مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

ابن بصال الطليطلي وموسوعته “ديوان الفلاحة”

الكاتب

الكاتب: الصغير محمدالغربي

صحفي علمي

الوقت

01:25 مساءً

تاريخ النشر

23, يوليو 2020

رغم إسهاماته الكبيرة في هندسة الزراعة وعلم النباتات، ظل العالم الأندلسي ابن بصال الطليطلي مجهولاً تقريباً لقرون طويلة، قبل أن يُنثر الغبار عن مختصر موسوعته "ديوان الفلاحة" في أربعينيات القرن الماضي.

هو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن بصال الطليطلي، والمعروف أيضا باسم محمد بن بصال الأندلسي، ولد في منتصف القرن الحادي عشر في طليطلة، كان مهندسا زراعيا أندلسيا رائدًا لا يُعرف الكثير عن حياته. غالبًا ما يتم تشويه اسمه من قبل الناسخين والناقلين الذين كتبوا اسمه بطرق مختلفة مثل ابن فيصل أو ابن فيصل أو ابن بصال. قضى ابن بصال جزءا من حياته في طليطلة قبل أن يتحول إلى اشبيلية، وتذكر المصادر القليلة عن حياته أنه قام برحلة إلى الحجاز للحج وزار صقلية ومصر وسوريا وكذلك، الحبشة واليمن والعراق وبلاد فارس وشمال الهند وخراسان عاد إثرها إلى الأندلس حاملا لأفكار مبتكرة حول الزراعة إضافة إلى نباتات وبذور جمعها أثناء سفره، ليشرف إلى جانب عالم آخر هو ابن الوافد على إنشاء حديقة نباتية فريدة أمر بها أمير طليطلة المأمون بن ذي النون.

بعد سقوط مملكة طليطلة في يد النصارى عام 1085، انتقل ابن بصال إلى إشبيلية حيث أصبح شخصية محورية في مدرسة أندلسية بارزة للهندسة الزراعية تعج بعلماء النبات كابن حجاج وأبو الخير الاشبيلي والزناري وابن وحيد. وعلى عكس علماء تلك الفترة الذين عرفوا بتعدد اختصاصاتهم العلمية، فإن ابن بصال لم يذكر بأي نسب إلى علم آخر غير الفلاحة والنبات، وهو ما يدل على أنه كرس حياته للهندسة الزراعية دون غيرها من العلوم. يشير إليه تلميذه أبو الخير بأنه "السيد البارز"، الذي برز في الزراعة النظرية والتجريبية.  أنشأ ابن بصال حديقة نباتية جديدة سماها "حائط السلطان '‘، للملك الشاعر المعتمد بن عباد، حيث قام بتجربة زراعة العديد من النباتات التي لم تكن معروفة في الأندلس مثل الزنابق الزرقاء والهليون والياسمين وغيرها.

وكانت وفاة ابن بصال في إشبيلية في بداية القرن الثاني عشر.

لم يكن ابن بصال معروفا في تاريخ علم النباتات العربي الإسلامي حتى قبيل منتصف القرن العشرين. وكان المستشرق الأسباني “خوسي ماريا فايكروسا” أول من لفت الانتباه إليه عندما قام في عام 1943م بدراسة كتاب مجهول المؤلف، صنف في نهاية القرن الحادي عشر، وبداية القرن الثاني عشر الميلادي، فوجد فيه عدة فقرات تردد فيها اسم ابن بصال، ويقول مؤلف هذا الكتاب وهو “أبو الخير الإشبيلي” عند الحديث عن أحد النباتات “وأنا رأيت هذا النبات في بلادنا طليطلة، في بستان السلطان وقد زرعه العارف بالفلاحة ابن بصال، الذي كان خبيرا بهذا الشأن”.

كتاب "القصد والبيان" وأهميته

ألف ابن بصال موسوعته كتاب الفلاحة للمأمون، ثم اختُصر لاحقا، في حياته، إلى مجلد واحد بعنوان "القصد والبيان". ويعتبر هذا الكتاب فريدا من نوعه من حيث أنه لا يحتوي على أية إشارات إلى المهندسين الزراعيين السابقين له، ويبدو أنه استند حصريا في تأليفه إلى معرفته وخبرته الشخصية. ويقول عالم النبات ابن العوام في موضع من كتابه "الفلاحة الأندلسية": "وعلى كتاب الشيخ أبي عبد الله، محمد بن إبراهيم بن بصال الأندلسي -رحمه الله- وهو المبني على تجاربه وعلامته على وجه الاختصار".  وبالتالي، يمكن القول بأنه الأكثر أصالة وموضوعية بين جميع المهندسين الزراعيين الأندلسيين، إذ يذكر أكثر من 180 من النباتات والمحاصيل المزروعة في عمله.

تتألف النسخة المختصرة من عمل ابن بصال   – كتاب القصد والبيان – من ستة عشر فصلا. ويتميز الكتاب عن بقية المصنفات التي وضعت في الفلاحة وعلم النبات من طرف علماء الأندلس في تلك الحقبة، كما يقول الباحث عبد الرحمن رزقي من جامعة تلمسان بالجزائر، بكونه لم يتعرض لتأثير الكواكب والنجوم والأنواء ولا إلى الاستخدام الطبي لبعض النباتات ولا إلى مواضيع أخرى متداولة مثل عصر الزيتون والعنب وتربية النحل والدواجن. كما أن مواضيعه رُتبت بشكل علمي وتظهر روح التجربة الشخصية والمزاولة العلمية بصورة واضحة.

كما تتجلى أهمية هذا الكتاب في انتشار مختصره "القصد والبيان" وترجمته إلى اللغة القشتالية منذ القرن الثالث عشر، وتعدد نسخه التي عثر عليها في العديد من المكتبات (وإن كان الكثير منها ناقصا) مثل مكتبة الأسكوريال في مدريد كما تم طبعه في أواخر القرن السادس عشر في أسبانيا ومكتبة الرباط والمكتبة الوطنية في باريس وفي غرناطة وتطوان وغيرها. كما حققت ونشرت منذ أربعينيات القرن العشرين أجزاء عديدة منه خاصة على يد المستشرق  “خوسي ماريا فايكروسا”.

محتوى "القصد والبيان"

يتناول الفصل الأول المياه بأنواعها المختلفة، وتأثيراتها على النباتات. ذكر منها أربعة أنواع هي مياه الأمطار ومياه الأنهار ومياه الينابيع ومياه الآبار. وقال إن أفضلها مياه الأمطار، لأنها أكثر فائدة للنباتات ولا تترك أي أملاح متبقية. لها دستور دافئ ورطب، يشبه الهواء في هذا الصدد. على النقيض من ذلك، تكون مياه النهر جافة وحامضة بطبيعتها، ويمكنها أيضا إزالة أو استنفاد الرطوبة في الأرض عن طريق غسلها. أما مياه الينابيع والآبار فهي ثقيلة وترابية، على عكس مياه الأمطار، ولكن يمكن أن تكون دافئة في الشتاء، مما يفيد النباتات التي تعاني من البرد، وباردة في الصيف، مما ينعش النباتات ويكسبها نظارتها.

خصص العالم الأندلسي الفصول الثلاثة الموالية للحديث عن الأرض والتربة وكيفية تسيدها وتهيئتها للزراعة، فتناول في الفصل الثاني الأنواع المختلفة من الأراضي والتربة وطبيعتها وخصائصها وكيفية التمييز بين الأراضي الزراعية الجيدة والفقيرة. وميز عشرة أنواع من الأراضي أو التربة وهي الرخوة والثقيلة والجبلية والرملية والروث الأسود والبيضاء والصفراء والحمراء والخشنة والصخرية، وأخيرا الأرض ذات الحجر الرملي المحمر. وقام ابن بصال بفحص كل فئة من هذه الفئات من حيث طبيعتها – سواء كانت باردة أو دافئة أو جافة أو رطبة، ومقارنة مساميتها أو قدرتها على امتصاص الهواء والماء، وذكر مزاياها وعيوبها الزراعية، ونوع السماد المطلوب ونوع المحاصيل الأنسب لكل منها. يلفت المؤلف الانتباه إلى اختلاف إنتاجية التربة وقابليتها للتطبيق اعتمادا على الموسم الذي تزرع فيه. كما حدد العالم الفذ في فصل لاحق من كتابه وهو الفصل العاشر أنواع الأراضي الأكثر ملاءمة للمحاصيل المختلفة والنباتات والأشجار العشبية.

وفي الفصل الثالث تناول ابن بصال السماد بمختلف أنواعه واستخداماته المناسبة. يميز ابن بصال   سبعة أنواع من السماد حسب مصدرها وهي الخيول والبشر والكنس والفضلات، والأغنام والحمام والرماد من أفران الحمام، وأخيرا السماد الصناعي المصنوع من الأعشاب والأوراق الجافة. وقام ابن بصال بتحديد طبيعة وخصائص كل نوع من هذه الأسمدة من حيث الرطوبة ودرجة حرارتها وملوحتها. وأولى اهتماما خاصا لدرجة نضج السماد، واختلاف تأثيراته على النباتات وفقا لنوع التربة التي يتم دمجه فيها. ويحذر ابن بصال في هذا الفصل من استخدام السماد المتأتي من فضلات الخنازير والطيور المائية لضررها الفادح على النباتات.

ثم ناقش في الفصل الرابع المؤشرات وخاصة تلك المتعلقة بالنباتات الطبيعية، التي يمكن للمزارع من خلالها تحديد نوعية الأرض. بعد ذلك ينصح ابن بصال بأفضل طريقة لتحضير قطعة أرض وتهيئتها للزراعة، وكيفية توزيع المياه بشكل صحيح إذا كانت مروية. وميز بين الأرض المزروعة والأراضي القاحلة غير المزروعة لم يتم حرثها من قبل، والأرض التي تم تشغيلها ولكنها لا تزال تحمل قصبة المحصول السابق. ويثني على فعالية الحراثة الجيدة في زيادة الخصوبة.

عالج ابن بصال في الفصل الخامس الذي يتألف من ثلاثة وخمسين قسما، زراعة الأشجار ودرس أنواعها، بما في ذلك أشجار الفاكهة، التي تزرع بشكل شائع في الأندلس. كما شرح طرق مختلفة للتكاثر (بالبذور أو الحجر، والبراعم، والعقل والطعوم). وذكر بشكل مفصل كيفية إعداد التربة لأكثر أنواع النباتات والأشجار المعروفة وطرق ريها ورعايتها. فبدأ بزراعة النخيل فالزيتون ثم الرمان والسفرجل والتفاح والتين والكمثرى والكرز والمشمش والبرقوق والخوخ واللوز والجوز والبندق والعنب والليمون والبرتقال والفستق والصنوبر والسرو والكستناء وغيرها. وتضمن هذا الفصل الطويل والمكثف، بعض طرق مكافحة أمراض الأشجار.

وخصص ابن بصال الفصول من السادس والتاسع لعرض طرق التكاثر بشكل مفصل موصيا باستخدام تقنية الطبقات خاصة للتربة الصلبة الثقيلة، وعرض كيفية تقليم الأشجار وتحسين صحتها والوقت المناسب للتقليم، وطرق تطعيم الأشجار المختلفة ومعرفة ما إذا كانت متوافقة فيما بينها. كما ذكر المؤلف بعض أسرار وعجائب أساليب التطعيم بين الأشجار ذات الطبيعة المختلفة ذات الطبيعة المختلفة التي تفوق فيها الأندلسيون.

وأفرد ابن بصال الفصول الستة الموالية لتقنيات بذر الحبوب كالحمص والفاصوليا والأرز والبازلاء والكتان والسمسم، وزراعة الخضروات كالكرنب والقرنبيط والسبانخ والسلق، وزراعة التوابل المستخدمة كمنكهات للأطباق مثل الكمون والكراوية والشمر، وطرق إنبات البطيخ والخيار واليقطين والخضر الجذرية مثل اللفت والجزر والفجل والثوم والبصل وأخيرا زراعة النباتات العطرية مثل الريحان والنرجس والقرنفل والأعشاب العطرية مثل المردقوش والبابونج.

وقد أطنب ابن بصال في وصف كيفية بذر الحبوب والخضروات في الفصل العاشر مستشهدا في بعض الأحيان بالمعرفة التي اكتسبها خلال رحلة حجه في كل من مصر والشام وصقلية، ومقدما الطريقة المطلوبة للزراعة والرعاية والسماد ووقت الزراعة والكمية الموصى بها من البذور لكل وحدة مساحة والري والتخفيف والتعشيب إضافة إلى التربة المناسبة.

غير أن هذا الفصل لا يتضمن حبوب القمح والشعير التي يعتمد عليها أهل الأندلس في غذائهم في النسخ المعروفة لمختصر هذا الكتاب. وهو إغفال يصعب شرحه سواء كانت النصوص الموجودة في متناول اليد فقط ناقصة أو تم ذلك عن عمد وهو أمر غير مرجح خاصة وأن ابن العوام قد أشار على وجه التحديد إلى ملاحظات ابن بصال حول زراعة الحبوب.

أما الفصل السادس عشر والأخير فقد خصصه ابن بصال لعرض بعض المعارف المفيدة التي لا غنى عنها للمزارع، مثل تلك التي تتعلق بالمياه والآبار والحفاظ على الفاكهة، وبحماية النباتات من اليرقات في التربة وغيرها من الآفات المماثلة، يوصي ابن بصال في هذا الصدد بتغطية الأرض بطبقة من الرمل بسمك الإصبع، قبل التسميد وبذر الحقل. كما يناقش تأقلم النباتات البرية في الحديقة، وجمع بذورها، وأهمية زرعها في الوقت المناسب (في بعض الحالات قبل وصول الربيع بثلاثين يومًا)، ومحاولة تكرار ظروف التربة والرطوبة في بيئتها الطبيعية.

وأفرد العالم الأندلسي مساحة كبيرة لغرق الآبار – وهي ميزة وضعها على ارتفاع بحيث يمكن توجيه المياه بسهولة إلى جميع أجزاء الحديقة وعين أفضل وقت لغرق البئر في شهر أغسطس، عندما ينزل منسوب المياه الجوفية استجابة بسبب الحرارة وهو في أعمقها. وحدد العلامات التي تشير إلى كمية المياه في مكان ما ونوعيتها وطعمها وطرق استخراج المياه في الآبار العميقة وكيفية تنشيط مياه البئر المحفورة حديثا، وما إلى ذلك.
 

المصادر

  1. مقال بعنوان ابن بصال: ديوان الفلاحة/كتاب القصد والبيان وهو ترجمة إلى الإنكليزية قام بها الأكاديمي فيتزويليام هال نقلا عن كتاب "ابن بصال: كتاب الفلاحة" تأليف المستشرق  “خوسي ماريا فايكروسا” والباحث محمد عزيمان نشر  في تطوان عام 1955 . الرابط: www.filaha.org/author_Ibn_bassal.html
     
  2. بحث بعنوان "فن الفلاحة من خلال كتاب الفلاحة لابن بصال" للباحث عبد الرحمان رزقي -جامعة تلمسان نشرت في دورية "العبر للدراسات التاريخية والأدبية" المجلد الأول العدد الثاني سبتمبر 2018. الرابط:  www.asjp.cerist.dz/en/article/69470

 

البريد الالكتروني للكاتب: gharbis@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Anonymous
Anonymous
07/28/2020 2:20 مساءً
عنوان التعليق
احسنتم العمل
Anonymous
Anonymous
07/29/2020 6:00 صباحًا
عنوان التعليق
جزاكم الله خيرا
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x