الصدق والأمانة وما يترتب عليها من إتقان ودقة العمل، صفات يجب أن يتحلى بها كل إنسان، وهي تتأكد للباحث العلمي الذي جعل همة العلم وزيادة المعرفة، والتي هي من حيث الجوهر، يجب أن تكون معرفة بالحقيقة، والحقيقة من الحق والصدق. فكيف يكون الذي يساهم في بناء صرح المعرفة الإنسانية، غير أمين؟؟
ولكن، في كثير من الأحيان، لا يكون الانتحال ناشئاً عن عدم الأمانة، بل قد يكون السبب هو عدم معرفة أو فهم المقصود أو ما يجعل الفعل يعتبر انتحالا أو سرقة أدبية. لذا دعونا في هذا المقال نحاول أن نبين ونوضح للمؤلف الكريم، ما يجب أن يحذر من الوقوع فيه.
ما المقصود بالانتحال Plagiarism؟
يتم تعريف الانتحال بشكل عام، على أنه أخذ شخص ما أفكارٌ أو صوراً أو كلمات شخص آخر ويقدمها على أنها له، أي ينسبها لنفسه دون الإشارة إلى مالكها الأصلي (الاقتباس). إنها سرقة فكرية. ويشمل هذا التعريف جميع المواد المنشورة وغير المنشورة، سواء كانت مخطوطة أو مطبوعة أو إلكترونية، بإذن أو بدون إذن المالك.
ولكن، على الرغم من أن هذا التعريف يبدو واضحا، إلا أن عملية تعريفه وتحديده بشكل عملي هي أكثر تعقيداً ودقة وصعوبة.
لماذا يعتبر الانتحال أو السرقة الأدبية مهمة جداً وحسّاسة في الوسط العلمي والأكاديمي؟
الانتحال هو خرق للنزاهة الأكاديمية وللأمانة العلمية وهي الثقافة المتعارف عليها في المجتمع العلمي. وهذا العمل غير الأخلاقي دليل أن المتعلم أو من ينسب نفسه للعلم قد أخفق في عملية التعلم وفقد أهلية انتسابه لمجتمع العلم الملتزم بالأمانة.
غالباً، لا ينال الباحث من بحوثه إلا الرضا والفخر بالاعتراف بعمله، والذي غالباً ما يكون عن طريق الاقتباس، وهو يعمل بجد من أجل الحصول على سمعته ومكانته العلمية، فعندما يأتي من ينسبها لنفسه ولا يعترف له بعمله وجهده، فهذه سرقة أقبح من سرقة المال وظلم شنيع. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشخص الفاقد للأمانة لا يوثق بعمله ونتائجه وما يصدر عنه، وهو بالتالي باب فساد للعلم وللمجتمع من خلال المكانة أو الوظيفة التي يشغلها، لذلك يجب محاربة الانتحال بكافة أشكاله.
فما هي أشكال الانتحال؟
معلوم أن العلم والمعرفة تراكمية، يُبنى فيها اللاحق على السابق، والبناء على عمل سابق دليل على أهميته وهذا ما يسعى إليه كل باحث ومؤلف، بل ويشجعه. المشكلة الأخلاقية تظهر عندما ينسب أحدهم فكرة معينة لنفسه وتكون في الحقيقة لغيره، هذا التضليل قد يكون صريحاً كأن يقول: (نحن أول من يطرح هذه الفكرة…)، ولكنه غالباً ما يكون ضمنياً. فمن خلال تقديم الأفكار أو التصميمات أو النماذج أو العمليات أو النتائج بدون "اقتباسات"، يوحي ضمنا أن هذه الأفكار أصلية له.
وقد يكون انتحال الأفكار أيضا جهلاً بممارسات الاقتباس المناسبة، لذا، فإن خط الدفاع الأول ضد ما يمكن اعتباره انتحالاً للأفكار هو أن تكون على دراية جيدة بالطرق الصحيحة والخاطئة للاستشهاد بالعمل السابق (انظر مقال الاقتباس).
الاقتباس المفقود ليس بالضرورة دليلٌ على الانتحال. فقد يتم التوصل إلى نفس الأفكار بشكل مستقل من قبل أشخاص مختلفين، ولا يمكن لأحد أن يكون على دراية بجميع الأوراق المنشورة حول ذلك الموضوع، حتى في المجالات الضيقة. لذلك تظهر أهمية أن يبذل المؤلفون جهودًا متضافرة للعثور على الأدبيات ذات الصلة ويستشهدون بها بشكل مناسب.
ولكن بصورة عامة، يتم التعامل مع الاستشهادات المفقودة أثناء عملية المراجعة والتحرير دون التسبب بآثار مبنية على ارتكاب مخالفات. ويرجع ذلك جُزئيًّا إلى صعوبة إثبات النية لنسخ أفكار الآخرين بشكل غير لائق.
