تنوعت موارد التنمية العمرانية داخل النسيج العتيق، وتنوعت معها تجارب المدن المصنفة في قائمة التراث الإنساني العالمي، حيث تتم في هذا الإطار صياغة رؤية شمولية لإنقاذ التراث المعماري داخل النسيج العتيق باعتبار هذا الأخير مجالا للفقر الذي يعتبر جزءا من حزام البؤس والإقصاء الاجتماعي لأن العلاقة تكمن بين السياحة والصناعة التقليدية من خلال دور المدينة القديمة في الجذب السياحي.
يضم التراث المعماري في ثناياه محاكاة لهوية المجتمع الثقافية والرمزية، و قد حظي البعض من هذا التراث بتصنيف من قبل اليونسكو، حيث أضحى يشكل مورداً ثمينا يجمع ما بين الهندسة ومهارة البناء التي تعكس تاريخ وثقافة مجتمع منذ عدة قرون مضت.
ساهمت عدة عوامل في إحداث تحولات هيكلية مست التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للنسيج العتيق، ولعل أهمها : النمو الديمغرافي، ضعف الدخل، تراجع اقتصاديات الصناعة التقليدية، بالإضافة إلى الإهمال والتدهور بسبب قلة الصيانة واللامبالاة من قبل القاطنين الذين ما فتئوا يمارسون سلوكات لا تلائم المجالات الحضرية العتيقة. وتعتبر ظاهرة الفقر من الظواهر الأكثر انتشارا والتي اتخذت عدة أشكال و تجليات بالأنسجة العتيقة.
عرفت المدن العتيقة تحولا بنيويا منذ تسرب نمط اقتصادي جديد، مما أدى إلى تغيير الأنماط والقيم الحضرية، وتعمق ذلك مع النمو الديمغرافي الناتج عن الهجرة منها وإليها.
لاشك أن تفاقم ظاهرة الفقر أصبح واقعا يفرض نفسه داخل النسيج الحضري العتيق، وفي هذا الإطار يمكن طرح الإشكالية التالية:
- ما مظاهر الفقر في الأنسجة العتيقة، وما الأشكال والتجليات التي يتخذها؟
- هل الفقر الحضري في الأنسجة العتيقة هو نتاج أملته عوامل خارجية؟
- ما المشاريع التي تحد من ظاهرة الفقر الحضري؟
يعتبر الفقر ظاهرة اجتماعية، فهو ليس فقط نقص على مستوى الدخل أو قلة فرص العمل، بل يدخل في إطار تهميش لشريحة معينة في المجتمع، ولعل السبب في تدني هذه الوضعية يتجلى في :
- الاكتظاظ والهشاشة، وذلك راجع إلى تدني مستوى العيش، وهنا قد يصل إلى حالة الاستبعاد الاجتماعي.
- اختلاف معايير مستوى المعيشة مع متوسط الدخل، إذ يمكن تصنيف دخل الأسر على الشكل التالي:
- المجموعة الأولى: أسرة فقيرة جدا حيث مستوى دخلها تحت العتبة المنخفضة للفقر بحوالي أقل من20%؛
- المجموعة الثانية: أسر فقيرة حيت مستوى دخلها تحت العتبة المرتفعة للفقر بأقل من 17% ؛
- المجموعة الثالثة: أسر ذات دخل محدود أقل من23%؛
- المجموعة الرابعة: أسر ميسورة أقل من 23%؛
- المجموعة الخامسة: أسر غنية أقل من 18% [1]
- مؤشر الإنفاق : الإنفاق الاستهلاكي هو القيمة السوقية الكلية للسلع والخدمات التي يبتاعها القطاع العائلي ويتضمن مشتريات: الطعام، الكساء، والخدمات والمرافق الأخرى [2] . فالإنفاق الاستهلاكي يتأثر بعدة عوامل اقتصادية واجتماعية. وتشمل طبيعة العمل والسكن ومستوى الدخل. وبتحليل نتائج الدراسة الميدانية (مقاطعة فاس المدينة) أظهرت أن نسبة 94,2 % تخصص مدخولها للأكل واللباس والكهرباء والغاز(الطبخ) والماء. وهي من الأشياء التي تعكس أسلوب النمط الاستهلاكي الذي تعتمده الأسر المغربية، ثم يليها3,3% مخصصة للعلاج. وهذه النسبة ضعيفة لأن معظم الساكنة تعتمد العلاج البديل بالأعشاب لتبقى هذه النسبة موجهة خصوصاً لذوي الأمراض المزمنة (السكري و الضغط). في حين تحمل صرف الإنفاق على التدخين ( 1,7%)والمواصلات (0,8%).
- مبيان رقم 1: توزيع مصاريف الإنفاق حسب الأولويات (%)
يلاحظ أن مقاييس الفقر القائمة على مستوى المعيشة موضوعية وتصف بدقة فقر الدخل، لكن هذه المقاييس تسقط عوامل الفقر الأخرى غير الدخل والإنفاق .
- مؤشر التغذية: الغداء حق إنساني، وهو من أهم الاحتياجات الأساسية للحياة. واختيار الفرد للأكل يعتمد من جهة على الاحتياجات الفيزيولوجية، والتركيبة النفسية بالإضافة إلى المجتمع والظروف التي يعيشها [3]. و هذا الغذاء يجب أن يحتوي على قدر معين من السعرات الحرارية والبروتين، وتقدر السعرات الحرارية اللازمة لبقاء الجسم على حالة صحية سليمة ب 32 ألف وحدة حرارية [4].
