شقيٌ أم سعيد؟.. يتمنى جميع البشر أن يكونوا سعداء، ويبحث الجميع عن السعادة بكل ما أوتي من قوة، ويتخيل البعض أن السعادة تكمن في العائلة، أو في الثروة، أو في السلطة، أو في الحب. يقول "دالاي لاما" إن «هدف حياتنا أن نكون سعداء». ويذكر الروائي الروسي ليو تولستوي «إن كنت تريد أن تكون سعيداً، فكن». بينما يردد الشاعر الفرنسي "جاك بريفير" «إن كانت السعادة نسيتك بعض الشيء.. فلا تنسها ». ويقول "آينشتاين": «إذا كنت تريد أن تعيش حياة سعيدة، حاول أن تربط سعادتك بهدف، وليس بأشخاص أو بأشياء». يقول الفيلسوف الأمريكي "جون مورِّل": "إن الضحكة البشرية الأولى ربما تكون قد صدرت تعبيراً عن الارتياح لزوال خطر ما".
فأين تكمن السعادة، هل هي شعور بالرضا، أم هي شعور نفسي مستقر في الدماغ، أم هي مسألة وراثية، أو قدر حتمي تحمله الجينات الوراثية! يبحث العلماء، اليوم، عن مصدر السعادة، وأين تختبئ، فهل هي تكمن في جيناتنا، أو في الخلايا أو في الدماغ؟.. وما هي تأثيرات الشعور بالفرح على الجسم؟ ولماذا يعتبر الإنسان الكائن الوحيد القادر على الشعور بالفرح؟ وجد العلماء أن الرابطة ضعيفة بين السعادة وبين ما يعتقد معظم الناس أنه يجلب السعادة ومن ذلك المال، فدخل الألماني ضِعْف دخل الأيرلندي، لكن الأيرلنديين أسعد، أما اليابانيون وهم من أكثر شعوب العالم ثراءً فكانوا من بين الدول الأقل سعادة. وتكشف الدراسات العلمية أن الأشخاص الذين يربحون جائزة «اللوتو» يشعرون بالسعادة لأشهر فحسب. ويعودون بعدها للحالة السابقة.
ينطبق الأمر عينه، وفق علماء ألمان، على المتزوجين الذين يشعرون بسعادة لفترة معينة، ثم يعودون بعدها إلى الحالة السابقة. ووفق بعض الدراسات العلمية، فإن أحداث الحياة ليس لها سوى أثرٍ متواضع وعابر على الشعور بالسعادة عند الأفراد. إذ يُظهر الباحثون أن نسبة 10 في المئة فقط من فوارق الشعور بالسعادة بين الأشخاص تعود إلى متغيرات الحياة وظروفها، «وكأن الأشخاص لديهم معدل ثابت من السعادة يعودون إليه نسبياً مهما فعلوا» وفق "دانيال نيتل" المتخصص في السلوكيات في جامعة «نيوكاسل» البريطانية، وكأن السعادة لا تكمن في واقع حياتنا، بل يجب البحث عنها في أعماق ذواتنا. أثبتت بعض الدراسات العلمية أن "المزاج الطبيعي" للإنسان يأتي من الداخل لا من الخارج، وأن "النقطة المرصودة" وهي نقطة حظ الفرد من السعادة، تمثل المستوى الثابت، طويل الأمد من السعادة، الذي يعود إليه "المزاج الطبيعي" للإنسان، لا محالة، مهما تأرجح هذا المزاج بين الفرح والحزن.
علم السعادة
تتعدد المفاهيم التي وضعت حول مفهوم السعادة، فمنهم من عرّفها على أساس بيولوجي بحت أي على أنّها تنتج عن هرمون معين في الجسم يُطلق عليه اسم هرمون السعادة، ومنهم من يرى أنها تتعلق بالحالة المزاجية للشخص والتي تتأثر بشكل مباشر بالعوامل الخارجية، كتأثير الآخرين والظروف المادية والعائلية والاستقرار العام في الحياة. ويقصد بمصطلح السعادة بمفهومها العام: أنها ذلك الشعور الداخلي بالبهجة والسرور، بحيث ينعكس على الحالة النفسية والمزاجية للشخص، مما يجعله ينظر بشكل إيجابي للحياة وللأشياء، أي أنّه عبارة عن ذلك الإحساس الذي يعتبر مضاداً للحزن والكآبة، وبعيداً كل البعد عن التشاؤم والمشاعر والطاقات السلبية.