تعد الأشكال والصور جزءا مهما من التواصل العلمي، وإنشاء رسم بياني أو صورة يعتبر عمل إبداعي بشكل عام. من هنا، عند استخدامها في عمل شخص آخر، لا تكفي الإشارة إلى الشخص الأصلي أو إلى المرجع فقط، ولكن استخدامها يتطلب إذنًا من مؤلف الشكل (وربما الناشر) أيضًا. التعديلات الطفيفة على الشكل (أي "إعادة صياغة الصورة") ليست كافية للهروب من هذا الشرط.
المشكلة الأكثر شيوعًا التي يُجبر المحرر على التعامل معها، هي نسخ كلمات الآخرين. الكتابة الجيدة هي عمل شاق كما ذكرنا في المقالات السابقة، وغالباً ما تقتصر مكافأة هذا العمل الشاق على الافتخار والسمعة التي يحصل عليها المرء لنشره. وبالتالي، فإن سرقة الكلمات بالإضافة إلى كونها غير أمينة بطبيعتها، يمكن أن تسلب المؤلف الأصلي المكافأة التي قد يبرر بها الجهد الذي قام به.
تختلف شدة شناعة "فعل نسخ النص" بشكل كبير، من النسخ الكامل لورقة ما إلى إعادة صياغة لعدد من الجمل. وبينما لا يُسمح بنسخ النص (بدون اقتباس) مطلقًا، فإن حجم المشكلة يعتمد على عدة عوامل مهمة:
- هل تم الاستشهاد بمصدر النص المنسوخ؟ يعتبر عدم وجود الاقتباس دليلاً على نية الخداع، على عكس الإهمال أو ممارسات الكتابة السيئة.
- كم عدد الجمل التي تم نسخها؟ كلما زادت كمية النسخ، زادت المخالفة.
- هل كان هناك إعادة صياغة، أم مجرد محاولة لإخفاء النسخ؟ يمكن للمرء تجنب الانتحال عن طريق إعادة الصياغة المناسبة. التغييرات الطفيفة على كلمة أو اثنتين من الجملة المنسوخة ليست كإعادة الكتابة بكلماتك الخاصة. لاحظ أن المقاطع المعاد صياغتها بكلماتك الخاصة، تتطلب اقتباسًا من الأصل أيضاً، أي إدراج المصدر.
- الجزء المنسوخ من الورقة، هل هو ضمن الجزء الأهم والجديد من ورقتك، مثل النتائج ومناقشتها وتفسيرها، أم هو ضمن الأجزاء الأقل أهمية في الورقة مثل الخلفية أو الطريقة؟ رغم أنها تظل انتحالاً ولكنها لا ترقى إلى فضيحة نسخ النتائج ومناقشتها.
يعتقد البعض أن نسخ أجزاء من المقدمة أو الخلفية على سبيل المثال لا يستحق أن يذكر ضمن الاقتباسات، وهذا غير صحيح. فهو في النهاية عمل شخص آخر ومن حقه أن يذكر، حتى لو أجريت عليه بعض التعديلات، يجب أن تذكر هذا وتضيفه إلى قائمة المراجع في ورقتك.
النشر المكرر والانتحال ذاتي
مصطلح "الانتحال الذاتي" يثير بعض الإرباك، فكيف يمكنك السرقة من نفسك؟!. ومع ذلك، غالبًا ما يستخدم المصطلح لوصف مشكلة خطيرة ودقيقة تلتبس على كثير من المؤلفين، وهي: إعادة نشر العمل المنشور سابقاً على أنه جديد.
في بعض الأحيان، يستخدم المؤلفون مثل هذا النشر المكرر دون الاستشهاد المناسب بالعمل السابق لزيادة أعداد أوراقهم المنشورة، على أمل ألا يلاحظ المحررون والمراجعون الافتقار إلى الحداثة في آخر تقديم لهم. الضرر هنا يقع على المجلة وقراءها، الذين يضيعون وقتهم في مراجعة وقراءة العمل القديم، معتقدين أن هناك شيئًا جديدًا للتعلم. وعلى عكس الاستشهاد المفقود بعمل شخص آخر، لا يستطيع المؤلفون هنا ادعاء الجهل بما نُشر سابقاً كذريعة لعدم الاستشهاد بعملهم السابق. وبالتالي، يعد النشر المكرر انتهاكًا أخلاقياً خطيراً. لاحظ أن هذا ينطبق على قسمي المقدمة والطريقة بالإضافة إلى أقسام النتائج والمناقشة. إذا قمت بنسخ النص أو الأشكال الخاصة بك، فاستشهد بالعمل الذي ظهرت فيه سابقاً.
إذا كان عملك الجديد استمرارًا لعملك القديم، فاستشهد به أيضاً. يقع على عاتق المؤلفين التمييز بوضوح بين العمل السابق والنتائج الجديدة. يمكن القيام بذلك بشكل صريح من خلال اللغة المباشرة ("أظهر العمل السابق …" ؛ "وفي هذا العمل ، قمنا بقياس …") أو بشكل ضمني من خلال استخدام الاقتباسات. بعض المؤلفين يقلل من حرصه عندما يتعلق الأمر بالاقتباس من عمله السابق ظناً منه أنه إن كان هناك متضرر فهو نفسه، ولكن هذا الأمر غير مقبول أيضاً، لأنه يوحي أن هذا العمل جديد على غير الحقيقة.
