هناك الكثير من الطقوس المختلفة التي تتبعها الحيوانات أثناء أو بعد عملية التزاوج. وبعض هذه الطقوس راقية وعذبة ورومانسية وبعضها جاف جدا وقاسي، وقد تصل إلى درجة القتل. وعادة ما يكون سلوك القسوة هذا من طرف الأنثى تجاه الذكر أو من الذكر تجاه الأطفال. ويعطي العلماء العديد من التفسيرات لهذا السلوك العدائي وإن كانت بعض التفسيرت لا تزال غير مقنعة لنا نحن البشر. وفي نفس السياق من الممكن ذكر أن هناك قلة من البشر أيضا ممن لديهم أساليب يمكن وصفها بالقسوة أثناء اللقاءات الحميمية، والتي بالطبع تصنّف ضمن السلوك الشاذ.
فعلى سبيل المثال، أنثى النحل تهيمن على النظام الاجتماعي الأنثوي لخليتها. فالملكة والعمال هن جميعاً من الإناث حيث يتم اختيار الملكة الأم وتقوم النحلات العاملات بالعناية بها وبالخلية. أما الذكور فلا يوجد لهم أي دور سوى التكاثر الجنسي. وفي اللحظة نفسها التي يُتِم فيها الذكر دوره بعملية التلقيح فإنه يموت على الفور.
وكذلك أنثى الأخطبوط قد لا تميز بين شريكها وعشائها. فقد شوهد في بعض الحالات، تقوم أنثى الأخطبوط بعد أن تنتهي عملية التزاوج بينها وبين الذكر بسحب الأخير إلى وكرها كي تتغذى عليه بعد خنقه عبر مجساتها القوية.
وفي الفئران، لوحظ في الغابات الأسترالية على مدار أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع في مستهل الربيع، أن ذكور فئران (من نوع أنتيشينوس) الصغيرة تنضح بالشقاوة الجنسية، حيث تستطيع هذه الجرابيات الصغيرة ممارسة الجنس لمدة تصل إلى 14 ساعة متواصلة. وخلال هذه الفترة يكون ذكور هذا الجنس اليائسون والذين لا يتعبون مستعدين لممارسة الجنس مع أكبر عدد ممكن من الإناث، حيث تستمر في ممارسة الجنس حتى يسقط فرائها عن جلدها، وتنهار أجهزتها المناعية ويتخثر الدم حول أعضائها الداخلية. وفي أوج العملية الجنسية الانتحارية هذه، يقوم ذكر فئران (أنتيشينوس) بالانهيار والتحلل حرفيًا، حيث يدفع بنفسه إلى الجنس حتى الموت، ولا يتمكن حتى من العيش ليرى عيد ميلاده الأول. وقد يبدو التناسل الانتحاري طريقة غبية في ضمان استمرار الجينات من جيل إلى آخر، ولكن قد تكمن فلسفته في التغلب على منافسة الذكور بعضها البعض في سباق التكاثر لإنجاب أكبر عدد ممكن من الصغار.
ومصطلح "التخصيب الجارح" اختاره العلماء لوصف عملية الجنس (الطاعنة) الخاصة ببق الفراش من جنس Cimex عندما يكون الذكر في مزاج يسمح له بالتكاثر. يقوم الذكر بمطارحة الأنثى التي لم يمض وقت طويل على غذائها. ثم يقوم بغرس قضيبه الحاد الذي يشبه الإبرة في شكله مباشرة في بطنها، فيقذف داخل الجرح المفتوح متجاوزا مسارها التناسلي الذي يعمل بشكل مثالي والذي تستخدمه في خروج البيض فقط. وهنا يجد السائل المنوي طريقه عبر متاهة من الأنسجة اللمفاوية (دم الحشرات) وصولا إلى المبايض، وهناك يعمل على تخصيب بيوض الأنثى التي تدخل في فترة نقاهة لتشفى من هذا التلقيح القاسي.
