تمكن باحثون في دراسة علمية جديدة من تحديد أهم العناصر النباتية في النظام الغذائي لسكان عمان قديما بتحليل حبوب اللقاح القديمة التي عثر عليها في موقع سمهرم الأثري. وأتاحت الحفريات الأثرية لمدينة سمهرم القديمة (القرن الثاني قبل الميلاد – القرن الخامس الميلادي)، وهي ميناء على طول طريق البخور التجاري في ظفار، جنوب عمان، الفرصة للباحثين للحصول على رؤى جديدة حول النظام الغذائي للسكان. وعلى الرغم من الطبيعة الرملية للرواسب والتي لا تساعد على الحفاظ على المواد النباتية بشكل جيد، فقد سمحت تحليلات حبوب اللقاح ودراسة آثار النشا والبذور والفاكهة بالكشف عن أن القمح والشعير كانت من مصادر الغذاء النباتي الرئيسية في سمهرم إضافة إلى مواد أخرى مثل الدخن Millets.
وأظهرت التحاليل التي أجراها الباحثون كذلك وجود آثار لقاح النخيل في رواسب المدينة الأثرية مما يدل على انتشار استهلاك ثمار هذه النباتات (التمر) قديما بين سكان شبه الجزيرة العربية.
يقول الباحثون إن مدينة سمهرم القديمة تعد أهم مستوطنة في منطقة ظفار في جنوب عمان قبل الإسلام، وواحدة من المحاور الرئيسية في الشبكة التجارية في المحيط الهندي بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الخامس الميلادي. وقد أتاح التنقيب الأثري الكشف عن ثلاث مطامير (حفر) أثرية أثبت تحليل الرواسب فيها أنها قد تكون استخدمت في القديم لحفظ الحبوب وربما مواد غذائية أخرى.
وقد نشرت الدراسة التي قام بها باحثون إيطاليون في دورية Journal of Arid Environments العلمية في شهر يونيو الحالي 2020.
المصادر التاريخية حول الغذاء في جنوب شبه الجزيرة العربية
تمثل النقوش أهم المصادر المبكرة المكتوبة حول مصادر الغذاء في جنوب شبه الجزيرة العربية في فترة ما قبل الإسلام، أشهرها نقش من العصر السبئي المتأخر (من القرن الرابع إلى السادس الميلادي) في سد مأرب في اليمن يصف غذاء العمال على أنه مصنوع من القمح والشعير والذرة الرفيعة والتمور.
تشير مخطوطات إسلامية تعود للقرنين الثامن والتاسع الميلاديين، إلى التمر والموز والفواكه الاستوائية الأخرى، فضلا عن مجموعة متنوعة من الحبوب والبقوليات، باعتبارها المنتجات الزراعية الرئيسية في عمان في ذلك الوقت. وبعد خمسة قرون، قدّم الرحالة المغربي ابن بطوطة معلومات أكثر تفصيلا عن النظام الغذائي المحلي هناك، حيث يذكر أن سكان ظفر (اليوم البليد، في ضواحي صلالة، محافظة ظفار) كانوا يستهلكون الأرز المستورد من الهند والأسماك المسماة "السردين"، والتي كانت تستخدم أيضا لإطعام الحيوانات. كما وصف ابن بطوطة بعض النباتات التي احتوتها حدائق ظفر مثل الموز وجوز الهند والتنبول والحبوب المزروعة مثل الدخن ونوع من الشعير يسمى "alas".
يقول الباحثون إن المصادر القديمة لم تشر إلى سمهرم بشكل رئيسي إلا في سياق الحديث عن تجارة اللبان. ولا توجد معلومات حول الأنشطة الزراعية في المنطقة. لكن الوثيقة التاريخية الرومانية "رحلة البحر الاريتري" التي تعود إلى القرن الأول ميلادي وتصف الموانئ والطرق البحرية قبل ظهور الخرائط، تذكر الحبوب والقطن والزيت، بين المنتجات التي تمت مقايضتها في سمهرم بالبخور.
بقايا النبات الغذائي في المواقع الأثرية
مع عدم توفر المصادر المكتوبة في العصور القديمة لما قبل الإسلام، كان على الباحثين البحث عن المعلومات المتعلقة بالنظم الغذائية البشرية والحيوانية السابقة في السجلات النباتية والحيوانية الأثرية، في موقع سمهرم الأثري وفي منطقة الخليج العربي عموما.
وقد أجريت العديد من الدراسات العلمية في المواقع الأثرية التي تعود للعصر الحجري الحديث (بين 9000 و4500 قبل الميلاد) في جنوب شبه الجزيرة العربية، وتم العثور على بقايا متحجرة لنبتة السدر Ziziphus sp. وبذور الحبوب في منطقة القرم الساحلية بالقرب من مسقط في عمان، وفي موقع الصبية في الكويت. ووجد العلماء أدلة على استهلاك تمر النخيل من نوع dactylifera (نخيل التمر) في جزيرة دلما في الخليج العربي، التي يفترض أن زراعتها بدأت على الأقل في الألفية الخامسة قبل الميلاد. وتعد أنوية التمر واحدة من أكثر بقايا النباتات شيوعا، في منطقة الخليج العربي واليمن.
في العصر البرونزي (بين 3000 و1200 قبل الميلاد)، تم العثور على الحبوب والبقول وتمر النخيل، من بين نباتات غذائية أخرى، في مواقع مختلفة في اليمن، من بينها القمح اللين aestivum والقمح الصلب Triticum durum والشعير من نوع Hordeum وتمر النخيل في سار في البحرين. كما عُثر على ثمار نبتة السدر Ziziphus في شمال عمان، وتمر النخيل في رأس الجنز، وعلى الشعير والسورغم Sorghum والسدر في موقع هيلي. كما تم العثور على أدلة حول تجارة التمور في العصر البرونزي في منطقة هيلي وفي موقع العصر الحديدي (القرن الرابع قبل الميلاد)، في سلوت، شمال عمان، حيث عثر على آثار لاستهلاك الحبوب والسمسم.
كما وجد علماء الآثار بقايا أنواع مختلفة من الفاكهة من بينها الحمضيات من نوع Vitis vinifera والرمان Punica granatum في موقع مليحة شرق الجزيرة العربية والتين Ficus carica والزيتونOlea europaea في موقع مدائن صالح في المملكة العربية السعودية.
نتائج التحليلات البالينولوجية في سمهرم
بشكل عام، في علم النبات القديم، تُفسر البقايا الكثيرة للنباتات، كما يقول مؤلفو الدراسة، على أنها آثار مباشرة للأنشطة المحلية، مثل استهلاك الطعام وإنتاجه، كما يدل وجود حبوب اللقاح من الطبقات الأثرية على مزيج من المصادر البشرية والطبيعية للنباتات في تلك المنطقة. من أجل تحديد المصادر المختلفة لحبوب اللقاح، كان لا بد من معرفة جيدة بعمليات الترسب. رغم أن تناوب فترات المطر والجفاف بالتناوب، خاصة في المناطق ذات المناخ الموسمي الاستوائي، تقلص من حفظ حبوب اللقاح بسبب عمليات الانجراف. إضافة إلى دور العواصف الرملية القوية في إزالة طبقات الرواسب أو إحداث فجوات أو رواسب سميكة تعوق التسلسلات الطبقية.
في جنوب شبه الجزيرة العربية، سجلت التحليلات البالينولوجية (البالينولوجيا هي علم حفريات حبوب اللقاح) كميات منخفضة من هذه الحبوب الدخيلة عن المنطقة. أكدت دراسات مماثلة في سمهرم أنه حتى في الرواسب المغلفة المودعة خلال فترات التأثير الموسمي القوي، فإن كمية حبوب اللقاح التي تنقلها الرياح عبر مسافات طويلة لا تتجاوز أبدًا 4 % من إجمالي الحبوب.
وحسب الباحثين، فإن الدراسات العلمية المشابهة والتي أجريت في المنطقة وتركز على العلاقة بين الغطاء النباتي الحالي والزراعة وإنتاج حبوب اللقاح وانتشارها وترسبها والحفاظ عليها، تقدم مساعدة كبيرة لتفسير وجود حبوب اللقاح في الترسبات التي تعود لآلاف السنين.
لتحديد مصادر النباتات الغذائية قام فريق البحث بجمع بيانات من منطقة ظفار تتعلق بآثار حبوب لقاح النباتات المتواجدة في مصبات الأنهار، وأخرى من شمال عمان إضافة إلى إجراء مسح ميداني للنباتات في خور روري (حيث توجد سمهرم). وأظهرت البيانات التي تم جمعها من تحليل حبوب اللقاح وبقايا الحبوب المطحونة في أدوات الرحي اليدوي (الرحى الحجرية) التي عثر علها في الموقع، الاستهلاك طويل الأمد لسكان سمهرم لأنواع مختلفة من الحبوب أهمها القمح والشعير.
كما أظهرت نتائج تحليل حبوب اللقاح في المطامير الموجودة في الموقع وانتشار أدوات الطحن الرحى الحجرية، احتمال تخزين السكان للحبوب قبل طحنها وتحويلها إلى غذاء، مما يشير إلى أن الأسر كانت تنتج الدقيق الخاص بها. كما لاحظ الباحثون ندرة بقايا النباتات الغذائية داخل أسوار المدينة القديمة مما يشير، حسب قولهم، إلى تخزين الطعام أو التجارة عند أبواب المدينة. من المعروف، كما يذكر الباحثون في الدراسة، أن دول الجنوب العربي لها تاريخ يعود لآلاف السنين في زراعة المحاصيل، وهو ما أكدته عمليات الاستقصاء الجيني الذي أكد التباين الملحوظ بين العديد من النباتات الغذائية والتداخل بين الأنواع المزروعة وأقاربها البرية، والتي تم استهلاكها على نطاق واسع في المنطقة.
يقول الباحثون إن هذا التداخل زاد في صعوبة مهمتهم من أجل تحديد مصدر بقايا النباتات المستخدمة في الغذاء في جنوب عمان قبل آلاف السنين، إن مزروعة أم برية أم كلاهما في نفس الوقت. ورغم تأكيد زراعة أشجار النخيل، المنتشرة إلى حد كبير في شبه الجزيرة العربية، في سمهرم بواسطة حبوب اللقاح، فإن موقع زراعتها أو تجميعها غير مؤكد خاصة مع احتمال استيرادها من مناطق أخرى.
ورغم ذلك، فقد تمكن الباحثون في هذه الدراسة، بفضل الأدلة التي وفرتها الدراسات المشابهة للنباتات الحديثة في المنطقة، من التمييز بين مصادر حبوب اللقاح المتعددة وكذلك تحديد العناصر النباتية الأساسية في غذاء سكان المنطقة قديما، والتي كانت ستظل مخفية في غبار حبوب اللقاح المتراكم منذ آلاف السنين.
المرجع
البريد الإلكتروني للكاتب: gharbis@gmail.com