"هناك اختلافات بيولوجية بين الذكور والإناث على مستوى الحيوان والإنسان، وبالطبع قد تؤثر هذه الإختلافات على صحة الرجال والنساء. فهل يؤثر ذلك أيضا على إصابة الجنسين بفيروس كورونا "
أظهرت البيانات التي تم جمعها من العديد من البلدان الأكثر تأثراً بجائحة "كوفيد–19" أن الرجال معرضون بشكل كبير لخطر الإصابة بأعراض شديدة والوفاة عند مقارنتهم بالنساء. فعلى سبيل المثال، إيطاليا لديها حتى الآن 71% من جميع وفيات الحالات منسوبة إلى الرجال، و29 % فقط من النساء. وشهدت إسبانيا، وهي نقطة عالمية ساخنة أخرى، 65% من جميع الوفيات منسوبة إلى الرجال، و35% فقط من النساء. وفي إيطاليا والصين، نسبة وفيات الرجال أكثر من ضعف وفيات النساء. وفي أمريكا شكّل الرجال في مدينة نيويورك حوالي 61% من المرضى الذين يموتون. ونفس النسبة تقريبا في أستراليا مع ملاحظة أن أغلبها في الفئات العمرية السبعينات والثمانينات.
وتـطرح هذه الإحصائيات سؤالا مهما " لماذا"؟ لماذا الرجال أكثر عرضة للمضاعفات والوفيات من النساء؟. هل الأسباب التي تكمن في الإختلافات بين الرجال والنساء في الجينات أو الهرمونات أو الجهاز المناعي أو حتى الممارسات السلوكية هي التي تجعل الرجال أكثر عرضة للإصابة بالمرض؟. قد تكون الإجابة المنطقية لهذا السؤال كل هذه العوامل مجتمعة. ومن المعروف أن الإستجابة المختلفة بين الرجال والنساء للأمراض موجودة بالفعل في العديد من الثدييات، وبالتالي قد تكون نفس العوامل متعلقة أيضا بالفروقات بين الرجال والنساء للإستجابة لفيروس كورونا الجديد.
وبالرغم من أن العمر يمثل أحد المتغيرات الرئيسية في شدة مرض "كوفيد-19" إلا أن هذا لا يمكن أن يفسر التحيز الجنسي الذي يشهده العالم في زيادة معدل وفيات الذكور، خاصة أن نسبة الذكور إلى الإناث هي نفسها في كل فئة عمرية من 30 إلى 90+. بل أن متوسط عمر النساء أطول بـست سنوات عن عمر الرجال. لذلك فهناك عدد أكبر من النساء المسنات في الفئات السكانية المستهدفة بفيروس كورونا. وقد يكون العامل الرئيسي الآخر هو نسبة الأمراض المزمنة، وخاصة أمراض القلب والسكري والسرطان والتي هي أكثر شيوعًا في الرجال منها في النساء، والتي قد تكون مسؤولة عن بعض التحيز. ولكن يجب أن نسأل بعد ذلك لماذا الرجال أكثر عرضة للأمراض التي تعرضهم لخطر أكبر من مرض "كوفيد-19"؟
من المعروف أن الرجال والنساء مختلفون بيولوجيا في الكروموسومات الجنسية والجينات التي تقع عليها. فلدى النساء نسختان من كروموسوم (متوسط الحجم) يسمى (X) أما الرجال فلديهم كروموسوم X واحد وكروموسوم Y صغير الحجم يحتوي على عدد قليل من الجينات مقارنة بـكروموسوم X . وأحد هذه الجينات المعروف باسم SRY الموجود على كروموسوم Y يوجه الجنين ليصبح ذكراً عن طريق البدء في تطوير الخصيتين في الجنين الذي تكوينه الوراثي . XY ففي الجنين الذكر تتكون الخصيتان وتقوم بتصنيع هرمونات ذكورية والتي تجعل الطفل ينمو كصبي. أما في غياب SRY فيتكون المبيض والذي يصنع الهرمونات الأنثوية .وهي الهرمونات التي تتحكم في معظم الاختلافات الواضحة بين الرجال والنساء من حيث الأعضاء التناسلية والثديين والشعر وتضاريس هيئة الجسم وكذلك فإن لها تأثير كبير على السلوك. كما أن كروموسوم Y بالكاد يحتوي على جينات أخرى غير SRY ولكنه مليء بالتسلسلات المتكررة من الحامضDNA الغير المرغوب فيها. ولذلك فربما تفقد المتتابعات الجينية على كروموسوم Yتنظيمها أثناء الشيخوخة مما يؤدي إلى تسريع الشيخوخة لدى الرجال ويجعلهم أكثر عرضة للعدوى الميكروبية بما فيها فيروسات. ولكن المشكلة الأكبر للرجال هي الهرمونات الذكرية التي يطلقها جين SRY ، حيث يكون مستويات عالية من هرمون التستوستيرون المتورط في العديد من الأمراض، خاصة أمراض القلب والضغط، والتي بالطبع تؤثر على العمر.