ويعد كتاب " التفسير العلمي للسعادة والضحك والنوم " للراحل الدكتور أحمد مستجير، أحد الكتب المثيرة في مجال دراسة الظواهر السلوكية الإنسانية بأسلوب علمي متأدب، ويستهل الدكتور مستجير كتابه بالبحث عن إجابة لسؤال مهم، هو: هل السعادة نتيجة سعي إنساني أم نتيجة تركيبة المخ والأعصاب؟ ثم ينطلق إلى آفاق المعطيات العلمية في هذا الشأن؛ فيعرف السعادة أولاً بأنها "إحساس بالغبطة الحقيقية طويلة الأمد" وأنها "ليست ضحكة طيبة، أو لهواً قصيراً، أو سروراً زائلاً، ليست بضع لحظات هانئة نقضيها قبل أن نعود إلى الحياة القاسية"، ومن ثم يلفت نظر القارئ إلى وجود اتجاهات علمية حديثة، ترصد الأسباب العلمية والبدنية والوراثية لتحقيق السعادة، من خلال التركيز على مركبات المخ ومكوناته التي يمكن التأثير عليها عن طريق الأدوية والعقاقير.
وفي هذا الإطار يأتي ذكر الفيلسوف والسيكولوجي الكبير "ويليام جيمس" الذي يؤكد أن السعادة قديماً كانت النتيجة المباشرة للعمل الشاق والقرارات الحياتية الصائبة، وأن أي اقتراح بوراثية أو بيولوجية السعادة كان كفيلاً بوصف صاحبه بالـ " أبله " أو الـ " وغد ". ويذكر الدكتور مستجير أن بدايات إخضاع السعادة لمؤثرات العلوم تمثلت فيما أورده "ألدوس هكسلي" عام 1931 في روايته الشهيرة "عالم جديد شجاع" عندما تخيل فيها العالم بعد ستمئة عام، وتنبأ بالكثير من المشكلات، من بينها عقار بلا آثار جانبية أسماه "صوما" يخلص الإنسان من الكرب والألم وفراغ الحياة في مجتمع طبقي مفرط في تكنولوجيته مفلس في روحانيته، والغريب أن "هكسلي" فوجئ بحدوث تطورات علمية في مجاليّ "الوراثة" و "علم العقاقير" فأدرك إمكانية تحوير الطبيعة الإنسانية وراثياً قبل الولادة، وأن انفجاراً معرفياً في مجال عمل المخ سيمكننا في النهاية من تغيير الطبيعة البشرية بعد الولادة بتخليق عقاقير تناغش آلية المخ الرهيبة المراوغة.
تمت تجارب عديدة عن تأثير العقاقير في إحداث السعادة المنشودة استخدمت فيها عقاقير ومضادات اكتئاب مثل "إيبرونيازيد ـ بروزاك ـ زولوفت ـ ريمرون ـ سيرزون"، حتى أن عقار "بروزاك" مثلاً وصف عام 1997 لأكثر من 34 مليون أمريكي، وأن استخدام مضادات الاكتئاب لجلب "السعادة" غدا أمراً جائزاً ومنطقياً وأخلاقياً، حتى ممن لم يكن يشخّص كمريض، نتيجة التحول الثقافي، ومعه التقدم المذهل في مجالي بحوث المخ والعقاقير، وبفعل ضبابية الحدود بين التعاسة "الإكلينيكية" و "التعاسة العادية". وقد يعود عدم القدرة على الإحساس بالسعادة والشعور بالفرح لأسباب بيولوجية بالفعل، عند الأشخاص المصابين بحالات الاكتئاب الشديد، وببعض الأمراض النفسية مثل الفصام؛ حيث يكونون غير قادرين على التعبير عن مشاعر إيجابية، ولا عن مشاعر سلبية.
جينات السعادة
على مرّ الزمن، ركز الباحثون على الجينات المتعلقة بالاكتئاب والقلق أكثر من تلك المتعلقة بالسعادة باعتبار أن السعادة ليست مرضاً، وبالتالي لا تثير اهتمام البحث الطبي. ويعتبر بعض العلماء أن البحث عن جينات السعادة تافهاً، وإضاعة للوقت، إذ تتشابك عوامل عدة: ترتبط مادة «الدوبامين» بحب التجدد، ومادة «السيروتونين» بالميل للهروب من الخطر، وهرمون «نورادرينالين» بالتعلق بالمكافأة، ولكن ترتبط هذه الأنظمة بجينات متعددة. وكانت دراستان نشرتا في العامين 2009م و2013م قد اقترحتا أن جين DISC1 يؤثر على الشعور بالمتعة عند تفاعلنا مع الآخرين. في حين أن الأشخاص الأكثر عرضة لحالات عدم الشعور بالسعادة يكون لديهم عادة طفرات في هذا الجين.
