كشفت دراسة علمية جديدة قام بها باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة محمد السادس في المغرب الأسباب التي تجعل من منطقة البحر المتوسط نقطة ساخنة لتغير المناخ. وقال الباحثون إن جميع النماذج المناخية المختلفة، توصلت إلى نتيجة واحدة مفادها أن المنطقة ستصبح أكثر جفافًا خلال العقود القليلة القادمة. وقدرت الدراسة أن ينخفض هطول الأمطار في الضفة الجنوبية بنسبة تصل إلى 40% خلال فصل الشتاء الممطر.
وكشف التحليل الذي أجراه فريق الباحثين عن الظروف الكامنة وراء هذه الآثار الشاذة في المنطقة، وخاصة في غرب الشمال الأفريقي والشرق الأوسط. وهم يأملون أن يساعد ذلك في تحسين النماذج المستخدمة في استشراف التغيرات المناخية في المستقبل، وجعلها أكثر دقة في توقعاتها، وأن يساعد في تطوير الزراعة وإدارة الموارد المائية في المنطقة مستقبلا.
قام بإنجاز هذه الدراسة، البروفيسور السوداني الفاتح الطاهر أستاذ الهندسة المدنية والبيئية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومدير المعهد العالي التطبيقي المتخصص في دراسات التنمية المستدامة في أفريقيا والتابع لجامعة محمد السادس في المغرب، مع طالب الدراسات العليا ألكسندر تويل، ونشرت في دورية Journal of climate العلمية في شهر يونيو الماضي2020 .
يقول المؤلفون إن النماذج المختلفة لتغير المناخ تتفق على أن درجات الحرارة سترتفع في جميع مناطق العالم، وأن معظم الأماكن ستشهد إلى جانب ذلك زيادة في هطول الأمطار، نتيجة زيادة كميات بخار الماء في الغلاف الجوي الدافئ. لكن هناك استثناء رئيسي واحد لجميع النماذج، إنها منطقة البحر الأبيض المتوسط، التي ستشهد أكبر انخفاض في سقوط الأمطار مقارنة ببقية المناطق في العالم، كما يقول البروفيسور الفاتح الطاهر في بيان نشره معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
كما تتفق النماذج المناخية أيضا حول توقعاتها بانخفاض التساقطات بالنسبة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، إلا أنها تختلف في تقدير قيمة هذا الانخفاض الذي تتراوح بين 10 و60 بالمائة من المعدلات المسجلة على امتداد العقود الماضية. لكن جميع هذه النماذج لا تقدم أي تفسير لأسباب هذا الانخفاض، وظلت دون تفسير رغم جهود الباحثين.
في هذه الدراسة الجديدة يقول الباحثان إنهما توصلا إلى الكشف عن أسباب تراجع معدل التساقطات في منطقة البحر المتوسط. فقد وجدوا أن الجفاف الذي من المنتظر أن تشهده المنطقة حسب توقعات النماذج المناخية، يرجع إلى عاملين مختلفين، أولهما هو التغيرات الحاصلة في ديناميكيات دوران الغلاف الجوي العلوي للأرض، وثانيهما الانخفاض في اختلاف درجة الحرارة بين اليابسة والبحر. وإذا كان كلٍ من هذين العاملين لا يفسر لوحده هذا الانخفاض، فإن تأثيريهما مجتمعين يمكن أن يفسرا الاتجاه الذي أظهرته النماذج.
تقول الدراسة إن التأثير الأول – التغيير في ديناميكيات دوران الغلاف الجوي العلوي – يحدث على نطاق واسع ويرتبط بالرياح القوية على ارتفاعات عالية، (ويعرف باسم تيار جت-ستريم متوسط الارتفاع). ويؤدي هذا التيار إلى هيمنة نمط مناخي مستقر يمتد من الغرب إلى الشرق عبر أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا.
تُظهر النماذج المناخية أن تغير المناخ أدّى إلى زيادة في قوة التيارات الهوائية متوسطة الارتفاع مع ارتفاع درجة الحرارة العالمية. فمن المعروف أن سلاسل الجبال مثل جبال الهيمالايا وروكيز وجبال الألب تعيق مجرى الرياح في نصف الكرة الشمالي للأرض، وهو ما يؤدي إلى إضفاء نمط تموجي للضغط الجوي تتناوب فيه مناطق ضغط مرتفع مع مناطق ضغط منخفض. وفي الوقت الذي يرتبط فيه الضغط المرتفع بالأجواء الصافية والهواء الجاف، يقترن الضغط المنخفض بالهواء الرطب والأجواء العاصفة. لكن ظاهرة الاحترار العالمي تؤدي إلى اضطراب في هذا النمط الموجي للهواء.
وأوضح الباحثون أن الموقع الجغرافي لحوض البحر المتوسط بالنسبة للسلاسل الجبلية المذكورة كان له تأثير على نمط تدفق الهواء العالي في الغلاف الجوي بطريقة تشكل منطقة ضغط مرتفع فوق المتوسط، مما يخلق منطقة جافة مع تساقط ضعيف للأمطار. لكن هذه الظاهرة، كما يقول المؤلفون، ليست كافية لوحدها لتفسير تفاقم الجفاف في المنطقة.
العامل الثاني الذي لا يقل أهمية عن الأول لتفسير هذه الظاهرة، هو تقلص الفارق بين درجة الحرارة في مياه البحر واليابسة، لكونه يساعد على تشكل التيارات الهوائية ودفع الرياح. وبما أن التغيرات المناخية تؤدي إلى تسخين اليابسة حول حوض المتوسط بشكل أسرع من مياهه، فإن ذلك يقلص التباين الحراري بين البيئتين.
وأوضح مؤلفو الدراسة إلى أن ما يميز البحر المتوسط عن بقية المناطق في العالم هو موقعه، فهو عبارة عن بحر كبير شبه مغلق محاط بالقارات من كل جانب، وهذه وضعية فريدة لا يوجد لها مثيل في أي مكان آخر في العالم. ووفقًا للنماذج المناخية، من المتوقع أن يرتفع متوسط درجة الحرارة على اليابسة بين 3 و4 درجات مئوية مع بداية القرن القادم، في الوقت الذي يُتوقع فيه ألا يزيد هذا الارتفاع عن درجتين مئويتين في مياه البحر. وسيؤدي هذا التفاوت في تأثير التغيرات المناخية إلى تقلص الاختلاف في درجات الحرارة، ورفع الضغط الجوي فوق المنطقة.
وحسب الدراسة فإن الضغط الجوي العالي سيؤدي إلى تغيير اتجاه دوران الرياح في اتجاه عقارب الساعة فوق المنطقة المحيطة بحوض البحر الأبيض المتوسط. وسيشمل هذا التغيير خاصة غرب شمال أفريقيا (المغرب والجزائر) ومنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بسبب التضاريس المحلية.
وأكد الباحثون أن هذا الاتجاه في مناخ منطقة البحر الأبيض المتوسط ليس مجرد توقعات، فقد بدأت بالفعل بوادره في الظهور في تلك المناطق.
ويأمل الباحثون أن يساهم تفسير العوامل الأساسية لتراجع التساقطات في منطقة حوض المتوسط الذي توصلت إليه هذه الدراسة، في دفع السلطات في دول المنطقة إلى أخذ هذه التوقعات على محمل الجد.
المصادر
البريد الالكتروني للكاتب: gharbis@gmail.com