في عام 1348، اجتاح وباء يُعرف باسم الموت الأسود العالم وغيّر النظام الاجتماعي والاقتصادي العالمي، كما هو الحال مع فيروس كورونا SARS-CoV-2. وقد أثار ما كتبه طبيب مملكة غرناطة، ابن خاتمة المريني في رسالته عن ذلك الوباء، الباحثَ والطبيب الاسباني مانوال هريرا كارنزا، الذي أمكنه العثور على أوجه تشابه وبائية وسريرية بين الجائحتين. وقد توصل الباحث إلى أن هذا العالم العربي كان أول من وصف فشل الأعضاء المتعدد multiple organ failure أو MOFالذي يعتبر أحد عوامل الوفاة للمصابين بالطاعون وكذلك بالكوفيد-19.
ونشر الباحث الاسباني المختص في الطب المكثف، في المستشفى الجامعي بمدينة ولبة Huelva جنوب اسبانيا ورقة علمية حول ذلك في دورية Medicina Intensiva في شهر يوليو الماضي 2020.
فمن هو ابن خاتمة المريني؟
هو أبو جعفر أحمد بن علي بن محمد ابن علي بن محمد بن خاتمة الأنصاري المري الأندلسي، طبيب من كبار الفقهاء. ولد بألمرية – جنوب الأندلس – عام (700 هـ- 1300 م) وبها عاش وأخذ علومه في مجالس شيوخها حتى غدا من كبار قرائها فتصدر للإقراء في جامعها الأعظم، وكان له مجلس علم يقصده كثير من طلاب العلم الذين تخرجوا بعد أن أجازهم ابن خاتمه. وكانت وفاته عام (770 هـ-1369 م).
شـهد ابن خاتمة ظهور وباء الطاعون الذي اجتاح العالم ووصل الأندلس عام 1348م وتغلغل في أرضها ومدنها، وقد كان يُسعف المرضى والمصابين به ويراقب بكل اهتمام وعناية كيفية انتشاره وانتقاله من فرد لآخر، ويسجل مشاهداته وملاحظاته مما أفاده في دراسة كيفية انتشار هذا الوباء وأسبابه، وقد اعتمد على هذه المشاهدات في وضع نظريته عن هذا الوباء القاتل وسرعة انتشاره وأودعها في كتابه الطبي « تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد» الذي يُعدّ من أهم مؤلفاته.
يقول الباحث الأسباني إن ابن خاتمة المريني اكتشف طريقة العدوى عبر التنفس والتلامس للطاعون Pestis ووصف أعراض الإصابة به وعزاها إلى (نقص التبريد الرئوي للحرارة الفطرية المتولدة في القلب والتي يحملها الدم). وهذه العملية الموصوفة مكافئة لنظام نقل الأكسجين. وتولِّد الإصابة بهذا الوباء مخلفات سامّة داخل الجسم، مثل الجذور الحرة، مما يؤدي إلى فشل الأعضاء المتعدد (MOF)، والذي يعتبر عامل وفاة للمصاب بالطاعون كما في الكوفيد-19 Covid-19.
أوجه تشابه
تسبب الوباء الحالي الناجم عن فيروس كورونا SARS-CoV-2 الذي يعاني منه العالم منذ بداية عام 2020، في إثارة قلق عالمي كبير بسبب تداعيات متنوعة في جميع أنحاء العالم. ويُجمع العلماء والسياسيون اليوم أن هذا الوباء أحدث رجّة عميقة على جميع المستويات ستؤدي إلى تغيير العالم. وهذا المشهد سبق أن وصفه المؤرخ العظيم ابن خلدون (1332-1402) قبل ستة قرون عندما انتشر وباء الطاعون الذي دمر البشرية عام 1348 :
"هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المئة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وأوهن من سلطانه، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها".
لا غرابة، كما يقول الباحث، في تطابق هذا المشهد الذي وصفه ابن خلدون مع المشهد الحالي لأن الطاعون الذي تسببه بكتيريا يرسينيا بيستيسYersinia pestis كان أفظع كارثة ديموغرافية معروفة على الإطلاق، وواحدة من أعظم الكوارث في التاريخ. وقد أطلق عليه أيضًا اسم الطاعون الأسود أو الموت الأسود بسبب التقرحات النخرية المتعددة ونزيف الجلد الذي يظهر على المرضى، مما يعطي الانطباع بأن جلودهم كانت مغطاة بصفيحات داكنة أو سوداء. غزا هذا المرض المخيف أوروبا وآسيا وأفريقيا وأحدث دمارًا في ثلاث قارات وتسبب خلال خمس سنوات (من 1347 إلى 1352) في وفاة حوالي 25 مليون نسمة في أوروبا، أي ما يقرب من ثلث سكانها، وحوالي 40 مليون في قارتي أفريقيا وآسيا.
بالإضافة إلى هذا التشابه في التحليل العام للوضع العالمي الناجم عن كلا الجائحتين، كانت هناك أوجه تشابه أخرى في علم الأوبئة، كما يقول مؤلف الدراسة، وخاصة في المفهوم الفيزيولوجي المرضي للمرض. فقد تم بالفعل اكتشاف العديد من التدابير التي تعتبر حاليا ضرورية للسيطرة على انتشار فيروس الكوفيد-19، مثل عزل المرضى وإجراءات الحجر، خلال وباء القرن الرابع عشر السالف الذكر.
تشخيص ابن خاتمة للمرض وأسبابه ومنشئه
ساهم ابن خاتمة في مجابهة هذا المرض في ألمرية مسقط رأسه، حيث عالج العديد من سكانها وكتب في عام 1349 رسالته "تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد" المعروفة أيضا برسالة في الطاعون، بناء على ممارساته وملاحظاته الشخصية على الأرض إضافة إلى ما دونه الذين سبقوه في هذا المجال. في هذا العمل، سبق ابن خاتمة المريني، كما يقول الباحث الاسباني، التطورات والاكتشافات العلمية التي حدثت في القرنين التاسع عشر والعشرين في نظرية علم الأوبئة وعلم الأحياء الدقيقة، ولا سيما في الجوانب المتعلقة بانتقال المرض.
فقد تحدث العالم العربي عن " أبخرة ملوثة بكائنات دقيقة" تغزو جسم الفرد مسببة المرض وتنتقل من شخص إلى آخر عن طريق الهواء الذي يتم استنشاقه والتلامس مع المريض. إذ كتب ابن خاتمة يقول (ترجمة نقلا عن الاسبانية كما أوردها الباحث):
"وبنفس الطريقة التي يأتي بها الضرر من نَفَس المريض عندما يتنفس، فإنه يأتي أيضا من الأبخرة التي تنبعث من أجسادهم، مع أنهم ليسوا تحت تأثيرها أو عرضة لها، ومن استعمال ملابسهم، ومن الأسرة التي يقضون فيها فترة المرض إذا استعملوا سراويل طويلة أو استمر الاستنشاق. العلم والخبرة يشهدان على كل هذا. […] الهدف من منع(الاتصال) هو الإرشاد لرعاية الأصحاء حتى لا يمرضوا، بحول الله تعالى، عند إحضار المرضى أمامهم، كما هو معتاد".
لقد كتب ابن خاتمة هذا التفسير في الوقت الذي كان الأطباء في الممالك المسيحية في أوروبا وبعض زملائه المسلمين يعتبرون الطاعون ناتج عن اقتران نجمي مصيري أو تسمم غذائي متعمد. بالإضافة إلى ذلك، قام هذا العالم العبقري بإجراء تحقيق وبائيً دقيق لدرجة أنه اكتشف المكان الذي بدأ فيه الوباء في المدينة، وهو الحي الأكثر فقرا في ألمرية، ويحدد أول عائلة مصابة (الحالة صفر). كما حدد العالم الأندلسي موقع أصل الوباء في الصين، مثل الوباء الحالي الذي نعاني منه، ويقول في ذلك:
"وقد اُخُتُلِف في مبدأ هذا الحادث من أين ابتدأ ظهوره، فذكر لي الثقة من تجار المسلمين القادمين علينا بألمرية أن ابتداءه كان ببلاد الخاد وبلاد الخاد بلسان العجم هي الصين على ما تلقيته عن بعض الواردين من أهل سمرقند"
أول من وصف فشل الأعضاء المتعدد MOF
وحول أهمية ما اكتشفه ابن خاتمة في الجائحة التي يعيشها العالم اليوم، يقول الباحث إن طيف الأعراض السريرية للكوفيد-19 يتراوح بين العدوى بدون أعراض وفشل الجهاز التنفسي الحاد. ويتطور لدى نسبة تتراوح بين 10 و20 بالمائة من المرضى المصابين بأمراض خطيرة، فشل الجهاز التنفسي إلى متلازمة الضائقة التنفسية للبالغين (ARDS) بين 8 و14 يومًا من بداية المرض. ومع تقدم المرض، قد تحدث مضاعفات تؤدي إلى فشل الأعضاء المتعدد MOF ، وهو عامل مستقل للوفيات. وفي هذا البعد السريري لـفشل الأعضاء المتعدد من أصل رئوي، توجد مرة أخرى، صلة بين هاتين الجائحتين اللتين تفصل بينهما قرون. وعلى الرغم من الاعتراف بمساهمات ابن خاتمة في علم الأوبئة، إلا أن أصالة نظريته حول الفيزيولوجيا المرضية للطاعون والتشابه المفاهيمي، مع الوصف الأولي للطاعون لم يتم تسليط الضوء عليها حتى يومنا هذا.
تُظهر هذه الدراسة أن المفهوم الفيزيولوجي المرضي لفشل الأعضاء المتعددة، وهو أمر ذو قيمة كبيرة في الطب المكثف المعاصر، كان بالفعل حَدَسا وتوقعا من قِبل ابن خاتمة في القرن الرابع عشر، وهو استبصار رائع وثيق الصلة بنظريته حول العدوى، ويزيد في قيمة تفكيره العلمي. ويقول مؤلفها : إن هذا النموذج الباثولوجي pathogenic model للطاعون الأسود لا يزال مفيدًا اليوم في وباء الكوفيد-19، على الرغم من القرون السبعة التي تفصل بينهما. كما يشير أيضًا إلى أن الطب الأندلسي، حتى في فترة التراجع الجيوسياسي في الأندلس، حافظ على القدرة على الابتكار حتى أنفاسه الأخيرة.
المصادر:
• Regarding pandemics: Ibn Jatima from Almería anticipates the physiopathological concept of multi-organ failure in the 14th century.
• مخطوطة كتاب:" تحصيل غرض القاصد في تفضيل المرض الوافد"
• "المغرب الإسلامي في مواجهة الطاعون: الطاعون الأعظم والطواعين التي تلته"
• arab-ency.com.sy/detail/4057
• www.facebook.com/186938475213002/posts/al-jatima-padre-de-la-epidemiologia-almeriense-universal-ibn-aljatib-en-su-libro/690439378196240/
البريد الإلكتروني للكاتب: gharbis@gmail.com