إن هذا المؤشر يعتبر أيضا من المؤشرات الدقيقة لقياس الفقر. بيد أنه يقيس فقط الفقر المدقع بافتراض أن الفقر هو سوء التغذية، وهناك أسلوبين اعتمدنا عليهما لتقييم الفقر في النسيج العتيق وهما: تكلفة الوجبة الغذائية ومكونات الوجبة الغذائية.
- وضعية السكن الهش داخل النسيج العتيق: من العوامل المحددة للوضع الاجتماعي والاقتصادي لساكنة النسيج العتيق هو السكن، هذا الأخير يفتقد أحيانا إلى الخدمات والمرافق الأساسية فضلا عن غياب الشروط الصحية المطلوبة. وتبين نتائج البحث الميداني أن 86% يعيشون في سكن جماعي و 14% يعيشون في سكن فردي يملكونه عن طريق الشراء أو الإرث .
مبيان رقم 2 : توزيع حيازة السكن بالنسيج العتيق (نموذج مقاطعة فاس المدينة).
و ترجع الأسباب التي دفعت الأسر إلى الاستقرار بالنسيج العتيق إلى:
- الإمكانات المادية المحدودة لدى أسر العينة.
- الفقر والأمية، وتزايد الساكنة من الأمور التي جعلتها تفكر في ممارسة نشاط هامشي غير مهيكل داخل النسيج العتيق.
- الانحدار الفئوي لأفراد العينة الذين ينتمون إلى الفئة الفقيرة.
- انخفاض سومة الكراء داخل النسيج العتيق.
- حسن الجوار، لأنه وكما هو معلوم أن القروي يأتي من القرية وهو مزود بحمولة اجتماعية تتمثل في سلوكياته وعلاقاته مع الجيران. فالسكن المشترك بما فيه المطبخ والحمام وبهو مشترك…..، يجعله يحس وكأنه في قريته مع تلك العلاقات الاجتماعية، التواصلية والتضامنية لا زال يعيش في كنفها وهذا ما شجع الهجرة نحو هذا النسيج العتيق، وكل هذه العوامل جعلت هذه الفئة تعيش البؤس بجميع أشكاله:
خريطة: نسبة السكان التي تعيش في درجة بؤس كبيرة بمجال الدراسة(مقاطعة فاس المدينة).
يتسم النسيج العتيق بالكثافة السكانية المرتفعة وتدني مستوى الدخل والمستوى المعيشي وتراجع المستوى التعليمي هكذا أصبح الفقر جزءا من حزام البؤس و الحرمان والإقصاء الاجتماعي، وبالتالي الفقر كظاهرة اجتماعية سيظل كمحصلة لمجمل الأوضاع والتناقضات في البناء الاجتماعي.
و أمام تطلعات ساكنة النسيج العتيق لفاس على أمل تحسين ظروفها المعيشية كان هناك تدخل لبعض الفاعلين لإنقاذ الفئات المعوزة لهذا النسيج، وبالتالي إنقاذ التراث المعماري الذي كان ولازال مجالا للصناعة التقليدية ومكانا للعيش ووجهة سياحية وذلك عن طريق ترسيخ خطط التنمية السياحية وتحسين مؤشرات التنمية البشرية وكذا مجموعة من مشاريع التثمين والترميم ورد الاعتبار للمدينة القديمة و كذا الحد من النزيف الديمغرافي، إلى جانب محاربة الهشاشة.
وفي هذا الصدد تعتبر اتفاقية (2018.2022) في إطار التثمين ومحاربة الإقصاء الاجتماعي إحدى المشاريع التي رسخت رؤية شمولية لإنقاذ التراث المعماري العتيق وذلك بهدف التنمية المستدامة لهذا النسيج، ولعل أهم ما جاء فيها:
- البنية التحتية : تحسين الولوجية وحركة التنقل داخل النسيج العتيق بهدف تحسين الوضع الاقتصادي، بالإضافة إلى انجاز مرافق وبنيات تحتية.
- الصناعة التقليدية: تنمية الاقتصاد المحلي داخل النسيج العتيق.
- التنشيط: بهدف الرفع من الجاذبية الاقتصادية.
- السياحة: تشخيص تشاركي يهم المجتمع.
يعتبر تثمين الموروث الثقافي للمدينة العتيقة لفاس ضرورة ملحة للنهوض بالرأسمال اللامادي والروحي والثقافي، لهذا يجب وضع خطة تنموية على المستوى العمراني والاقتصادي والاجتماعي والسياحي لتأهيل النسيج العتيق، وذلك بتعبئة جميع المتدخلين والفاعلين في التراث في إطار مقاربة مندمجة ومتعددة القطاعات لتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية والتنمية المستدامة للموروث الثقافي.
المراجع
- ماجدة صواب وبوشتى الخزان، إستراتيجية وتنمية التراث المعماري الحضري بالمغرب، دراسات من التراث العمراني- أبحاث وتراث، المملكة العربية السعودية، الطبعة الخامسة،2015،ص.187.
- مايكل إييجمان، الاقتصاد السياسي:النظرية السياسية، ترجمة محمد ابراهيم منصور، دار المريخ للنشر، المملكة العربية السعودية،1988،ص.43.
- محمد عبد الرؤوف وآخرون، حاجة الإنسان العربي للغذاء والصحة ورعاية الطفولة، دار النشر طلاس 1991،ص 19.
- فيدل كاسترو، أزمة العالم، دار المستقبل للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة، الطبعة الأولى، 1992،ص.206.
- المقال بنسخة PDF أعلى الصفحة
البريد الالكتروني للكاتب: anasroukia@gmail.com