ومن خلال وصفها تبدوا هذه العملية الجنسية على قدر من العنف. وهذه حقيقة حيث أن معظم الإناث تموت أثناء ذلك متأثرة بإصاباتها أو الالتهابات والعدوى الناجمة عن الجرح المفتوح. ولكن بعض الإناث تملك بعض الحيل لمساعدتها على النجاة، مثل صناعة ما يسمى بالهيكلة التناسلية التي يطلق عليها اسم Spermalege، والتي تساعد على تسريع عملية الشفاء وتقوية الجهاز المناعي. وفي بعض الحالات، قد تتوقف الأنثى عن العملية الجنسية قبل أن تبدأ من خلال التدحرج إلى الأمام مستلقية على بطنها مما يجعل الوصول إلى بطنها صعبا على الذكر.
ومن العجيب أن حشرة Neotrogla barklice صغيرة الحجم والتي لا يتعدى حجمها حجم البراغيث وتعيش في كهوف جنوب البرازيل، مشهورة بكون أجهزتها التناسلية معكوسة بشكل صارخ. فالإناث تحمل أعضاء تشبه القضيب يطلق عليه اسم (جينوسوم) والتي تستخدمها لاختراق الأعضاء التناسلية الذكرية التي تشبه المهبل خلال العملية التناسلية. وتدوم هذه العملية الجنسية المعكوسة والغريبة بين حوالي 40 إلى 70 ساعة حيث تقوم فيها الإناث بإقحام (الجينوسوم) خاصتها داخل العضو التناسلي الذكري الذي يشبه المهبل وتقوم بشفط السائل المنوي منه. كما أن السائل المنوي الخاص بهذه الحشرات لا يقوم فقط بتخصيب بيوض الأنثى، بل أنه يقوم بتغذيتها طوال مدة التزاوج هذه. وإلى هذا الحد لا توجد مشكلة، ولكن المشكلة للذكر تأتي عندما تقوم الأنثى بتثبيت نفسها خلال العملية الجنسية الطويلة هذه، حيث تثبت الأنثى جسمها داخل جسم الذكر من خلال الأشواك التي تزيّن عضوها التناسلي (الجينوسوم). العجيب أن هذا التثبيت الجنسي يكون قويا جدا لدرجة أن محاولة الفصل بين الذكر والأنثى غالبا ما تنتهي بتمزيق الذكر إلى نصفين.
وتشتهر أسماك أبو الشص التي تعيش في أعماق البحار بإناثها ذات الحجم الكبير والأسنان الحادة وذات الضوء المتوهج الذي تستخدمه لاستدراج فرائسها. أما ذكورها، فهي صغيرة الحجم ولا تمتلك القدرة على بعث هذا الضوء المتوهج، مما يجعل من الصعب جدا التقاط الصور لها. ومن بين بعض أنواع أسماك أبو الشص، يوجد نوع يسمى Ceratiidae "شيطان البحر"، والتي لا يتجاوز ذكورها كونهم عبارة عن أكياس حيوانات منوية متنقلة مع خياشيم. تولد ذكور هذا النوع في الظلام، وهي تشق طريقها في ظلام أعماق البحر لأداء واجبها وغرضها الوحيد من الحياة وهو العثور على أنثى والتزاوج معها. هذه الأنثى هي التي يتمكن الذكر من رصدها من خلال توليفة من الفيرمونات وتوهجها الفريد في الظلام. وفي بعض الحالات، يكون الذكر قد تطور بشكل سيئ لدرجة أنه لا يكون مجهزا حتى بنظام هضمي كامل، ويموت منه %99 وهي عذارى جائعة. أما 1% المتبقي فبمجرد أن يعثر على الأنثى المنشودة، يقوم بضغط فمه على جانب جسمها ويبدأ بالتحلل لاحمًا جسمه وجسمها مع بعضهما البعض. وفي هذه اللحظة الفريدة والمأساوية تذوب أعضاء الذكر وتتحلل حتى لا يبقى منه سوى الخصيتان المزودتان بخياشيم. تستطيع بعض إناث هذا النوع حمل حوالي 6 ذكور على أجسامها دفعة واحدة، ثم تتزود بسوائلها المنوية عند الحاجة. فالذكر في هذا النوع من الأسماك مجرد هيونات قزمة وظيفتها فقط حمل الحيونات المنوية للأنثى.