ويفضل المتخصصون بعلم النفس التكلم عن شخصيات تتأثر بالبيئة المحيطة، فتشعر بحزن عندما يصبح المحيط غير مرغوب فيه، أو بسعادة عندما تتحسن الظروف المحيطة. وتقوم المفوضية الأوروبية منذ منتصف السبعينات بقياس مقدار سعادة الأوروبيين، ويتكرر في استطلاعات الرأي حصول الدنماركيين على المرتبة الأولى في قائمة الشعوب الأكثر سعادة ليس في أوروبا فحسب، بل وعلى المستوى العالمي. وعندما سألت المفوضية الأوروبية في عام 2008م مواطني الاتحاد الأوروبي عما تتوقف عليه سعادتهم فقالت أغلبية المواطنين إن الصحة هي أهم شيء. لكن الدنماركيين وحدهم ذكروا أن الشيء الأهم بالنسبة لسعادتهم هو الحب. وفي عام 2011م قامت مؤسسة ألمانية بسؤال مواطنين من 13 دولة عن نظرتهم إلى المستقبل، فحل الدانماركيون في المرتبة الأولى بفارق كبير حيث قال 96 في المائة منهم إنهم سعداء بحياتهم. وعندما نشرت الأمم المتحدة لأول مرة عام 2012م تقريرها عن السعادة في العالم جاء الناس في أفريقيا كأقل البشر سعادة، بينما كان الناس في شمال أوروبا الأكثر سعادة، أما الأسعد على الإطلاق في العالم فكان الدنماركيون أيضا، وتكررت نفس النتيجة عام 2013م. وأكدت استطلاعات الرأي أنه لا يوجد شعب أكثر سعادة من الشعب الدنماركي، وهناك محاولات عديدة لمعرفة سر السعادة وبشكل خاص سر سعادة الدنماركيين. وجاءت التفسيرات بأن الأسباب تكمن في الرفاهية التي يتمتعون بها، والرعاية التي يلقونها من دولتهم، وكذلك تصالحهم مع أنفسهم وتسامحهم مع غيرهم.
أراد باحثون من مركز جامعة وارويك معرفة السر الذي يكمن وراء السعادة التي يحظى بها سكان الدنمارك، وتفوقهم على دول أوروبية مماثلة عالية الناتج المحلي الإجمالي بانتظام في التمتع بالسعادة، ووجد الباحثون أنواعًا عديدة من الأدلة تشير إلى مستويات عالية من الرضا عن الحياة قد لا تكون مرتبطة بمستوى المعيشة، وإنما ترتبط أكثر بالجينات الوراثية. وأضاف اثنان من العلماء البريطانيين بجامعة وارويك هما "أويجينيو بورتو" وزميله "أندرو أوسوالد" إلى تلك التفسيرات نظرية جديدة تقول إن الدنماركيين يتمتعون بجينات مختلفة. فهل يرجع ذلك إلى حياة الرفاهية والرعاية الاجتماعية والتصالح مع الذات لدى الدنماركيين، أم أن الأمر يعود لجينات محددة لديهم، كما يزعم الباحثان البريطانيان؟
قام "بورتو" و"أوسوالد" بتأليف كتاب سجلا فيه نتائج أبحاثٍ أجرياها على شعوب 143 دولة. ونظرًا لعدم وجود معلومات كافية عن الخارطة الجينية لكل شعب من تلك الشعوب على حده، قام الباحثان البريطانيان بمقارنة جينات تلك الشعوب مع جينات الدنماركيين، وخرجا بنتيجة أن البلد الذي لا يشعر شعبه بالسعادة يوجد فارق كبير في الجينات بينه وبين جينات الشعب الدنماركي، حسب زعم الباحثين. الجزء الأول من الأدلة كان يعتمد على قياس "المسافة الجينية بين البلدان"، حلل فيها الباحثون بيانات عالمية ضمت أكثر من 131 دولة، مع دراسة عوامل مؤثرة في كل بلد مثل إجمالي الناتج المحلي والثقافة والجغرافيا والدين ورفاهية الدولة. وقام الباحثان بدراسة فاحصة لما يعرف بهرمون السعادة؛ السيروتونين (5-هيدروكسي التريبتامين) المعروف اختصارا بـ (HT-5). وهو مادة كيميائية داخل المخ تعمل على تحسين المزاج العام، وهذا الهرمون له شكلان جينيان مما يعرف بالأليل Allele، فإما أن يكون هذا الأليل طويلا أو قصيرا. وتوجد نظريات بأن أصحاب الأليل القصير معرضون بشدة للإصابة بالاكتئاب.
قام الباحثان بإجراء اختبارات في 30 دولة وكانت النتيجة أن من قالوا إنهم غير سعداء يحملون أليلاً قصيرا، أما الدنماركيون فكانت نسبة قليلة منهم تتمتع بأليل قصير. فكلما قصُر طول هذا الجين، ازدادت العصبية، وانخفض مستوى الرضا عن الحياة، وكلما ازداد طوله، ارتفع مستوى الرضا عن الحياة وازدادت السعادة. وقد وجدت الدراسة أن نسبة الجينات القصيرة متدنية لدى شعب الدنمارك والشعب الهولندي. وبحثت الدراسة أيضا في بيانات المهاجرين في الولايات المتحدة لمعرفة ما إذا كان الارتباط الوراثي بالسعادة يستمر على مدى الأجيال، ووجدت الدراسة أن مستويات سعادة الأشخاص في الولايات المتحدة ترتبط مع مستويات السعادة في بلدهم الأصلي. وكانت النتائج مدهشة، حيث وجد الباحثون أنه كلما زادت المسافة الجينية بُعدًا عن الدنماركيين، كلما انخفضت معدلات السعادة والرضا عن الحياة. بمعنى آخر أنه كلما ازداد الاقتراب الجيني بين شعب دولة ما وشعب الدنمارك، كلما ازدادت سعادة هذا الشعب.
وأشار الباحثون إلى أن هذه النتائج "يجب أن تعامل بحذر"، وقال العلماء يجب القيام بمزيد من العمل لفهم أسباب الرفاهية على المستويات الدولية. وحسب صحيفة "زود دويتشه" فإن الباحثين البريطانيين ينبهون إلى وجوب التعامل بحرص مع فرضيتهم. ونقلت عن "بورتو" قوله "إننا لسنا متأكدين بنسبة مائة في المائة من وجود علاقة بين الجينات الوراثية والسعادة. وأظهرت نتائج دراسة أخرى قام بها فريق من الباحثين في جامعة ميتوستا الأمريكية، أن السبب في إحساس البعض بالسعادة أكثر من غيرهم قد يرجع إلى الجينات، فهي المسئولة عن نسبة تتراوح ما بين 50% إلى 80% من تذبذب مستوى الإحساس بالسعادة عند الأفراد الذين قامت عليهم الدراسة، أما بقية النسب فترجع إلى العوامل الاجتماعية المحيطة بالفرد في حياته، سواء كان الإحساس بالحب أو كثرة الأصدقاء المخلصين أو التمتع بالصحة أو التوفيق في العمل. وتُظهِر الدراسات العلمية، التي أُجريت على التوائم المتشابهة الذين يمتلكون الجينوم نفسه والمعلومات الوراثية ذاتها، أن لديهم الميل عينه للشعور بالسعادة مهما اختلف مسارهم الشخصي، وكما أن معدل الشعور بالفرح شبه محدد منذ الولادة.
على مدار 80 عاما هي عمر دراسة أجريت في جامعة هارفارد الأميركية، توصل باحثون إلى ما يعتقد أنه أهم أسباب السعادة. وبدأت الدراسة عام 1938، في ذروة الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم وعرفت باسم "الكساد الكبير"، وأثبتت وجود رابط قوي بين العلاقات بالأصدقاء والسعادة، وما يترتب على ذلك من تحسن الحالة الصحية. وتوصلت الدراسة إلى أن الأصدقاء الجيدين لعبوا دورا في حماية الناس من التدهور العقلي والجسدي، مقارنة بالطبقة الاجتماعية ومستوى الذكاء. وحسب الدراسة التي تعد واحدة من أطول الدراسات التي تشمل البشر في العالم، فإن "الأصدقاء الجيدين" أكثر مدعاة للشعور بالسعادة، مقارنة بالمال والنجاح، وأن: "الاكتشاف المفاجئ هو أن علاقاتنا وسعادتنا بها لديها تأثير قوي على صحتنا أيضا. الاعتناء بالجسد مهم، لكن الاعتناء بالعلاقات نوع من الاهتمام بالنفس أيضا". وبغض النظر عن الجينات التي يمتلكها الفرد، يحتفظ كل منا بفرصته لإيجاد السعادة، يؤكد الباحثون أن عوامل الحياة الخارجية وتوافر الشروط التي تفضي إلى السعادة يمكن لها أن تعدل في الجينوم ما يجعل السعادة أكثر يسراً، مثل أثر ممارسة الرياضة على التغيرات في سلسلة الحمض النووي، فضلا عن التغيرات فوق الوراثية.
البريد الإلكتروني للكاتب: tkapiel@sci.cu.edu.eg | http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel/