في الإنسان والحيوانات الثديية يحدث تواصل بين الجنين وأمه سلوكياً وعصبياً. وقد يؤدي هذا التفاعل إلى قرارات فطرية مبرمجة يتخذها الجنين للتعبير عن سلوكه مثل الحركة وغيرها من السلوك الإنفعالي في بطن الأم. وبالطبع، حدوث هذا التواصل منطقي في الثدييات لوجود الجنين داخل رحم الأم واشتراكهما في نفس البيئة الخارجية المحيطة والداخلية عن طريق المشيمة والحبل السري وجدار الرحم. ولكن مازال من غير المعروف ما إذا كان هذا التواصل بين الأجنة والأمهات يحدث أيضاً في الحيوانات من غير الثدييات، وهي الكائنات الأدنى تطوراً، حيث تضع الحيوانات البيض المخصّب خارج جسمها حتى يفقس بعد فترة محددة عن المواليد الصغيرة، والذي قد يحدث أحيانا بعيداً عن الأم.
في الثدييات، قد تتواصل أيضا الأجنة بعضها البعض داخل الرحم الواحد كما في حالة التوائم، سواء كانت متماثلة أم مختلفة. ولكن قد يكون غير معلوم ما إذا كانت الأجنة في الأرحام المختلفة تشعر ببعضها البعض إذا ما تجاورت الأمهات. وإذا حدث، ما هي لغة التحاور هذه؟ وكيف ومتى يستخدمها الجنين ليتحاور مع جنين آخر؟
كل هذه الأسئلة خيال علمي تحتاج إلى تجارب علمية رصينة تثبتها أو تنفيها. وإذا كان من الممكن إجراء هذه التجارب على الحيوانات الثديية كالقرود والشمبانزي، فإنه من الصعوبة بمكان تجربتها على الإنسان.
وللإجابة عن هذه الأسئلة، قام فريق علمي رائع من جوذي نوجيرا والبرتو فلاندوا بقسم بيئة وبيولوجية الحيوان بجامعة دي فيجو بأسبانيا بإجراء تجارب بسيطة في تصميمها ولكنها عظيمة في مدلولها على بيض طائر النورس.
أُثبت بالدليل العلمي في دراسة هي الأولى من نوعها في التاريخ، أن أجنة طائر النورس تشعر ببعضها البعض تجاه الخطر من صوت حيوان مفترس لها مثل المنك "العرسة". وينتج عن هذا التحاور اللاسلكي قرارات سلوكية فطرية تؤثر في وظائف الجنين تظهر جليّة بعد فقسه. فقد وجد الفريق البحثي أن الأجنة المعرضة للخطر داخل بيض طائر النورس تواصلت مع الأجنة في البيضات المجاورة استجابة لإشارات بيئية وذلك قبل الفقس، جعلتها تسلك سلوكا متشابها ووظيفيا بعد الفقس. وتم نشر هذا البحث في يوليو 2019.
(Noguera & Velando, Nature Ecology & Evolution, 2019)
لقد قام الفريق البحثي بجمع بيوض النورس المخصبة من أماكن مختلفة في مزرعة بجزيرة سالفورا باسبانيا، ثم تقسيمها إلى مجموعتين متماثلتين في العدد. تم وضع البيض في حوامل كل حامل يحتوي على ثلاث بيضات. تم توزيع حوامل البيض على مجموعتين كل مجموعة في حاضن منفصل له نفس الظروف المختبرية التي توفر بيئة الفقس. المجموعة الأولى التجريبية (البيض ذو اللون الأزرق) في الحاضن الأول تم تعريضها لتغير في الظروف البيئية والأخرى ضابطة (البيض ذو اللون الاصفر) أي لا تتعرض لأي تأثير خارجي. ثم قام الفريق البحثي بأخذ بيضتين من الثلاث بيضات من المجموعة الأولى أربع مرات في اليوم ووضعها في صندوق منفصل به صوت يحاكي صوت حيوان المِنك المعروف باسم "العرسة" والمشهور بنهمه لأكل بيض النورس.
وبعد فترة زمنية محددة من التعرض للصوت أعيد البيض (عدد 2 من أصل 3) مرة أخرى إلى نفس الحامل في الحاضن بجوار البيضة الثالثة والتي لم تتعرض إلى الصوت. وبالمثل تم أخذ بيضتين من المجموعة الضابطة أربع مرات في اليوم في صندوق منفصل كالأخرى ولكن إلى صندوق خالي من تلك الأصوات ثم إعادتها مرة أخرى إلى نفس الحامل في الحاضن بجوار البيضة الثالثة والتي لم تتعرض هي الأخر لأي صوت. وبذلك تعمد فريق البحث وضع البيض الذي تعرض للأصوات المنبهة للخطر بجوار الأخرى التي لم تتعرض لتلك الأصوات.
وبفحص البيض، وجد أن التي تعرضت للأصوات الدالة على الخطر حدث لها اهتزازات أكثر من الأخرى، ليس هذا فحسب، بل إنها فقست في وقت أسرع من البيض الآخر في الحاضن الذي لم يتعرض للأصوات نهائيا. ولكن العجيب أن البيضة المحددة (الكنترول) والمجاورة للبيضتين اللتين تم تعريضهما للصوت سلكت نفس السلوك لزميلاتها التي تعرضت للصوت. بالإضافة إلى ذلك، تشابه نمو الثلاثة فروخ من البيضات الثلاث بعد الفقس. كما وجد أن الثلاثة فروخ بما فيها تلك التي لم تتعرض للصوت في نفس الحامل كان لديهم نسب عالية ومتشابهة من هرمونات القلق وكذلك عدد أقل من الأحماض النووية في المايتوكوندريا المهمة في انتاج الطاقة، وكذلك صغر في حجم عظمة الرجل. أما الفراخ الأخرى في الحاضن الآخر التي لم تتعرض لا هي ولا جيرانها للصوت فكانت طبيعية تماما.
وتدل هذه التجربة البسيطة ولكنها الذكية جدا في تصميمها أن أجنة الفراخ تتواصل مع بعضها البعض عن طريق الإهتزاز حيث تقوم تلك التي تعرضت للخطر بتنبيه زميلاتها والتي لم تسمع صوت الخطر لتستعد للخطر القادم شريطة أن تكون مشاركة لها في الجوار. وبالطبع هذا الإستعداد مكلف جدا للجنين حيث يؤدي الخوف والقلق والاستعداد له إلى اضطراب في انتاج الطاقة وسرعة النمو منتجا خللاً في الوظائف الفسيولوجية والتشريحية.
وتطرح هذه التجربة الرائعة السؤال، ما إذا كان من الممكن أن تؤثر العوامل البيئية بطريقة مباشرة على الأجنة والتواصل فيما بينها في حالة التجاور ومدى تأثير ذلك على السلوك الإجتماعي للأفراد بما فيها الإنسان والحيوان، وبالتالي على وظائفه وتشريحه من دون التأثير على تركيب جيناته.
وهكذا نرى أن الفطرة التي أودعها الله في خلقه حتى ولو كان مجرد جنين في بيضة، لها من الذكاء والحكمة التي تمكنها من التواصل والتحاور من أجل البعد عن الخطر وحماية بعضها البعض خوفا على العشيرة.
حقاً، دعونا نتعلم من الكائنات الصغيرة لنفهم ما لا نستطيع أن نفهمه من خلقنا.
المرجع:
البريد الإلكتروني للكاتب: mohamedlabibsalem@yahoo.com | Mohamed.labib@science.tanta.edu.eg