بالنسبة للسراعيف المفترسة، قد يكون التزاوج مميتا للغاية، وذلك لأن إناث هذا النوع تتغذى على ذكوره حرفيًا. يقوم ذكر السرعوف بملاحقة الأنثى وتعقبها بطريقة مهووسة قبل وقت قصير من حلول فصل الشتاء الذي يواجه فيه موتا محتوما وبطيئا. ربما كان هذا هو السبب الذي يجعله لا يمانع الخيار الثاني: ألا وهو أن يُقطع رأسه ويتم أكله من طرف الأنثى في خضم العملية التناسلية. وفي هذه العملية المأساوية تبدأ الأنثى بأكل رأس الذكر أولا، وذلك لأن ذكور السرعوف تستطيع مواصلة العملية الجنسية بدون رؤوسها. وبينما يبدأ الذكر في الموت، ينقبض بطنه مما يضخ السائل المنوي داخل شريكته ومنه تعزيز إمكانية التناسل بنجاح. وعندما تنتهي العملية الجنسية، تقوم الأنثى بابتلاع جثة الذكر وبقاياه. وقد يكون السبب وراء تحول إناث هذا النوع إلى آكلات لحوم بني جنسها وسط العملية الجنسية أن الجنس يتطلب الكثير من الطاقة. ويمثل استهلاك الشريك الجنسي مصدرا عظيما للغذاء والطاقة التي تقوي قدرتها على إنتاج بيوض مخصبة.
وقد يكون أكل الشريك أو جزء منه حالة من التشويه المتعمد لقضاء فترة أطول في التزاوج أو لمنع جذب الآخرين. فعلى سبيل المثال، ذكور وإناث صراصير الخشب هي واحدة من الأزواج القلائل الذين يعتقد أنهم يظلون في حالة تزاوج جنسي مدى الحياة. فما هو السر وراء هذا الحب طويل الأمد؟ المفاجأة كانت أنهم يأكلون أجساد بعضهم البعض لإطالة فترة التزاوج، وليس بسبب الجوع.
في بحث حديث أُجرى في المختبر، وجد باحثون من قسم البيولوجيا بجامعة كيوشو باليابان (Haruka Osaki Eiiti Kasuya and) ان الصراصير الآكلة للخشب من نوع (Salganea taiwanensis) تختبئ على أجنحة بعضها البعض لعدة أيام متتالية بعد الجماع ، وتتناوب على قضم أجنحة كل منهما الآخر قطعة تلو الأخرى حتى تلتهمها تماما. وقد وجدوا أن أكثر من 99% من آباء وأمهات الصراصير يمتلكون أجزاء ممضوغة للأجنحة، مما يشير إلى أن هذه الممارسة شائعة.
فعلى مدار ثلاثة أيام متتالية جمع الباحثان عينات برية من غابات اليابان، وقد صوروا 24 زوجًا من الحشرات لمعرفة ما تفعله هذه المخلوقات ولماذا؟ ووجدا أن الصراصير تظل معظم الوقت بعد التزاوج تأكل أجزاء من الأجنحة .ويظل الصرصور الذي يتم أكله في اللقطات بلا حراك تمامًا. في أكثر من ثلث حالات التزاوج يقوم الصرصور المستلم بهز جسده بعنف يمينًا ويسارًا، الأمر الذي قد يدفع رفيقه في بعض الأحيان للتوقف. أما في باقي الحالات فقد وجدا أن الصراصير تستمر في قضم الأجنحة حتى اختفت الأجنحة الأربعة تمامًا.
