يمكننا القول أن اكتشاف المضادات الحيوية في النصف الأول من القرن العشرين كان الحدث الأهم في تاريخ الطب الحديث، فلقد كانت نسبة الوفيات والأضرار الصحية نتيجة الأمراض البكتيرية والجراحات سواء البسيطة أو المعقدة أو حتى حالات الولادة، مرتفعة جداً مقارنة بما بعد المضادات الحيوية. والبكتيريا في الطبيعة يمكنها أن تصيب الإنسان بأمراض عديدة مثل السل والكزاز والتسمم البتيوليني والكوليرا والتيفويد والطاعون والجمرة الخبيثة وإلتهاب السحايا والتولاريميا وإلتهاب اللوزتين والتسمم الدموي والزهري، وجلّها أمراضاً خطيرة إذا لم يبكّر بعلاجها بالمضادات الحيوية المناسبة لها.
ولعل الزهري من تلك الأمراض البكتيرية التي يمكنها أن تكون مزمنة وكامنة داخل المريض وإن لم تعالج في الوقت المناسب يمكن تتفاقم العدوى والأعراض الإكلينيكية وتتطور لتنال من الجهاز العصبي المركزي مسببة ذهان وحالة من شبه فقد للذاكرة وخرف ينتهي بالجنون والموت.
إن بكتيريا اللولبية الشاحبة Treponema palladium هي المسئولة عن الإصابة بالزهري الذي يتطور للزهري العصبي Neurosyphilis وهو مرض ينتقل عبر الاتصال الجنسي، حيث تلتقط العدوى عن طريق طرف مصاب تقفز منه البكتريا لتخترق الأغشية المخاطية الموجودة في جهاز التناسل للطرف الآخر بطريقة ميكانيكية تشبه فتاحة السدادات المطاطية، وتنتقل للعقد الليمفاوية وتتكاثر فيها وفي مجرى الدم حتى تصل للجهاز العصبي المركزي (المخ و النخاع الشوكي) في حالة إهمال العلاج.
قديما وقبل اكتشاف المضادات الحيوية كان يستخدم دواء (سلفرسان) الذي يحتوي على مركبات الزرنيخ العضوية كمادة علاجية فعّالة، لكنه لم يكن ذو جدوى ظاهرة مع الحالات الوخيمة المتأخرة من الزهري العصبي، ناهيك عن سميّة الزرنيخ.
الملاريا مرض طفيلي شرس يصيب الإنسان عن طريق المتصورات (البلازموديوم) وهي طفيليات من البروتوزوا تم اكتشاف ما يقارب 200 نوع منها حتى الآن، أغلبها تصيب الطيور والزواحف والثدييات الأخرى كالرئيسيات، اكتشف المسبب المرضي لها الدكتور الفرنسي ألفونس لافيران في السادس من نوفمبر من عام 1880، ونال جائزة نوبل في الطب عام 1907
ينتقل المرض عبر بعوضة الانوفيلوس للإنسان ولحسن الحظ، فمن ضمن كل تلك الأنواع من البلازموديوم لا يصيب الإنسان منها إلا أربعة أنواع هي :
- بلازموديوم فاليسبارم Plasmodium faliciparm
- بلازموديوم ملاري P. malaria
- بلازموديوم اوفال P. ovale
- بلازموديوم فيفاكس P. vivax
النوع الأول (بلازموديوم فاليسبارم) هو أشرس صور المرض حيث يدخل الطفيل كرات الدم الحمراء في العائل ويدمرها ويتكاثر بداخلها ويسبب ارتفاع شديد في درجة حرارة الجسم في صورة موجات متقطعة زمنياً، ثم يحدث تضخم في الطحال ومشاكل في الكبد . النوع الأخير (بلازموديوم فيفاكس ) – كذلك بلازموديوم ملاري – هو الوجه الحميد من مرض الملاريا حيث لا تتعدى أعراضه ارتفاع درجة حرارة الجسم.
من لطائف العلاج الطبي
عام 1917 لاحظ عالم الأعصاب النمساوي يوليوس فاغنر ياورغ (حاصل على جائزة نوبل في الطب) أن بكتيريا تريبونيما (المسببة للزهري) لا تتحمل ارتفاع درجة حرارة أكثر من 98.6 فهرنهايت أي 37oC، في أنبوبة الاختبار وتموت بعدها، ففكر أن تلك الديناميكية يمكن ومن خلال تطبيقها سريرياً عبر رفع حرارة جسم مريض الزهري، إضعاف بل وقتل بكتيريا الزهري المميتة. شرع فاغنر ياورغ في تطبيق ذلك عملياً عن طريق حقن جسم المريض بطفيل الملاريا راجياً بذلك رفع درجة حرارة الجسم من أجل(سلق) خلايا بكتيريا تريبونيما بالاديوم المستعمرة داخل أنسجة المريض !!
وبالفعل، قام فاغنر ياورغ بحقن مرضى الزهري العصبي بهذا النوع من المتصورات من أجل رفع حرارة الجسم، وبالفعل نجحت تجربته وأظهرت نتائج واعدة لاسيما مع استخدام الكينين أيضاً. فقد بدأ الزهري ينهار تحت وقع درجات حرارة الجسم الداخلية العالية. لقد نجح ياورغ في (سلق) خلايا بكتيريا تريبونيما بالاديوم، وبهذا فقد انقذ أرواح وعقول الكثير من مرضى الزهري العصبي قبل اكتشاف المضادات الحيوية عبر هذه الممارسة الطبية العجيبة.
البريد الإلكتروني للكاتب: sayed.mo333333@gmail.com