وباختصار، فإن الاستشهادات ضرورية لأسباب عديدة (انظر مقال الاقتباس)، وليس أقلها التمييز بين ما هو جديد وما هو قديم في الورقة. لا تعتمد معايير الاقتباسات المناسبة على ما إذا كان العمل السابق هو عملك الخاص أو عمل شخص آخر، أو ما إذا كان العمل السابق قد تم نشره في مجلة تمت مراجعتها من قبل النظراء، أو محاضر المؤتمرات proceedings، أو بعض وسائط النشر البديلة.
من الأخطاء التي يقع فيها بعض المؤلفين، أن يقدم المؤلف ورقته وأخرى شبيهة بها إلى مجلتين مختلفتين في نفس الوقت أو بعد نشر إحداهما. وهو ما يسمى "النشر المكرر أو المزدوج". بل إن بعض المجلات تحظر نشر المحتوى المكرر من وقائع المؤتمر أو ملخصات المؤتمر أو منشورات الموقع أو حتى النشرات الصحفية، والبعض الآخر من المجلات ترى أن المؤتمرات والمجلات يجب أن تعمل معًا بدلاً من المنافسة.
لذا يجب دائماً الرجوع إلى شروط النشر ودليل المؤلفين للمجلة التي تريد النشر فيها.
هناك أيضًا مشكلات تتعلق بحقوق الطبع والنشر (مع الناشر) تتعلق بإعادة استخدام الكلمات أو الصور المنشورة مسبقًا. كأن ينشر المؤلف عملا له في مجلة يوقع معها اتفاقية حقوق النشر ثم يريد استخدام جزء من ورقته السابقة للنشر من جديد في مجلة أخرى. هنا تقع على عاتق المؤلفين مسؤولية التأكد من أن اتفاقية حقوق النشر التي وقعوا عليها مع الناشر السابق تسمح بإعادة استخدام الكلمات أو الصور من قبل هؤلاء المؤلفين أنفسهم في منشور جديد لدى ناشر جديد (مجلة أخرى)، أو الحصول على إذن كتابي إذا لم يكن كذلك. (كما لو أن المؤلف يكون قد باع حقوق نشر الأشكال والنتائج للناشر الأول).
وهناك إشكال آخر أيضاً، إذا نشرت مع مجموعة من المؤلفين ورقة، وأردت الاقتباس منها لنشر ورقة أخرى لا تضم جميع المؤلفين في الورقة الأولى، لأنه ربما يكون الجزء المأخوذ منها يرجع إلى المؤلفين الذين لم يشاركوا في الورقة الجديدة، وهذه الحالة تكون أكثر تعقيدا، وعندها يجب عليك الاستشهاد بالنص والأفكار المأخوذة من تلك الورقة السابقة وذكرها في قائمة المراجع لإعطاء الفضل للمؤلفين الآخرين لهذا العمل.
تعتمد عواقب الانتحال على المؤلفين على شدة سوء السلوك الأخلاقي، ودرجة العمل التصحيحي ستكون متناسبة مع درجة الانتحال. ويعتبر المؤلف مسؤول عن الورقة وما يترتب على الانتحال.
عندما يقدم المؤلف ورقته لإحدى المجلات المرموقة ومنها "المجلة العربية للبحث العلمي"، تُجرى عليها عملية كشف الانتحال كمرحلة أولى قبل قبول الورقة.
يمكن إصلاح الثغرات الطفيفة في معايير الانتحال التي تم اكتشافها أثناء التقديم للمجلة وأثناء التحرير دون أي شيء سوى تنبيه المؤلفين. أما الحالات الأكثر خطورة فإنها تؤدي إلى رفض الورقة.
بالنسبة لأكثر الحالات فظاعة، حيث يمكن إثبات النية للخداع، يمكن أن يكون الرفض مصحوبًا بحظر النشر لمدة سنة إلى عدة سنوات (أو حتى حظر مدى الحياة في بعض الحالات القصوى).
في موضوع النشر المكرر. يمكن في بعض الأحيان قبول الورقة للنشر إذا كان المكرر فيها يقل عن 50% من النتائج / البيانات / الأرقام الرئيسية / إلخ. ولكن الأمر يعتمد إلى حد ما على أهمية النتائج الجديدة، وعلى شروط المجلة.
إن وجود مادة جديدة يمكن تمييزها بشكل واضح عن القديم هو مطلب لتقييم ما إذا كانت المخطوطة المقدمة تُقدم علمًا جديدًا أو "هي نفسها تقريبا" كورقة أو أكثر نُشرت سابقاً.
واليوم، توجد الكثير من برامج الكشف عن الانتحال بجميع أنواعه متوفرة على شبكة الإنترنت Plagiarism Checker، وبعدة لغات بما فيها اللغة العربية، وبعضها مجاني.
أتمنى أن يكون المؤلف الكريم قد استفاد من هذه التوضيحات ويأخذها بمحمل الجد، ليوفر على نفسه وعلى محرر المجلة الكثير من المواقف والأعباء غير المحمودة.
البريد الإلكتروني للكاتب: mmr@arsco.org