مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

نحو التحول من مجتمع المعرفة إلى مجتمع الإبتكار

الكاتب

الكاتب : أ.د عودة الجيوسي

مستشار في التنمية المستدامة

الوقت

03:17 صباحًا

تاريخ النشر

15, مايو 2014

قد يمتلك بلد ما كافة المؤسسات اللازمة للتعليم لكنه لا يمتلك تعليم تحولي من أجل المواطنة والتنوير. لذا من الملاحظ أننا نشهد حالياً تعثراً في المسارات التي تقودنا نحو النهضة والتنوير في الوطن العربي، لأن البيئة الممَكِّنة بحاجة إلى الإنسان الذي يملك العقل الحضاري والفعل الحضاري.

إن الذي يُحفز جيل الشباب لإطلاق العنان للطاقات الكامنة هي صياغة مشروع حضاري نهضوي إقليمي يمثل الحلم العربي. وهذه الرؤية تتطلب إعادة النظر في نظم الحوكمة والتعليم والعقد الإجتماعي الذي يصهر كافة أطياف المجتمع في المشروع الحضاري النهضوي. لقد طوَّر العالم عدة نماذج للتكتلات الإقتصادية والعلمية والسياسية مثل الإتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية ودول جنوب شرق آسيا. إن تجربة منتدى غرب آسيا وشمال افريقيا (WANA) تمثل خطوة في المسار الصحيح لصياغة القواسم المشتركة لتطوير خطاب جديد يعظم الميزة التنافسية للإقليم ككل ويحترم الحريات العامة ويعزز دولة القانون وبرامج التنمية المستدامة المحلية التي تعزز الإنتاجية والنمو والتنافسية والإبداع والإزدهار للجميع.

إن أي مشروع نهضوي بحاجة إلى مراجعة التركيبة الإقليمية و منظومة التعاون في دول مجلس التعاون الخليجي لبناء تحالفات علمية للإبتكار. إن تطور منظومة التكامل العربي  ضمن منظمة دول مجلس التعاون الخليجي (GCC) لتضم دول الجوار مثل الأردن و العراق و اليمن و مصر يضيف عمقاً إستراتيجياً للمشروع العربي الذي يوفر الرأسمال البشري والفكري والمالي ويحقق منظومة جيدة من الأمن القومي الذي يضم الماء- الغذاء- الطاقة ويشكل كتلة حرجة للباحثين و للمجتمع العلمي في ظل وجود مؤسسات بحثية مميزة في قطر (مؤسسة قطر) وفي المملكة العربية السعودية (جامعة الملك عبدالله للعلوم و التكنولوجيا) (KAUST) و في الكويت (معهد الكويت للأبحاث العلمية) (KISR) وفي الأردن (الجمعية العلمية الملكية) (RSS). لأننا في ظل التحالفات الإقتصادية نحن بأمس الحاجة إلى التحالفات البحثية للتطوير و الإبتكار.

إن المشروع الحضاري العربي منذ بداية القرن و الذي حمل لواءه الكواكبي و الأفغاني وغيرهم أعتبر العلم و التربية و الوحدة و الحرية السياسية اللبنات الأساسية للنهضة. والثقافة العربية تزخر بأصول لتوليد المعرفة العميقة من أجل التحرر الإنساني، ومن هذه الأصول المساءلة والشفافية والعدل والمحاججة والدليل وتقديم الحجة و الإقناع و إعتماد المنهج الرصين للتحقق من المعلومة و فهم عالم الأسباب والسنن الإجتماعية وفهم طبائع العمران لأنها مرتبطة بطبائع الإستبداد و لأن الإستبداد في التعليم هو الذي يقفل بوابة الإبداع و الريادة. وللتحول من مجتمع المعرفة إلى مجتمع الإبتكار نحن بحاجة لتطوير المدن الذكية لشحذ الذكاءات المتعددة، لأن فضاءات التعلم تشمل التعلم من المحيط الخارجي مثل الحدائق العامة والمتاحف وترتبط بحاجات الإنسان وهموم العالم.

وهذا التحول بحاجة إلى تجاوز حالة المثقف المقاول في علاقة المثقف مع السلطة الحاكمة والتحلي بثقافة "صديقك من صَدَقك لا من صَدَّقك"، ولا بد من تجاوز حالة الثقافة و الإعلام الذي يقدس السلطة ويحتكر الحق والحقيقة لأن لدينا الكثير من المثقفين لكن الندرة منهم هم المفكرون والعلماء والفقهاء لأن الدور الهام للمفكر هو نقد و تصويب حالة المجتمع.

إن العطاء الفني الرفيع لأدباء و علماء المهجر أمثال جبران خليل جبران و أيليا أبو ماضي و أدوارد سعيد و أسماعيل الفاروقي وزويل كان سببه وجود البيئة الممكنة للإبداع و توفر مناخ الحرية اللازمة الذي يساعد المفكر على الإنسجام مع النفس و فهم الواقع و حركة التاريخ و تداول الأمم، و لعل تراجع التعليم من أجل المواطنة و التعليم من أجل الإبداع وتوليد المعرفة وتكوين المؤسسة المتعلمة هو الذي أدّى إلى الغربة و الإغتراب في الوطن العربي، وهذا بدوره أدّى إلى فقدان المشاركة الفاعلة في المجتمع و فقدان السيطرة والمعنى و المرجعية الأخلاقية. ومن نتائج الإغتراب (حالة اللامنتمي) ضمور دور المجتمع المدني و العمل التطوعي و هيمنة و وصاية السلطة على نوافذ العمل الإبداعي والفني والثقافي.

