مقدمة
إن هذا المقال القصير هو خلاصة لمحصلة عام من البحث المستمر، والمتابعة الحثيثة، والدراسة المتعمقة، والتحليل الدقيق، لعدد من الدراسات والتقارير والمؤشرات المتعلقة بالبحث العلمي باليمن، إضافة إلى ملاحظات ومشاهدات كاتب المقال، ومحاكاته اليومية للواقع المعاش، بحكم موقعه الوظيفي كمديراً عاماً لدراسات وأبحاث التعليم العالي بقطاع البحث العلمي بوزارة التعليم العالي في اليمن، ويعد هذا المقال محاولة متواضعة للإجابة عن تساؤل في غاية الأهمية، ويشكل هاجساً يؤرق الكاتب، ويتمثل في معرفة واقع الإنتاج والنشر العلمي بالجمهورية اليمنية، ومقترحات تطويره في ضوء متطلبات العصر الرقمي.
وللإجابة عن هكذا تساؤل؛ فإنه ومن باب أولى؛ كشف الواقع الحالي للإنتاج والنشر العلمي، وتسليط الضوء على المعوقات والتحديات، ومن ثم تقديم جملة من مقترحات التطوير، وهي بمثابة توصيات عامة لصناع السياسة التعليمية، ومتخذي القرار، وقادة التعليم العالي والبحث العلمي باليمن بوجه عام، وللمؤسسات والمراكز العلمية وللباحثين بوجه خاص، وذلك على النحو الاتي:
أولاً: واقع الانتاج والنشر العلمي باليمن
يعد قطاع التعليم العالي والبحث العلمي في اليمن من أكبر القطاعات الخدمية، ويصل عمره إلى نصف قرن، حيث تم تأسيس أول جامعتين يمنيتين عام 1970، وهما جامعتي صنعاء وعدن، تلا ذلك تأسيس عشرات الجامعات، وعشرات المراكز البحثية، حتى اليوم، فمن ناحية التكوين المؤسسي؛ تشير الإحصائيات لعام 2019، إلى أن في اليمن حوالي (72) جامعة (حكومية وأهلية) مع الفروع في بعض المحافظات، وفيها ما يربو عن (92) مركزاً بحثياً. ومن ناحية الإنتاج العلمي والمعرفي لهذه المؤسسات؛ فيوجد لدى اليمن إنتاج علمي غزير ووافر، حيث بلغ عدد الرسائل العلمية – حتى كتابة هذا المقال – ما يقارب (16000) رسالة علمية، (ماجستير ودكتوراه)، أجيز منها عدد جيد من أعرق الجامعات المحلية والعربية والدولية، في أكثر من 70 دولة، "وتتسم الرسائل العلمية بتنوعها، وتعدد لغاتها، إذ تجاوزت أكثر من 18 لغة؛ إلا أن ما يقارب من 60% منها كتبت باللغة العربية، وتتضمن أكثر من (24) مجالاً بحثياً، موزعة بين العلوم الانسانية والاجتماعية والتطبيقية والتقنية"(1)، وعلى الرغم من أن هذا العدد يبدو كبيراً، ويبعث البهجة والسرور، إلا أن هذه الإحصائية لا تزال ناقصة، نتيجةً لغياب قاعدة بيانات وطنية شاملة وحديثة، ونتيجةً لانخفاض نسبة إيداع الرسائل العلمية لدى المركز الوطني للمعلومات، للعشر السنوات الأخيرة، بسبب الحروب والصراعات القائمة باليمن.
كما يوجد ما يقارب عشرة آلاف من أبحاث الترقيات التي يقوم بها أساتذة الجامعات، حيث رصدت الشؤون الأكاديمية لجامعة صنعاء وحدها حتى نهاية 2019، ما يزيد عن 3372 بحثاً، وهي للأساتذة والأساتذة المشاركين فقط، ناهيك عن أبحاث الأساتذة المساعدين، والأساتذة الذين ينشرون في عدد من المجلات والمؤتمرات العلمية، محلياً ودولياً، ولا يتم توثيقها أو التعرف إليها.
إن حجم الانتاج العلمي والمعرفي اليمني كبير، ومتنوع، وهو حصيلة نصف قرن من التعليم والبحث، أنفق عليه ملايين الدولارات، إذ تستهلك الرسائل العلمية سنوياً الالاف من ساعات العمل والتدريس والبحث والتأطير والكتابة والنسخ والتوثيق والحفظ والأرشفة، من دون أن يكون للمجتمع العلمي والمحلي إحاطة وافية وشاملة عن ذلك الإنتاج وتلك الثروة. وعلى الرغم من زيادة عدد الرسائل العلمية؛ إلا أن ثمة دلائل، تشير إلى أن الأجيال الجديدة من الباحثين، ما زالت تكرر وتستنسخ بعض الموضوعات البحثية، ويتسبب هذا في هدر الطاقات والوقت والجهد والمال، وانتاج معرفة منسوخة من بعضها، فالإنتاج العلمي الموجود حالياً في المكتبات الجامعية، لم ينشر الكترونياً، ولم يتمكن الجمهور العلمي المحلي والعربي من الوصول إليه، فهو لا يزال غير معلوم (داخلياً وخارجياً)، وأقل ما يمكن وصفه بأنه كنز مدفون، ولم يصل إليه طالبوه، ولا يستفاد منه، ولم يلتفت إليه صناع القرار، وراسمي السياسات العامة بالحكومة، ولا أي من القطاعين؛ (الحكومي أو الخاص)، بل ظل – ولا يزال – الإنتاج المعرفي باليمن حبيس الأدراج، وعلى رفوف المكتبات الجامعية، ولم يتم توظيفه في مجالات الحياة المختلفة، ولم يسخر لخدمة المجتمع، أو تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وتحسين الحياة العامة.
وعند تحليل هذه المشكلة، والوقوف على أسبابها، يتضح جلياً؛ أن اليمن لا تعاني من ضعف أو قلة الانتاج العلمي، فليست المشكلة في الكم، ولكن هناك علامات استفهام كثيرة عليه من حيث الجودة، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، غياب النشر العلمي المميز لذلك الانتاج، حيث أن جميع الجامعات لا ترفع انتاجها المعرفي، من رسائل الماجستير والدكتوراه، وأبحاث الترقيات على مواقعها الالكترونية، وهي لا تزال بوضعها التقليدي والورقي، رغم وجود نسخ الكترونية لعدد جيد من الرسائل والبحوث، ولم تعمل الجامعات على بناء مستودعات رقمية حديثة.
كما يؤخذ على الانتاج العلمي اليمني؛ أن معظمه هو حصاد طلبة الدراسات العليا لمرحلتي الماجستير والدكتوراه، ولا ينسب إلى أساتذة الجامعات إلا القليل، وإن وجدت بعض الأبحاث المنشورة فهي لأغراض الترقيات العلمية ليس أكثر، أما عن حركة التأليف، والترجمة، والنشر الدولي، والبحوث الجماعية، فلا تكاد تذكر؛ إذا ما قورنت بالدول المتقدمة، أو حتى بالدول العربية النامية، مثل: مصر والأردن وفلسطين ولبنان.
يتطلع المجتمع العلمي وجمهور الباحثين في اليمن، إلى اللحظة التي يرون فيها الإنتاج المعرفي اليمني ظاهراً للعيان، مسنوداً بإرادة حكومية، وشراكة مجتمعية فاعلة، ومساهمة القطاع الخاص، ومؤسسات الاتصال والتكنولوجيا، وشركات الأنظمة الرقمية، وتسهيل الوصول الحر الى هذا الكنز الثمين، والثروة العلمية المنسية، خاصة والبلد بأمس الحاجة إلى توظيف الإنتاج المعرفي، وحل ما أمكن من المشكلات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية وغيرها.
المحور الثاني: معوقات الانتاج والنشر العلمي في اليمن
- لا توجد قاعدة بيانات دقيقة وشاملة حول الانتاج المعرفي اليمني حتى اليوم، لا في المركز الوطني للمعلومات، ولا في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ولا في الجامعات على المستوى الوطني.
- إهمال البحث العلمي، وغياب موازنة كافية ومعلنة، وقلة الحوافز والجوائز العلمية.
- لا يسمح للجامعات بنشر الرسالة العلمية إلا بتفويض خطي من الباحث، كما لا توجد لديها مراكز للنشر العلمي.
- ربط الترقيات بالفترة الزمنية وليس بالإنتاج العلمي المميز لأعضاء هيئة التدريس، مما يولد الخمول وضمور البحث والانتاج والإبداع.
- عدم ادراج المجلات المحلية في قواعد البيانات العالمية وضعف الاهتمام بالحصول على الرقم الدولي ISSN.
- على الرغم من الانتشار الواسع لشبكة الانترنت ودخولها كل جامعة وكلية ومركز؛ وظهور العديد من الدوريات والمجلات العلمية الالكترونية، والمستودعات الرقمية، ومحركات البحث في مختلف البلدان العربية والأجنبية، إلا أنها لا تزال غائبة عن الجامعات والمراكز البحثية اليمنية حتى اليوم(2).
- غياب النشر العلمي المميز بشقيه (المطبوع والالكتروني)، فهذا الوضع القاتم ينذر بخطورة الإهمال للبحث العلمي باليمن، وسيادة نوع من الغفلة والتجاهل لرأس المال المعرفي، والذي يعد ثروة قومية لم تستغل، حيث تتقدم معظم الجامعات العربية في التصنيفات العالمية عاماً بعد عام، بسبب نشرها لإنتاجها العلمي، ولا تزال الجامعات اليمنية قابعةً – وللأسف الشديد – في المراتب الدنيا من التصنيف، وبحسب البيانات والمعلومات التي وردت في موقع منظمة المجتمع العلمي العربي – أرسكو(3)، حول الإنتاج العلمي العربي، والمنشور في قواعد بيانات شبكة العلوم (ISI)، وهي قاعدة بيانات لمعهد المعلومات العلمية التابع لشركة تومسون رويترز ISI Web of Knowledge، وذلك للفترة 2008- 2018، تبين تقدم السعودية عربياً، حيث نشرت خلال عشر سنوات حوالي (112,565) بحثاً وورقةً علمية، من مجموع (410,549)، أي ما يعادل ربع الانتاج العربي بأكمله، وبنسبة (25%)، يليها على التوالي مصر وتونس والجزائر فالمغرب، أما اليمن، فقد جاءت في المرتبة السابعة عشر، حيث نشرت (2,235) بحثاً، ولم تشكل رقم، حيث كانت النسبة المئوية (0.5) للأسف الشديد، وحلت في المرتبة الخامسة قبل الأخيرة، قبل موريتانيا وجيبوتي والصومال وجزر القمر، والسبب في هذا الإخفاق ليس في نقص الجامعات، أو الباحثين، أو الأبحاث، وإنما في غياب النشر العلمي المميز.
المحور الثالث: سبل التغلب على المعوقات ومقترحات التطوير
بعد استقراء الواقع، وتحديد ملامح الانتاج والنشر العلمي في اليمن، ومعرفة المعوقات، فإنه يمكن الانتقال من الواقع الموجود، إلى المستقبل المنشود؛ من خلال جملة من الإجراءات، أبرزها ما يلي:
- تنمية الوعي العام، وتعزيز الثقافة العلمية على المستوى الوطني، وإيلاء البحث العلمي مساحة كافية من جميع النواحي، إدارة وتنظيماً وتمويلاُ وإنتاجاً ونشراً وتطبيقا.
- ضرورة تحديث التشريعات بما يضمن إتاحة الانتاج العلمي على الانترنت، وضمان الوصول اليه بسهولة ويسر، فهناك تناقض بين بعض النصوص في قانون التعليم العالي، بالإضافة الى قانون الملكية الفكرية.
- مساعدة الجامعات على تفعيل نظم المعلومات ومواقعها الالكترونية، وتأسيس مكتبات رقمية وتمكين العاملين فيها من أتمته الرسائل العلمية والبحوث بالجامعات، وربطها بمحرك بحث محلي عبر منظومة رقمية وطنية يشرف عليها ويديرها مركز تقنية معلومات التعليم العالي وقطاع البحث العلمي.
- تأسيس وحدة النشر العلمي بمركز تقنية معلومات التعليم العالي، ومساعدة الجامعات على تأسيس مراكز ووحدات للنشر العلمي فيها، وتزويدها بالخطط والدعم الفني والارشادات اللازمة، وربطها بمحركات البحث، وقواعد البيانات العالمية ذات التأثير المرتفع، مثل: Scopus, SIS, Ulrich, Ebsco, Proquest, Nature, Eric, Sage, Oced, Springer, Sience Diirect, Medline…etc. وغيرها.
- رصد جوائز النشر العلمي المتميز للباحثين تمنح من قبل رئيس المجلس الأعلى للتعليم العالي بشكل سنوي.
- تطوير أساليب النشر العلمي الدولي والنشر الالكتروني واستحداث مجلات علمية الكترونية وتحفيز الباحثين على الانتاج والنشر، واصدار تعميم رسمي يقضي بمجانية النشر العلمي في الجامعات اليمنية.
- إيلاء الجامعات للنشر العلمي أهمية بالغة ودفع رسوم النشر للباحثين الذين يستطيعون النشر بمجلات دولية.
- عقد مؤتمر سنوي لمناقشة واقع ومؤشرات الانتاج والنشر العلمي بالجمهورية اليمنية وسبل تطويره.
- سرعة اصدار قانون صندوق البحث العلمي وحث الجامعات على زيادة الانفاق على البحث العلمي بما لا يقل عن 3% على الاقل من الموازنة العامة لها ودعم المجلات العلمية المصنفة ضمن قواعد البيانات العالمية.
- إعطاء النشر العلمي المميز ميزة وقيمة مضافة عند الترقيات بدلاً من الاهتمام بالفترة الزمنية.
- استغلال حماس الأساتذة المساعدين – حديثي التخرج – في الإشراف العلمي، والقيادة الجامعية، أسوة ببعض الدول بدلاً من اقتصارها على الأساتذة والأساتذة المشاركين.
المصادر
(1) رئاسة الجمهورية. (2013). ببليوغرافية الرسائل والاطروحات الجامعية، المركز الوطني للمعلومات، صنعاء، اليمن.
(2) وزارة التخطيط والتعاون الدولي (2014). محور التعليم العالي والبحث العلمي، مشروع إعداد الرؤية الموحدة للتعليم في اليمن.
(3) ارسكو.(2019). لمحة عن البحث العلمي بالوطن العربي. منظمة لمجتمع العلمي العربي، الدوحة، قطر، متوفر على الرابط: http://www.arsco.org/Studies-and-Research-Unit-statistics، بتاريخ 16/ 5/ 2019.
د/ خليل الخطيب
مدير عام دراسات وأبحاث التعليم العالي
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي – اليمن
البريد الإلكتروني للكاتب: Drkhalilalkhateeb78@gmail.com