وعلى عكس ذلك يتضرر الرجال أيضًا من انخفاض مستويات هرمون الاستروجين، والذي هو عالي بطبيعة الحال لدى النساء، والذي يحميهن من العديد من الأمراض، بما في ذلك أمراض القلب. وتؤثر الهرمونات الذكرية أيضًا على السلوك حيث وجد أن مستويات هرمون التستوستيرون العالية عند الذكور يرجع لها الفضل في وجود اختلافات كبيرة بين الرجال والنساء في السلوكيات المحفوفة بالمخاطر، مثل التدخين وشرب الكحول، بالإضافة إلى الإحجام عن الإستجابة للإستشارة الصحية وطلب المساعدة الطبية. وقد تساعد الاختلافات الشديدة في نسبة التدخين بين الرجال والنساء في الصين (ما يقرب من نصف الرجال يدخنون مقابل2 % فقط من النساء) في تفسير النسبة العالية جداً لوفيات الذكور (أكثر من ضعف الإناث). والتدخين ليس عامل خطر شديد لأي مرض تنفسي فحسب، بل يسبب أيضًا سرطان الرئة، وهو عامل خطر إضافي. فقد خلصت مراجعة للبحوث الموجودة حتى 17 مارس إلى أن "التدخين يرتبط على الأرجح بالتقدم السلبي والنتائج السلبية لكوفيد– 19"، وأرجعت منظمة الصحة العالمية أن هناك عدة أسباب لذلك: الأول هو أن المدخنين أكثر عرضة للإصابة بأمراض الرئة، وهو عامل خطر ثابت للعدوى الشديدة، والآخر هو أنه عند ممارسة التدخين، من المرجح أن يلمس الشخص فمه أو وجهه مما قد يسمح للفيروس بالدخول بسهولة.
وعادة ما يكون التدخين أكثر شيوعًا بين الرجال منه بين النساء. وفقًا لتحليل عام 2017 في مجلة علم الأوبئة وصحة المجتمع، فإن 54 % من الرجال الصينيين البالغين يدخنون التبغ، مقارنة بـ 2.6 % فقط من النساء الصينيات. كما أفاد البنك الدولي أنه حتى عام 2016، كان حوالي 41% من الرجال الكوريين الجنوبيين يدخنون مقابل حوالي 6% من النساء. (تظهر إسبانيا أيضًا نفس الاتجاه العام، كما هو الحال في الولايات المتحدة، ولكن الفرق بين الجنسين ليس كبيرًا كما هو الحال في الصين وكوريا الجنوبية). ولأن معدلات التدخين أقل وليست مرتبطة بنوع الجنس في العديد من البلدان الأخرى، لذلك لا يمكن للسلوك المحفوف بالمخاطر أن يفسر في حد ذاته الفرق بين الجنسين في وفيات "كوفيد-19". ولذلك ربما يكون للكروموسومات الجنسية تأثيرات أخرى.