من الملفت للنظر أن عصر المخطوطات اليدوي تم تجاوزه بإختراع الطباعة والآن مع تصاعد تقنيات التواصل الإجتماعي وثورة المعلومات والإتصالات (twitter, facebook) والنشر الالكتروني Wikipedia فإننا نعود من جديد و بحلّة جديدة إلى "عصر المخطوطات الأول" وهذا بحاجة إلى ضبط لجودة و صحة المعلومة لأن ضخامة المحتوى المعرفي تفوق القدرة الحالية على التحليل و الفهم و الإستيعاب و التمحيص، لذا نجدنا أمام جيل يمتلك المهارات لكن تنقصه المعرفة، و يمتلك القدرة للوصول للمعلومة لكن يصعب عليه تحليلها و ربطها و فهمها موضوعياً، حسب ما أشار اليه تقرير المعرفة العربي الصادر عن برنامج هيئة الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).

ولسبر غور الشروط اللازمة للتحول من مجتمع المعرفة إلى مجتمع الإبتكار، أود أن أتطرق إلى مجموعة مداخل أساسية لهذا الموضوع وهي نظرية سوسولوجيا العلم، السياسة العلمية والنظام السياسي والحوكمة. إن منظور سوسولوجيا العلم يتفاعل مع جملة من الأنساق الفكرية والإقتصادية والإجتماعية، ومن هذا المنطلق فإن النظام السياسي و الحوكمة تؤثر في صيرورة العلم و نموه و ينعكس ذلك بدوره على المجتمع المعرفي وقدرته على توليد المعرفة وعلى طبيعة حوكمة مؤسسات البحث العلمي حسب كتابات الباحث المصري السيد ياسين التي تطرقت لهذا المنحى، ولذا هناك علاقة عضوية بين العلم والمجتمع حيث يمكن إعتبار عملية البحث العلمي وتوليد المعرفة كنشاط إجتماعي مقصود وهذا يبدو جلياً عند مراجعة تطور البحث العلمي في المانيا قبيل الحرب العالمية الأولى ضمن الخطة التي وضعها القيصر ولهلم الذي نقل تجارب بروسيا و فرنسا لتنظيم التعليم، وكذلك يمكن الرجوع إلى تجربة كل من مصر والعراق في تأسيس المراكز العلمية قبل حوالي نصف قرن ضمن رؤية فكرية معينة. والمتأمل لمشروع محمد علي في مصر يلاحظ تركيزه على الترجمة والعلم والبعثات العلمية.

بالإضافة فإن سوسولوجيا العلم تركز على القيم السائدة في المجتمع ووضع العلم في سلم القيم و مدى سيادة التفكير العلمي والإبداع في المجتمع، ويتضمن ذلك الحرية الأكاديمية و التنظيم الإجتماعي الأكاديمي ونوعية المدارس العامة والخاصة و المناهج المتبعة. ولعل التعرض إلى سوسولوجيا العلم يفسر مستوى النتاج العلمي للباحثين العرب كماً و نوعاً وهجرة العقول و حالة الإغتراب العربية للباحثين العرب. المدخل الثاني هو صياغة السياسة العلمية و نظام الإبتكار و تحديد أولويات البحث العلمي والتوازن بين البحوث الأساسية والتطبيقية وهذا مرتبط بمدى العلاقة بين العلم والتنمية ووجود مشروع نهضوي يُحفز و يلهم و يجمع جهود العلماء من المراكز البحثية العربية والعالم لتوليد المعرفة في مختلف الميادين و الحقول المعرفية.

إذا كانت الحاجة هي الأم لتوليد المعرفة فإن الحرية وتمكين مساحة للحوار هي الأب لتحويل المعرفة إلى إبتكار، لأن النظام السياسي يؤثر على المناخ الفكري و حرية التعبير و تعددية الرؤى وعدم إحتكار الحقيقة، كذلك يؤثر على علاقة النخبة السياسية بالعلماء ومدى إحترام المرجعية العلمية كقيمة عليا في مختلف قضايا المجتمع، لأن السياسة العلمية هي جزء ومكون رئيس لتحقيق الأمن القومي و بناء مفهوم الأمة. وفي الأنظمة الليبرالية يتمتع "المجتمع العلمي" (الأمة العلمية) بثقل فكري نوعي يؤثر في صياغة وتشكيل الرأي السياسي والرأي العام وخطط التنمية، لذا كان شعار المجتمع العلمي "العلم بالغ الأهمية بحيث لا ينبغي أن يُترك للسياسيين"  و"الإبداع بالغ الأهمية بحيث لا ينبغي أن يُترك للعلماء فقط".

خلاصة القول؛ لا بد من تطوير سياسة للعلم والتقنية و الإبداع لتحقيق الأمن القومي وتطوير بيئة لتوطين العلم والتقنية وتنظيم الإطار المؤسسي للباحثين (مثل أكاديميات العلوم) لتمكينهم من الإسهام في صياغة المشروع النهضوي وتمكين المجتمع العلمي من تصويب السياسات العامة.

 

البريد الإلكتروني للكاتب: odjayousi@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x