الجدري وشلل الأطفال. في المقابل يواجه الإنسان صعوبة كبيرة في القضاء التام على الفيروسات المشتركة مع العوائل الأخرى، أي تصيب الإنسان وبعض الحيوانات.
الفيروسات المتفشية أوالوبائية أو التي تسبب الجائحات، هي فيروسات تستهدف عموماً، وتصيب الحيوانات البرية مثل الخفافيش ولا تمرضها. أي أن هذه الحيوانات تمثل مستودعاً للفيروسات، وقد لا تنتج عن إصابتها بها أعراضا شديدة، أي لاتسبب لها أمراضا قاتلة. وغالباً ما يحدث كل عام تفشي لأحد تلك الفيروسات، خاصة عندما تنتقل إلى أحد الحيوانات الأليفة المنزلية ومنها للإنسان، ومن هنا تعتبر نقطة إنطلاق وانتشار واسع لهذاه الفيروسات.
تفشي فيروس الإنفلونزا
قد يحدث أن تصيب إحدى سلالات فيروس الأنفلونزا بعض الطيور مثل البط والطيور الساحلية كاللقلاق أو مالك الحزين، وقد تنتقل منها سلالة من فيروس الإنفلونزا تكون قادرة على إصابة الطيور الداجنة، مثل الدجاج. في تلك الحالة، وبعد حدوث تغيير جيني، تكتسب سلالة فيروس الإنفلونزا خلال وجودها في الدواجن القدرة على إصابة خلايا الإنسان، وينتج عنها ظهور سلالة جديدة تربك جهاز المناعة في الإنسان، مما قد يترتب عليه الكثير من التداعيات التي تمثل خطورة على البشر، والتي تتمثل في صورة وبائيات أو جائحات، مثل سلالات H7N9 و H5N1.
تفشي إنفلونزا الخنازير
إذا حدث وأصيبت الخنازير بأكثر من سلالة من فيروسات الإنفلونزا في وقت واحد، ولأن الخنازير تمثل النموذج والبيئة المثالية التي تحدث فيها عملية خلط سلالات الإنفلونزا، مما يترتب على ذلك ظهور سلالات جديدة من فيروسات الإنفلونزا، وذلك بسبب إحتواء خلايا الخنازير على مستقبلات تشبه كثيراً تلك الموجودة في خلايا الإنسان.
ما يمثل خطورة كبيرة في تلك الحالات، هو ما يحدث عندما تصاب الخنازير بسلالتين مختلفتين من الإنفلونزا في وقت واحد، مثل إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الثدييات، فتخرج نتيجة ذلك سلالات تسبب جائحات كبيرة. وباء الإنفلونزا الذي تفشى عام 1957 و1968، كان نتيجة حدوث عملية خلط بين أجزاء من الجينوم أو إعادة التشكيل الجيني للفيروس لسلالتين مختلفتين من الإنفلونزا، هما إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الإنسان.
تفشي فيروس نيباه Nipah virus
ينتمي فيروس نيباه إلى مجموعة فيروسات هينيبا ضمن عائلة باراميكسوفيريدي، وتحوي العديد من السلالات الفيروسية التي تتواجد في حيوانات مثل الثعالب الطائرة الموجودة في آسيا وجزر أوقيانوسيا وكذلك في إفريقيا.
في بريسبان بأستراليا ظهر في عام 1994 مرض فيروسي غامض يصيب الخيل، وسمي المسبب له بفيروس هيندرا، وسرعان ما انتقل هذا الفيروس للطبيب البيطري الذي كان يشرف على علاج الخيل، مما أدى إلى وفاته. وعرف المصدر الذي انتقل من خلاله هذا الفيروس الأصلي، وهي خفافيش الفاكهة. بعد مرور أربع سنوات، تم تعريف فيروس هيندرا وأطلق عليه اسم نيباه. بعد ذلك، تفشى هذا الفيروس أيضاً في مزارع للخنازير بماليزيا، وأسفر عن ذبح مليوني خنزير.
وفي عام 2001 حدث تفشي آخر لفيروس نيباه في بنجلاديش، لزن من عاداتهم ترك أواني تخمير عصير البلح معلقة على النخيل، مما يسهل تلوث تلك الأواني بالفيروس من خلال بول الخفافيش، ومن ثمّ ونتيجة لتناول هذا المشروب الملوث يصاب الإنسان بهذا الفيروس. حتى ذلك الوقت، لم يثبت إنتقال هذا الفيروس بين البشر بدون وسيط.
في عام 2018 حدث تفشي آخر لفيروس نيباه في الهند، ولأول مرة انتقل الفيروس من الإنسان للإنسان عن طريق الإتصال اللصيق بين الناس بعضهم البعض، مما أعطى فرصة لانتقال الفيروس من الشخص المصاب لغيره من الناس.
أحد القرويين بولاية كيرالا الهندية عمره 27 عاماً أصيب بالفيروس، ويعتقد الباحثون أن الفيروس إنتقل إليه عن طريق لعاب أو بول خفافيش الفاكهة، ثم وبعد إكتشاف الإصابة تم نقله للمستشفى بالولاية ومنها إنتقلت العدوى الفيروسية إلى تسعة أشخاص منهم مرضى نزلاء بالمستشفى وعاملين بالأطقم الطبية، وكذلك لزائرين من أقارب المريض. وبعد نقله لمستشفى آخر، نقلت العدوى الفيروسية إلى هناك أيضاً. توفيت 21 حالة من أصل 23 حالة مصابة بفيروس نيباه، وتمثلت مظاهر الإصابة في اضطراب شديد وخلل في وظائف الجهاز التنفسي إضافة إلى إلتهاب المخ.
الخفافيش تهدد بجائحة جديدة
عن دور الخفافيش في تفشي فيروس نيباه، كتبت "هاربيت مونستابل" التقرير التالي على موقع بي بي سي عربي في 15 يناير 2021. لكن الخفافيش في المقابل تقوم بدور كبير في الحماية من أمراض أخرى خطيرة. أي أن التخلص من الخفافيش سوف يؤدي إلى خلل في التوازن البيئي وسوف يمهد لتغول أنواع أخرى من الكائنات قد تكون خطيرة، أو قد يتسبب في إختفاء أنواع تعتمد على الخفافيش في غذائها. وفيما يلي بعض ما جاء في تقرير هاربيت:
"…. تعد آسيا بؤرة للكثير من الأمراض المعدية الناشئة المكتشفة مؤخرا لأسباب عديدة، منها أن المناطق الاستوائية التي تتميز بثرائها بالتنوع الحيوي، تغص بمسببات الأمراض التي تهيء الفرص لظهور فيروسات جديدة. وأسهمت الزيادة السكانية وتزايد فرص الاحتكاك بين البشر والحيوانات البرية في هذه المناطق في زيادة مخاطر انتقال العدوى.
فقد اكتشفت واشارابلوسادي وزملاؤها الكثير من الفيروسات الجديدة في العينات التي جمعوها من آلاف الخفافيش، وكان معظمها فيروسات كورونا، لكنهم اكتشفوا أيضا فيروسات فتّاكة قادرة على اجتياز الحاجز بين الفصائل والانتقال إلى البشر، منها فيروس "نيباه"، الذي تعد خفافيش الثمار العائل الطبيعي له.
وتقول واشارابلوسادي: "هذا الفيروس مصدر قلق كبير لعدم وجود علاج له حتى الآن، ومعدل الوفيات الناجم عن الإصابة به مرتفع". إذ يترواح معدل وفيات فيروس نيباه بين 40 في المئة و75 في المئة، بحسب المكان الذي يتفشى فيه.
وفي كل عام تستعرض منظمة الصحة العالمية قائمة بمسببات الأمراض التي قد تسبب طوارئ صحية عالمية لتحديد أي هذه الأنواع سيكون له الأولوية في البحث والتمويل. وتركز المنظمة على مسببات الأمراض التي تشكل تهديدا كبيرا لصحة البشر والتي قد تتحول إلى جوائح، والتي لا يوجد لها لقاح بعد. وقد وضعت فيروس نيباه ضمن مسببات الأمراض العشرة الأولى في هذه القوائم.
وقد تعزى خطورة فيروس نيباه لأسباب عديدة، منها أن فترة حضانة هذا الفيروس قد تصل إلى 45 يوما، مما تتيح له الفرصة للانتشار الواسع، لأن المصاب لن تظهر عليه أية أعراض خلال تلك الفترة. وقد يصيب عددا كبيرا من الحيوانات، وهذا يزيد احتمال انتشاره. وقد تنتقل العدوى إما عبر الملامسة المباشرة أو عبر تناول أطعمة ملوثة بالفيروس.
وتتراوح أعراض المرض من متلازمة تنفسية والتهاب الحلق وآلام في الجسم وتعب عام والتهاب الدماغ، الذي يسبب نوبات التشنج ويفضي غالباً إلى الموت.
تغيير العالم
تزايدت فرص الاحتكاك بين البشر والخفافيش بالتوازي مع النمو السكاني الذي دفع البشر لتغيير كوكب الأرض وتدمير المواطن الطبيعية للحيوانات البرية من أجل تلبية الطلب على الموارد. وكل هذا أدّى إلى انتشار الفيروسات حيوانية المنشأ.
كتبت "ريبيكا وايت وأورلي رازغور" من جامعة إكستر: "إن تغيير استخدامات الأراضي، عن طريق إزالة أشجار الغابات والزحف العمراني والتوسع الزراعي، يساعد في انتشار مسببات الأمراض حيوانية المنشأ ويزيد مخاطر انتقالها إلى البشر”.
ويعيش 60 في المئة من سكان العالم في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث تسارعت وتيرة الزحف العمراني على الأراضي الزراعية. وقد تسبب تدمير المواطن الطبيعية للخفافيش في إصابة البشر بفيروس نيباه في الماضي. ففي عام 1998، تفشى فيروس نيباه في ماليزيا وراح ضحيته 100 شخص.
وخلصت دراسات حديثة إلى أن حرائق الغابات وموجات الجفاف أجبرت الخفافيش على الانتقال من مواطنها الطبيعية إلى أشجار الفاكهة التي كانت تنمو في المزارع التي تربى فيها الخنازير.
وأشارت دراسة إلى أن الفيروسات التي تؤويها الخفافيش تزداد كلما تعرضت للضغوط. ولهذا فإن إجبارها على الانتقال من مواطنها الطبيعية واحتكاكها بأنواع لم تحتك بها من قبل، قد ساعد على انتقال الفيروس من الخفافيش إلى الخنازير ومن ثم إلى المزارعين. وتعاني آسيا أيضا من ارتفاع معدلات إزالة أشجار الغابات، وفقدان التنوع الحيوي. وقد دمرت مساحات كبيرة من الغابات من أجل تكثيف إنتاج بعض المنتجات، مثل زيت النخيل، أو إقامة مناطق سكنية أو لتربية المواشي.
الغابات في آسيا
في آسيا، ومن أجل التوسع في زراعة محاصيل مثل النخيل وغيره، ارتفعت معدلات إزالة أشجار الغابات حيث تعيش الخفافيش في الغالب في الغابات الكثيفة التي تكثر فيها أشجار الفاكهة. وعندما تدمر مواطنها الطبيعية، قد تبحث عن حلول بديلة، وقد تستوطن المنازل أو أبراج المعابد.
لقد أدركنا الآن، أن الخفافيش كانت مصدرا لأمراض خطيرة، ليس نيباه وكوفيد-19 فحسب، بل أيضا إيبولا ومتلازمة الالتهاب التنفسي الحاد والوخيم "سارس”. غير أن القضاء على الخفافيش قد يزيد الأمر سوءا. وتقول تريسي غولدستاين، مديرة مختبر "وان هيلث إنستيتيوت": "تؤدي الخفافيش أدوارا غاية في الأهمية للبيئة"، فهي تلقح أكثر من 500 نوع من النباتات، وتتغذى على الحشرات، وتساهم بذلك في مكافحة بعض الأمراض التي قد تصيب البشر، إذ تحد من انتشار الملاريا من خلال تناول البعوض. وتشير إلى أن قتل الخفافيش قد يؤدي إلى أثر عكسي، وتقول: "إن المجتمعات الحيوانية عندما تقل أعدادها تتكاثر، وبذلك ستزداد مخاطر انتقال الأمراض إلى البشر. لأن القتل يؤدي إلى زيادة أعداد الحيوانات الناقلة للفيروسات”.
للمزيد .. تابع قراءة المقال
البريد الإلكتروني: redataha962@gmail.com
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة