عوامل بشرية أدّت إلى تآكل الشواطئ في مناطق من الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط وإلى تراجع السواحل بوتيرة عالية منذ أواخر القرن التاسع عشر، يقول باحثون. كشفت الدراسة أن النشاط البشري أصبح عاملاً رئيسياً لتدهور حالة السواحل خلال العقود القليلة الماضية رغم أهمية العوامل الطبيعية التي تركت أثراً واضحاً عليها منذ بداية القرن الماضي.
وحسب نتائج الدراسة المنشورة في دورية Journal of Photogrammetry and Remote Sensing العلمية في شهر نوفمبر الجاري 2019، فإن اختلال التوازن في إمداد السواحل بالرواسب نتيجة عدم انتظام هطول الأمطار من جهة، والتحضر الساحلي المكثف من جهة أخرى، أصبحا سبباً في تآكل الشواطئ في المناطق القاحلة وشبه القاحلة من ساحل شمال إفريقيا.
شارك في تأليف الدراسة الدكتور عصام حجي من جامعة جنوب كاليفورنيا ومخبر الدفع النفاث في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، إلى جانب الأستاذة الباحثة الدكتورة عُلا العمروني والباحث عبد الرؤوف حزامي من المعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار التابع لجامعة قرطاج بتونس.
تآكل وتراجع الشواطئ
من أجل تقييم تطوّر الخط الساحلي في منطقة خليج الحمامات (شرق تونس)، قام الباحثون بتحليل الصور الجوية والمدارية ورسم خرائط التباين الزمني للواجهة الفاصلة بين اليابسة والبحر وخرائط تغير استخدام الأراضي في المنطقة، بهدف تقييم تأثير النمو الحضري على البيئة وتراجع الخط الساحلي. إضافة إلى رسم خريطة للتطور الزمني لتسلل مياه البحر في طبقات المياه الجوفية الساحلية الضحلة خلال أعوام 1962 و1996 و2005. كما استخدم الباحثون الصور الجوية الملتقطة خلال الفترة (1963 و1996)، وخرائط طبوغرافية تعود إلى أعوام 1931 و1943 و1974 وأخرى بحرية لقياس الأعماق في البحار ترجع إلى عام 1881 لإجراء مراقبة طويلة المدى للشاطئ.
يشير التحليل الزمني للمشاهد التصويرية الجوية والمدارية للمنطقة الساحلية لمنطقة الدراسة إلى أن حوالي 70 بالمائة من شواطئ الخليج الرملية تتآكل حالياً بمعدل يزيد عن 50 سنتيمتراً في السنة خلال فترة الدراسة. بينما لا تزال نسبة 10 بالمائة من الشواطئ الرملية مستقرة نسبياً، في الوقت الذي تسجل فيه نسبة العشرين بالمائة الباقية من السواحل تراكما يفوق المتر الواحد في السنة.
ويقول الباحثون "إن معدلات التراجع هذه غير طبيعية مقارنة بمتوسط تراجع في حدود 7 سنتيمترات في السنة حسب السيناريوهات العالمية". وتقول الباحثة الدكتورة عُلا العمروني إن " صوراً قديمة تعود لأواخر القرن التاسع عشر، تُظهر كثباناً رملية تفصل قلعة الحمامات عن البحر لكن هذه الكثبان اختفت من صور التقطت لاحقاً حوالي عام 1910 بالتزامن مع تسونامي كانت دراسات سابقة قد أكدت حدوثه في تلك الفترة في مدينة كاتانيا على جزيرة صقلية الموجودة مقابل سواحل الحمامات ".
العامل البشري
ولئن أرجع الباحثون معدلات تآكل الشواطئ التي لوحظت في بداية القرن خلال الفترة 1884-1931 إلى الأسباب الطبيعية بما في ذلك العواصف البحرية وأمواج التسونامي أو الظواهر الجيولوجية مثل هبوط الجرف القاري، فهم يؤكدون أن العوامل المرتبطة بالنشاط البشري خلال العقود القليلة الماضية كالامتداد العمراني وبناء السدود أدّت إلى نقص تبادل الرواسب بين اليابسة والبحر الذي أدّى بدوره إلى تآكل الشواطئ.
"لقد أصبحت الشواطئ محرومة من العناصر التي تساهم في تعافيها مثل التربة والمواد التي كانت تحملها مياه الأودية التي تصب في البحر بسبب إنشاء السدود. إضافة إلى الصيد العشوائي لكائنات بحرية ساحلية مثل الأصداف"، كما تقول الباحثة في حوار مع موقع منظمة المجتمع العلمي العربي.
لكن تداعيات تآكل الشريط الساحلي تتجاوز مسألة تغير الحدود الفاصلة بين البحر واليابسة إلى ما يمس الأمن الغذائي، عبر تسريع تسرب الملح في طبقات المياه الجوفية الساحلية الضحلة وتجفيف التربة وتدهورها، الأمر الذي ترك أثره في تطور البحيرات المالحة والتربة على بعد خمسة كيلومترات من الساحل. "فإذا كان البحر يتقدم ظاهرياً فهو يفعل ذلك أيضا تحت سطح الأرض" كما تقول الباحثة التونسية عُلا العمروني.
"الضرر البشري بدا واضحا منذ ثمانينات القرن الماضي بعد إنشاء العديد من السدود ومنع مياه الأودية من الوصول إلى البحر"، تقول العمروني. فقد أدّى تآكل الشواطئ المرتبط بالنمو السكاني إلى تسريع ظاهرة تملح طبقات المياه الجوفية الساحلية التي لوحظت في عمق يصل إلى حوالي خمسة أمتار تحت سطح الأرض. وأسفر هذا التمليح إلى تدهور جودة التربة وتوسع مساحات السباخ الملحية.
كما أدّى الارتفاع السريع في معدل النمو السكاني الحضري من عام 1984 إلى عام 2014 بنسبة 47 بالمائة على طول الساحل الشمالي الشرقي في تونس (ولاية نابل)، إلى جانب نمو النشاط الزراعي والاقتصادي، إلى ارتفاع الضغط على الموارد المائية في الخليج الشمالي لمنطقة الدراسة. وقد سجلت في العقود الأخيرة، على سبيل المثال زيادة ملحوظة في مستويات الملوحة في طبقة المياه الجوفية الساحلية في مدينة قربة، ليكون دليلاً على تسرب المياه المالحة بسبب الاستخراج المفرط للمياه الجوفية منذ عام 1962.
تهديد للأمن الغذائي
كان باحثون قد اقترحوا في دراسات علمية سابقة أن تقدم مياه البحر في اتجاه اليابسة ناتج بشكل أساسي عن تراجع كميات الماء في الطبقات الجوفية نتيجة استخدامها في الري. وقد مكنت المسوحات الجيوفيزيائية في سهل "لبنى" (شمال خليج الحمامات) فريق الباحثين من التوصل إلى أن الواجهة بين المياه المالحة والمياه العذبة قد تراجعت إلى الداخل لمسافة تقدر بين 3 و5 كيلومترات وأكثر من 100 متر في العمق منذ عام 1962.
كما تُظهر خطوط تساوي ملوحة المياه الجوفية زيادة تدريجية في الملوحة بين عامي 1963 و2005 بعد بناء العديد من السدود في اتجاه مجرى المياه (على سبيل المثال، على أنهار "شيبة" و"لبنى" بين عامي 1963 و1986).
ولاحظ فريق البحث النمو الحضري بشكل رئيسي على طول الأجزاء الساحلية والغربية من طبقة المياه الجوفية حيث زادت ملوحة المياه من 2 غرام إلى أكثر من 6 غرام في اللتر ويصل التركيز في بعض المناطق إلى 8 غرام في اللتر.
وأشار الباحثون إلى أن لهذه التغيرات البيئية المفاجئة تأثير سلبي كبير على الإنتاج الزراعي مع انخفاض مساحة الأراضي الزراعية بنسبة 18 منذ أوائل ستينات القرن الماضي مما يؤثر على الأمن الغذائي في هذه المناطق المكتظة بالسكان. وهذا ما يعني حسب الباحثة العمروني "أن لتدهور الشريط الساحلي تداعيات خطيرة كذلك على الأمن الغذائي بسبب تأثر المياه الجوفية بملوحة البحر."
وأخيراً، تشير الباحثة عُلا العمروني إلى تداخل هذه العوامل التي أدّت لتآكل السواحل مع تداعيات التغيرات المناخية بسبب الاحترار العالمي "فقد سجلت في السنوات الأخيرة زيادة في ارتفاع أمواج البحر تجاوزت سبعة أمتار وهو أمر غير مألوف في الماضي".
المصدر
البريد الإلكتروني للكاتب: gharbis@gmail.com