ويبدو أنه من المنطقي أن وجود اثنين من الكروموسومات X (كما هو في الاناث) أفضل من وجود كروموسوم X واحد فقط) كما هو في الذكور) وذلك لوجود أكثر من 1000 جين تقوم بـوظائف عدة بما في ذلك التمثيل الغذائي الروتيني وتخثر الدم وتطور الدماغ. وكذلك فإن وجود كروموسومين X في الإناث يوفر فرصة لتصحيح الأخطاء إذا ما حدثت طفرة في أحد الجينات على كروموسوم X الآخر. وذلك مقارنة بالذكور(XY) التي تفتقر إلى نسخة احتياطية من الكروموسوم X فتكون فرصة تصحيح الخطأ أقل. وقد يفسر ذلك لماذا يعاني الذكور من العديد من الأمراض المرتبطة بالجنس مثل الهيموفيليا (ضعف تخثر الدم). كما أن الدراسات على الفئران كشفت أن عدد الكروموسومات X له تأثيرات كبيرة على العديد من الوظائف الأيضية التي يمكن فصلها عن تأثيرات الهرمونات الجنسية. وقد يفسر ذلك أيضا سبب وفاة الذكور بمعدل أعلى من الإناث في كل عمر منذ الولادة. فيكفي أن تمتلك الإناث جرعة مضاعفة من العديد من الجينات X مما يجعلها تستفيد أيضاً من نسختين مختلفتين من كل جين .
وتنعكس الإختلافات الجينية بين الرجال والنساء أيضا على وظائف جهاز المناعة، فقد أصبح من المعروف منذ فترة طويلة أن لدى النساء جهاز مناعة أقوى من الرجال مما يمنح النساء ميزة عندما يتعلق الأمر بعدوى الفيروسات. فهناك ما لا يقل عن 60 جيناً للاستجابة المناعية على الكروموسومX . ويبدو أن إمتلاك نسختين مختلفتين من هذه الجينات تمنح النساء طيفاً أوسع من الدفاعات المناعية ضد الميكروبات .وقد يفسر ذلك سبب كون الرجال أكثر عرضة للإصابة بالعديد من الفيروسات عن النساء، بما في ذلك السارس ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية. ولكن على الجانب الآخر، فإن هذه القوة المناعية لدى النساء تجعلهن أكثر عرضة من الرجال لأمراض المناعة الذاتية مثل الذئبة الحمراء والتصلب المتعدد. كما أن الاختلافات بين الجنسين في الأمراض يظهر أيضا في استجابة النساء لفعالية العلاج للعديد من الأمراض.
وبناء على هذه المعلومات الجينية والفروقات بين الذكور والإناث نعود إلى السؤال المحوري وهو لماذا يخسر الرجال المعركة ضد فيروس كورونا أكثر من النساء؟ هل الإجابة تعود إلى الإختلافات الجينية والهرمونية أم بسبب الإختلافات في استراتيجية الحياة بين الذكور والإناث؟ لعل الإجابة تعود لكل هذه الأسباب مجتمعة ولكن تميل كفة التفسير العلمي أكثر إلى جهاز المناعة الأقوى لدى النساء. فسبحان الخالق، لأن المرأة هي المطلوب منها فطريا رعاية الصغار فكان لابد من تعزيز قدرتها المناعية، وهذا الأمر يبدوا منطقيا لمعظم الثدييات.
لذا فنحن نرى أن التحيز الجنسي في وفيات الرجال بسبب "مرض كوفيد-19 " مقارنة بالنساء هو جزء من صورة أكبر بكثير – وصورة أقدم بكثير – للاختلافات الجنسية في الجينات والكروموسومات والهرمونات بين الذكور والإناث التي تؤدي إلى استجابات مختلفة تماماً لجميع أنواع الأمراض، بما في ذلك "مرض كوفيد-19 ".
ولا يزال هناك الكثير الذي لا نفهمه حول الاختلافات الجنسية التي شوهدت حتى الآن لجائحة كوفيد19 . ونأمل أن تخبرنا البحوث العلمية في قادم الأيام المزيد عن هذا المرض وأسباب هذا التحيز الجنسي.
وعلى كل حال علينا ألا نحسد النساء، ولكن نتعاطف مع الرجال فالكل في التعرض لهذا المرض المعدي سواء.
المراجع
البريد الالكتروني للكاتب: mohamedlabibsalem@yahoo.com