وأكل الحيوانات الجنسي ليس أمرًا غريبًا بالنسبة للحشرات، ولكنه عادة ما ينطوي على أكل الإناث للذكر بطريقة مميتة. والعكس نادر، والتغذية المتبادلة فريدة تمامًا. ولذلك يمثل هذا البحث إضافة رائعة لما يحدث لسلوك بعض الحيوانات أثناء التزاوج. ومع أن نتائج هذه الدراسة جاءت من بحث في المختبر وأنه لم يتم ملاحظة مثل هذه العلاقة للصراصير في بيئتها الطبيعية، إلا أن الباحثين فسرا هذا السلوك بأنه من المؤكد مفيد لهذه الحشرة. فلو لم تكن هناك فائدة لكلا الشريكين، فمن المتوقع منهم إثارة ضجة أكبر قليلاً عندما يقوم شريك بأكل الآخر.
ولذلك فربما يتعلق هذا السلوك من جانب هذا النوع من الصراصير بالاستمالة أكثر منه لتناول الطعام، وذلك نظرًا لأن أجنحة الصراصير ليست مصنوعة من غذاء حقيقي، ومضغ هذه الزوائد ربما لا يوفر قيمة غذائية كبيرة لشريكها. ولذلك فقد يكون هذا السلوك من هذا النوع الخاص من صرصور الخشب بقضم أجنحة شريكه أثناء عملية التزاوج الغرض منه زيادة الفترة الحميمية والبقاء فترة أطول مع رفيقه، حتى يتمكنوا من تربية صغارهم لسنوات متتالية دون الحاجة إلى القلق بشأن الخيانة. فبعد بعد الطيران من مكان ولادتهم والعثور على رفيق الحياة، تتزوج في مكانها وتتغذى الصراصير الآكلة للخشب على أجنحة بعضها ثم تبدأ في حماية صغارها وتربيهم معًا ويتقاسمون عبء الأبوة.
في مثل هذه الأماكن الضيقة التي عادة ما تتزاوج فيها، ربما لا تكون أجنحتها مفيدة للغاية وقد تجعل هذه الزوائد الحشرات أيضًا عرضة للعدوى وإغراءات الصراصير الأخرى فيكون التخلص منها والاستفادة الذاتية منها هو الفلسفة وراء هذا السلوك الصراصيري. وما يؤكد ذلك أن في مرحلة البلوغ، نادراً ما يدخل زوج من الصراصير البالغة التي لا تطير في سجل الزوجين الآخرين. إن مغادرة المنزل ببساطة تحرم الصراصير البالغة من الطعام، وبدون أجنحة طويلة، تكون أكثر عرضة للحيوانات المفترسة.
ولأنه من المحتمل أن تفقد الحشرات أجنحتها في مرحلة البلوغ، ولا تحصل على المساعدة، فإن إزالة أجنحة بعضها البعض يمكن أن يكون سلوك يعبر أكثر عن الحب بين الصراصير من هذا النوع، مما يضمن بقاء الشريك وإخلاصه وقدرته على المساعدة في تربية الصغار لبقية حياتهم. يبدو أن صراصير الخشب هذه قادرة على أكل أجزاء بعضها البعض بمزاج عالٍ ولذة واستمتاع أثناء التزاوج ومن اجل قضاء أطول فترة ممكنة من حالة التزاوج دون الصراع.
المزيد من المعلومات
ملحوظة: الفيديوهات التي تم تسجيلها من قبل الباحثين والتي تبين سلوك الصراصير أثناء التزاوج وقضم الأجنحة موجودة بنهاية البحث، المرجع لهذا المقال.
تواصل مع الكاتب: mohamedlabibsalem@yahoo.com
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل
أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة