مقتطفات حديث صادق ولطيف عن تجربة شخصية عاشها المؤلف بكل تفاصيلها في بداية حياته، يرويها لنا في آخر سنوات عمره بعد أن ألبسها حكمته وعصارة فكره وتجربته.
عندما كنت طفلا أنمو في حيفا في فلسطين، كان من البديهي بالنسبة إليّ أن حياتنا كانت متداخلة في شباك العلم وتطبيقاته ونواتجه. ولم تلّم المدرستين الابتدائية والثانوية في حيفا العلوم، ومع ذلك فإن الأحداث حولي حدثتني بقصة مختلفة. لم يكن أحد من عائلتي يعرف الكثير من العلم، أو يأبه لذلك، كما لم يكن هنالك مكتبات لاستعارة كتب منها، ماعدا مكتبة المركز الثقافي البريطاني التي لم يكن فيها قسم للأطفال.
ولم يكن بمقدور الأطفال أو الراشدين أن يتجنبوا رؤية أننا "السكان الأصليين"، نفتقد القدرة على مقاومة "التسونامي" الذي كان يغمرنا وما حولنا.
وبالرغم من أننا لا نملك أي سلاح، فقد تم تفتيش منزلنا عدة مرات من قِبل الجنود البريطانيين. وقد انزعجت والدتي كثيرا، ولكن لم يكن بإمكانها أن تفعل أي شيء ما عدا أن تنادي والدي، الذي هو أيضاً لم يكن يستطيع أن يفعل شيئاً لوقف هذا التعدي على حرمتنا. وهكذا عندما بلغتُ سن الثامنة كنت قد أصبحت معتاداً على حسّ عميق بالعجز.
من البديهي أن العرب في فلسطين كانوا يفتقدون قدرات هامة، ما جعل من الممكن لآخرين أن يغزوا بلدنا ويدمروا طريقة حياتنا.
وفي أحد الأيام قالت أم أحمد- وهي امرأة كانت تزودنا بلبنها اللذيذ من حليب الماعز- إن الجنود البريطانيين أتو إلى قريتها في اليوم السابق وأطلقوا الرصاص عمداً على ولديها اللذين ركضا إلى المنزل من الحقل ليريا ماذا كان يجري في قريتهم. ثم قام الجنود البريطانيون بتدمير كل كميات الغذاء التي كان القرويون يمتلكونها في منازلهم. كانت عاجزة عن فعل أي شيء، كلنا كنا عاجزين.
عندما انضمت إيطاليا إلى ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، توسعت مساحة الحرب إلى شمال أفريقيا، واحتل الإيطاليون اليونان. وهكذا أصبحت حيفا، التي كانت محطة حيوية للنفط العراقي، هدفاً استراتيجياً هاماً للطائرات الحربية الإيطالية.
وفي يوم مشمس طارت طائرتان قاذفتان إيطاليتان فوق خزانات النفط قرب مدينة حيفا وألقتا قنابلهما. كانت القوات البريطانية غير مستعدة للهجوم، ولم يكن لديها أسلحة مضادة للطائرات لترد الهجوم. وفي الواقع، كما أذكر، استمرت النيران مشتعلة لأشهر، لأن البريطانيين في ذلك الوقت لم يكونوا يمتلكون حتى الوسائل التي تمكنهم من إخماد مثل هذه النار العظيمة.
وعندما وصل الألمان إلى العلمين زادت الأهمية الاستراتيجية لحيفا بشكل هائل؛ فقد نُقلت هيئة أركان الأسطول البريطاني في شرق المتوسط من الإسكندرية إلى حيفا.
ولم تحاول القوات الجوية الإيطالية أن تهجم مجدداً على حيفا بعد أن أحضر البريطانيون دفاعات متواضعة ضد الطائرات. لكن القوات الجوية الألمانية قامت بهجمات مذهلة على الأسطول البريطاني المتجمع في خليج حيفا. كنا نراقب لساعات المعارك بين الأرض والجو، بين البحرية البريطانية والقوات الجوية الألمانية. كانت مشاهدة مذهلة لأنواع مختلفة من التكنولوجيات والشجاعة والمهارة.
محاولات بطولية متعددة للطيارين الألمان، ومقاومة لا تمل من البحرية البريطانية أدت إلى إسقاط طائرة، ولكن لم تغرق أية سفينة. هذه الملاحظات ليست مبنية على تفحص أي تقرير عسكري، ولكن بالأحرى على المراقبة المباشرة مني وأنا أجلس على الشرفة التي تمتلك منظراً بديعاً لخليج حيفا. وبالطبع حُرمت بعد ذلك من المنزل ومن المنظر.
وقد علمتني تلك الاستعراضات للقوة ما كنا نفتقده للدفاع عن أنفسنا. كان من الواضح أن القيادة الفلسطينية التي تسعى إلى إيجاد طريقة لتجنب تدمير بلدنا، لم تكن تدرك طبيعة القدرات الصناعية. وحيث أن مجتمعي كان يمتلك معلومات ضئيلة عن طبيعة القدرات الصناعية، فقد فشل في اتخاذ الإجراءات المناسبة لامتلاك المعرفة عنها حتى يخفف – على الأقل – من القدرة التدميرية للفجوة التكنولوجية مع الخصوم.
وقد فرحنا عندما علمنا أن جامعة الدول العربية قد تشكلت، وأن الدول العربية كانت قلقة حول ما يجري في فلسطين. ولكننا لم نكن ندرك أن قيادات الدول العربية لم تكن بوضع أفضل من قياداتنا في فلسطين.
كانت المرحومة زوجتي متخصصة في تاريخ دول الخليج العربي. وقد كتبت كتاباً سجلت فيه، كم كان سكان الخليج العربي رائعين ومساندين للفلسطينيين. ولكن للأسف كان سكان الخليج حتى أكثر عجزاً عمّا كنا عليه نحن في فلسطين. وبالرغم من إيمانهم بالعدالة وجهودهم المستمرة على امتداد سنوات عديدة، فقد كان تأثيرهم محدوداً في الأحداث التي وقعت. فالحكومات العربية كانت ومازالت لا تقيّم طبيعة القدرات الصناعية.
وقد نتج عن دروس الطفولة هذه، عن السيطرة العلمية الطاغية، رغبة في أن أكرس نفسي للعلم حتى أستطيع أن أغير الظروف في البلدان العربية. ودرس فلسطين هو أن لا أحد يستطيع أن يثق بأي شخص آخر. فالالتزامات الأمريكية والأوروبية، …الخ للمبادئ الأكثر أساسية في العدالة هي مزيفة عندما يتعلق الأمر بهم كأشخاص.
والمشكلة في العلم هو أنه محايد بالنسبة إلى القيم. إنه ببساطة معرفة جميلة. فالدول والمجتمعات والأمم عليها أن تستنتج القيم والأخلاق من أماكن أخرى. لكن امتلاك القيم بدون علم لا يوصل إلى مكان. وامتلاك العلم بدون قيم يوصل إلى ألمانيا النازية ووعد بلفور والإمبريالية.
وما يتعلمه المرء أيضاً هو أن العلم هو البداية وليس نهاية في حد ذاته. وإذا لم يتعلم مجتمع ما كيف يدير قضاياه السياسية – الاجتماعية والثقافية – الحضارية بحيث يكون قادراً على استدامة ثقافة تكنولوجيا خلّاقة، فإن المجتمع لن يكون قادراً على تحمل متابعة التعلم العلمي، ولا على تعلّم كيف يستفيد من التكنولوجيا المرتبطة بالعلم.
والمجتمع الذي يعيش في ظل الهيمنة، والمبادئ الطائفية، وعدم المساواة بين الرجل والمرأة، والفساد، لن يستفيد من التكنولوجيا ولن يحقق وطنا آمنا.
والتحديات التي برزت من الثورة الصناعية والتطورات التي تلتها تشير إلى أن كل عضو في المجتمع هو مهم. ولهذا، فحتى يستطيع مجتمع ما أن يدافع عن نفسه، عليه أن يسعى إلى تحقيق تربية جيدة لأطفاله وخدمات صحية عالية الجودة لجميع سكانه. وعلى المجتمع أن يُثبّت مبادئ اقتصادية تمكن كل مواطنيه من اكتساب ما يكفي ليكونوا قادرين على العيش بكرامة وليساهموا في استمرارية مجتمع عادل ومنصف.
إن العلم والتكنولوجيا هما مدخلات حيوية؛ ولكن بدون العدالة وحقوق الإنسان يصبح العلم والتكنولوجيا أدوات للقمع والاستغلال والإفقار.
سواء أعجبنا ذلك أم لا، فإن مسؤولية إنقاذ أنفسنا تقع على كل أعضاء المجتمعات. وأولئك الذين يفشلون في أن يتنبهوا ويدركوا التحديات محكوم عليهم بالإخفاق. وأولئك الحاذقون الذين يتعلمون بسرعة كيف يقهرون ويستغلون سوف يستفيدون حتماً على المدى القصير.
والسبب الذي جعلني أعطي كل هذه المعلومات هو ببساطة لتوضيح حقيقة أن المرء لا يحتاج إلى تربية في كلية جامعية ليدرك أن العلم موجود في كل مكان حولنا، وبأنه قوة لا تقاوم، ولا بد من تمكين المرء لاستخدام هذه القوة بشكل تنافسي وفعّال. والتحدي هو كيف يستطيع المرء أن يكون متمكناً.
المرجع:
كتاب العلم والسيادة للدكتور أنوان زحلان
https://www.arsco.org/ebook-detail-252-3-0
البريد الإلكتروني: info@arsco.org
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل
أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة